جاءت زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني إلى بغداد، والتي استمرت ليومين، مترافقة مع إعلان بغداد وواشنطن بدء الجولة الثالثة من جولات الحوار الاستراتيجي بينهما، والتي كانت قد بدأت منذ يونيو/ حزيران الماضي، من أجل التوصل لصيغة نهائية لطبيعة العلاقات العراقية الأميركية، وتحديدًا فيما يتعلق بمستقبل الوجود الأميركي في العراق.
هذه الخطوة جاءت تكرارًا لزيارة سابقة له قبل بدء الحوار الاستراتيجي العام الماضي، وهي زيارة تعكس طبيعة الاهتمام الإيراني بمخرجات الحوار الاستراتيجي العراقي الأميركي، خصوصًا في الشق المتعلق بإيران. حيث إن الحوار يستهدف في أحد جوانبه، مناقشة الوجود الأميركي في العراق، وهو وجود ترفضه إيران بأي شكل من الأشكال، بل يمكن القول إن إخراج القوات الأميركية من العراق، أصبح استراتيجية معلنة للنظام الإيراني بعد مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، حيث اعتبر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وجنرالات الحرس الثوري، أن إخراج القوات الأميركية من العراق، هو أبلغ رد على اغتيال سليماني، وعلى هذا الأساس جاءت زيارة قآني إلى بغداد لتؤكد هذه الحقيقة.
زيارة سرية تستبق الحوار
كان لافتًا استباق قآني جولة الحوار بزيارة العراق، إذ كشف التلفزيون الإيراني عن أن قائد فيلق القدس اختتم يوم الثلاثاء زيارة إلى العراق، التقى خلالها كبار المسؤولين العراقيين والشخصيات ورؤساء الأحزاب والفصائل السياسية، وأن الزيارة استمرت يومين بحثَ فيها قآني سبل تعزيز العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، حيث أن قآني لم يلتقِ برئيس الوزراء أو أي من القيادات الحكومية، ولقاءاته كانت فقط مع زعماء فصائل مسلحة وشخصيات سياسية، وأن الزيارة لها علاقة بجلسة الحوار العراقي الأميركي، إذ تضغط إيران باتجاه دفع حكومة مصطفى الكاظمي للطلب رسميًا من واشنطن الانسحاب من العراق.
وعلى هذا الأساس، تأتي زيارة قآني لبغداد في إطار رسم الحوار العراقي الأميركي، عبر توضيح المطالب الإيرانية من هذا الحوار، وهي أطر رسمتها إيران سابقًا، عندما تفاوض العراق مع الولايات المتحدة حول الاتفاقية الأمنية في عام 2008، حيث لم تأتِ الموافقة الإيرانية على تلك الاتفاقية الأمنية، إلا بعد تعهدات قدمها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي لإيران، بأنه سيكون حريصًا على عدم تضمين الاتفاقية أي بند يبيح للولايات المتحدة استخدام الأراضي العراقية في مهاجمة إيران.
الحكومة العراقية شكلت لجنة خاصة لجدولة انسحاب القوات الأميركية، برئاسة وزير الخارجية
وهو ما أكد عليه قآني في زيارته الأخيرة، حيث ركزت الاجتماعات المتعددة التي عقدها في بغداد وسامراء والنجف، على أهمية تضمين أي اتفاقية تخرج عن هذا الحوار، عدم استخدام الأجواء العراقية من قبل الولايات المتحدة ضد إيران، وثانيًا أن لا يستثني أي جدول يتم وضعه لانسحاب القوات الأميركية من العراق، أي قاعدة أو منطقة في عموم العراق، أي أن يكون انسحابًا كاملًا وليس جزئيًا.
هذه المطالب الإيرانية التي عبر عنها قآني، قد تشكل في جانب آخر مطالب مقابلة لإصرار الإدارة الأميركية على بحث النفوذ الإقليمي الإيراني ضمن أي صفقة مقبلة مع إيران، وبذلك تحاول إيران أن ترسل رسالة واضحة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، هي أن الإصرار على بحث النفوذ الإقليمي الإيراني، سيقابله انسحاب كامل للولايات المتحدة من العراق.
