بعد شهر من سقوط نظام المخلوع بن علي، حصل آلاف التونسيين – ممن كانوا في السجن أو المنفى بناءً على طابع سياسي وأيديولوجي – على عفو تشريعي عام صادر عن الرئيس المؤقت حينها فؤاد المبزع، يتمتعون بمقتضاه بحريتهم وكرامتهم ويستردون حقوقهم القضائية والمهنية والمالية.
عبد الرزاق بورقيبة، أحد التونسيين المتمتعين بالعفو، ما إن أمسك تلك الورقة بيده حتى ظن أن أبواب السماء فُتحت له، وأن ظلم السلطة انتهى وولى زمانه، وحان الوقت كي ينعم بحريته ويعلم المعنى الحقيقي للعيش بكرامة بعيدًا عن ملاحقات السلطة الأمنية.
“شباب الإنترنت”
حصل هذا بالفعل، فما إن تمتع عبد الرزاق بالعفو، حتى حصل على جواز سفر بعد منع طال سنوات، وسافر إلى المغرب ضمن جمعية شبكة الديمقراطيين في العالم العربي، حيث شارك بمشروع موقع الذاكرة التونسية لسنوات الجمر.
أكمل بورقيبة دراسته أيضًا وحصل على شهادة مهندس في الإعلام، كما عمل في وزارة التعليم العالي في البداية ثم نُقل قبل 3 سنوات إلى وزارة الفلاحة والصيد البحري للعمل هناك كمهندس إعلامي.
يقول عبد الرزاق بورقيبة لـ”نون بوست”، إن حياته بعد الثورة كانت مميزة، فلا مكان فيها للمضايقات ولا للمتابعة الأمنية، ما أنساه قليلًا التعب النفسي والمادي الذي تعرض له لعدة سنوات في أثناء حكم الرئيس المخلوع بن علي.
اعتمد نظام بن علي لاستدامة نظام حكمه على أساليب عديدة، منها تشديد الرقابة على الإنترنت وحجب كل المواقع التي كانت تنتقد نظام الاستبداد
نعود قليلًا إلى الوراء، إلى سنة 2003، للحديث عن القضية التي حُوكم من أجلها عبد الرزاق بورقيبة زمن بن علي، التي عُرفت بقضية “شباب الإنترنت”، فكانت تهمة عبد الرزاق و7 من شباب مدينة جرجيس الوحيد أنهم يزورون مواقع إنترنت إسلامية.
ألقت السلطات التونسية القبض عليهم بتهمة الإرهاب، واتهموا بـ”تكوين مجموعات لإرهاب العامة والعداء تجاه الأفراد بنية إرهابهم وعقد الاجتماعات دون إذن والسرقة ومحاولة السرقة وإعداد متفجرات وحيازة مواد بنية إعداد متفجرات”، إلا أن العديد من المنظمات الحقوقية قالت حينها إن جميع التهم “كيدية” والنيابة لم تقدم أي دليل ضد المتهمين.
يوم 17 من أبريل/نيسان 2004، حكمت محكمة الأحداث على عبد الرازق بورقيبة بالسجن لمدة 25 شهرًا، لصغر سنه، فيما حكمت على ستة آخرين بالسجن لمدة 19 عامًا، أما الثامن فقد حُكم عليه بالسجن 26 عامًا لاتهامه أنه زعيم المجموعة.
وسبق أن أكد رئيس هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين خلال جلسة استماع علنية لضحايا الاستبداد، عُقدت في مارس/ آذار 2017، وخصِصت لعرض شهادات متعلقة بانتهاكات حرية الإنترنت، أن الكثير من المدونين وعائلاتهم تعرضوا خلال عهد المخلوع لمضايقات عديدة وكثيرة، فقد كان المخلوع يفرض رقابة شديدة على شبكات الإنترنت.
يذكر أن نظام بن علي اعتمد على أساليب عديدة، لاستدامة نظام حكمه، منها تشديد الرقابة على الإنترنت وحجب كل المواقع التي كانت تنتقد نظام الاستبداد والفساد الذي كان يتزعمه رأس النظام، وقد صنِفت تونس في عهده من أكثر دول العالم حجبًا للمواقع وتضييقًا لحرية التعبير على الشبكة العنكبوتية.
العديد من المنظمات والشخصيات الحقوقية قالت إن محاكمة شباب جرجيس قامت على أساس اتهامات باطلة وادعاءات غير دقيقة بتنفيذ مخططات ما، علاوة على ذلك فإن السلطات همشت حقوق محامي الدفاع بشكل منظم، كما أنها انتزعت اعترافات من الشباب تحت التعذيب.