وفي هذا الإطار، أكدت لجنة الأمن والدفاع النيابية العراقية، إجراء الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، مبينة أن الحوار سيناقش الواقع الاقتصادي والتعليم والكهرباء، إلى جانب جدولة الانسحاب الأميركي من العراق، وأضافت أن “هناك عدة محاور على مستوى الحوار الاستراتيجي، أبرزها انسحاب القوات الأميركية من العراق، وفي الوقت ذاته فإن الحكومة العراقية شكلت لجنة خاصة لجدولة انسحاب القوات الأميركية، برئاسة وزير الخارجية وعضوية مستشار الأمن الوطني ورئيس أركان الجيش ومدير مكتب رئيس الوزراء”.
وتماشيًا مع ظروف بدء الحوار الذي أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أصدرت الفصائل الولائية بيانًا عبرت فيه عن تعليق الهدنة مع القوات الأميركية في العراق، في حال لم تأتِ نتائج الحوار كما تريد، وهو ما يشير إلى خشية حقيقية من تصعيد الهجمات ضد المصالح الأميركية في العراق، حيث أعلنت سرايا قاصم الجبارين عن استهداف رتل تابع للتحالف الدولي في بابل يوم 7 أبريل/ نيسان 2021، قبل ساعات من بدء الجولة الثالثة من الحوار، كما أنها حرصت على إرسال رسالة واضحة لحكومة الكاظمي بضرورة أخذ مطالبها على محمل الجد.
كما يذكر أن هناك هجومًا صاروخيًا سابقًا حصل يوم 3 أبريل/ نيسان 2021، على قاعدة بلد الجوية شمال محافظة صلاح الدين، بهدف الضغط على الحكومة العراقية لفرض الأجندة، من خلال توجيه ضربات مباشرة على أرتال الدعم اللوجستي للتحالف الدولي والقواعد الأميركية في البلاد.
بيئة حوارية معقدة وحاجات متبادلة
تدرك إدارة بايدن أن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة الكاظمي، قد يشكل مدخلًا لدور أميركي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصًا الالتزامات المتعلقة بسلامة قواتها العسكرية الموجودة في العراق، وتأمين مصالحها من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها في العراق، والأكثر من ذلك كله تدرك هذه الإدارة أهمية الضغط على العراق في اعتماد سياسات أكثر استقلالية عن إيران، إذ إن استمرار خضوع العراق للتأثير والنفوذ الإيرانيَّين، حجّم كثيرًا من فاعلية السياسات الأميركية حيال إيران، وهو ما استغلته إيران وتحاول الإبقاء عليه خلال الفترة المقبلة.
من المفترض أن هناك العديد من القضايا التي سيتم بحثها بين الطرفين عبر جولة الحوار الاستراتيجي الجديدة
والواقع إن العراق هو الآخر يتطلع إلى تحقيق العديد من الحاجات الاستراتيجية في الفترة المقبلة، فحكومة الكاظمي بحاجة إلى الحصول على التزامات استراتيجية من الولايات المتحدة، لمواجهة تحديات حقيقية في المرحلة المقبلة، أبرزها معالجة الاقتصاد المتهالك، وإبعاد شبح عودة تنظيم داعش، وتحييد العراق عن آثار الصراع الأميركي الإيراني، فضلًا عن تمكين العراق سياسيًا وعسكريًا لتحقيق المزيد من السيادة والاستقلالية في القرار السياسي.
ورغم استدارة حكومة الكاظمي نحو العمق العربي، إلا إن ذلك لن يحقق النجاح الكبير المرجو منه، دون أن يكون هناك دعم دولي وأميركي لهذه الخطوات.
وعلى هذا الأساس، من المفترض أن هناك العديد من القضايا التي سيتم بحثها بين الطرفين عبر جولة الحوار الاستراتيجي الجديدة، وفي مقدمتها استمرار الدعم الأميركي لمكافحة تنظيم داعش واحتواء نفوذ إيران وغيرها، والأكثر من ذلك بحث مستقبل الوجود العسكري الأميركي في العراق.
هل سيستمر هذا الوجود، أم سيكون تحت عنوان جديد متمثل بحلف الشمال الأطلسي؟ فالتموجات الكبيرة التي تمر بها العلاقات العراقية الأميركية اليوم، ستجعل من الحوار أو التفاوض صعبًا، وذلك بفعل المتغيرات الداخلية والخارجية المتحكمة في مسارات هذا الحوار، ومن ثم إن عملية الخروج بمخرجات واضحة تخدم العلاقات الثنائية بين البلدين، ستكون بحاجة إلى مزيد من التوافق والجرأة.