في فبراير/شباط 2005، أُطلق سراح عبد الرزاق، لكن معاناته لم تنتهِ، فيقول لـ”نون بوست” إنه تعرض لتحرشات أمنية ومنع من مغادرة مدينته كباقي “شباب الإنترنت”، الذي أُلزم بعضهم بالذهاب يوميًا للتوقيع في قسم الشرطة بالمدينة وفقًا لإجراءات الإفراج.
متهمون من دون قضايا ومحاكمات دون قضاء
بعد حصوله على العفو العام، تمتع عبد الزراق بورقيبة كما قلنا بقليل من الحرية، لكن الأمر لم يتواصل على تلك الحالة طويلًا، فالممارسات البوليسية نفسها عادت، بل أشد وطأةً، ما جعله في حالة نفسية صعبة أثرت على عمله وحياته العائلية.
يقول بورقيبة لـ”نون بوست” إنه يتعرض لمضايقات كثيرة في الفترة الأخيرة من عناصر أمنية بالمدينة، أسوة ببعض الأشخاص المتمتعين بالعفو العام أيضًا، فرئيس فرقة الإرشاد بجرجيس استدعى كل شخص له ملف أمني عند الفرقة المذكورة حتى لو كان الملف منذ 20 سنة، كما استدعى أيضًا عشرات البسطاء وطلب منهم طوعًا أو كرهًا رفع بصماتهم وتصويرهم.
لم يكتفِ المسؤول بذلك، بل تمادى وفق قول عبد الرزاق إلى أخذ عينات الحمض النووي للبعض منهم في إجراء غير قانوني، كباقي الإجراءات في غياب الأذون القضائية، كأن الوضع أصبح بمثابة “محاكم التفتيش”، وفق وصف محدثنا.
يأمل الشاب عبد الرزاق بورقيبة أن يتم إنصافه مجددًا، وتتوقف المتابعات الأمنية ضده حتى ينعم بحياة كريمة في بلده الذي أحبه
ويضيف عبد الرزاق إنه تم الاتصال به عبر الهاتف للذهاب إلى مركز الشرطة، فرفض ذلك وطلب تزويده باستدعاء رسمي، فهدده أمنيٌ إن لم يأتِ على الحال سيتم مداهمة بيته. يذكر أنه في تونس يمنع القانون استدعاء أي كان لمركز الأمن عن طريق الهاتف، والطريقة الوحيدة للاستدعاء تكون عبر استدعاء رسمي.
تحسبًا لأي تهم كيدية أو تلفيقات ممكن أن تصدر عن فرقة الإرشاد، رفع عبد الرزاق قضية من أجل التهديد لدى وكيل الجمهورية بمحافظة مدنين، فالأمر مريب وخطير جدًا وفق قوله، لذلك عليه أن يحتاط ويلجأ إلى القانون لإنصافه أمام كيد بعض الأمنيين.
يرى عبد الرزاق بورقيبة أن الهدف من استدعائه واستدعاء بعض الشباب إلى فرقة الإرشاد، هو أخذ عينات من الحمض النووي ورفع البصمات دون إذن قضائي، وهو ما قد يؤول إلى أحد سيناريوهَين لا ثالث لهما: إما أن تكون وزارة الداخلية على علم وهذا تجاوز لا يغتفر في حقها، وإما أن هناك أطرافًا تتخابر بهذه المعطيات دون غطاء وزارة الداخلية، وفق قوله.
يؤكد عبد الرزاق بورقيبة في حديثه لـ”نون بوست” أن سياسات نظام بن علي الأمنية عادت، حتى أصبحت حياته في خطر، فهو لا يأمن على نفسه، ويخشى أن تلفَق له تهم كيدية كما كان معمولًا به قبل الثورة، نتيجة عدم استجابته لتهديدات فرقة الإرشاد بمدينته.
يأمل الشاب عبد الرزاق بورقيبة أن يتم إنصافه مجددًا وتتوقف المتابعات الأمنية ضده حتى ينعم بحياة كريمة في بلده الذي أحبه رغم كل التضييقات والانتهاكات التي تعرض لها هناك قبل الثورة وبعدها، فحقوق الإنسان ليست مجرد شعار يُرفع في المناسبات، بل مبدأ وقع تفعيله وتنزيله على أرض الواقع حتى ينعم كل التونسيين بالحرية والعيش الكريم.