في ضوء زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، خفتت حدة الأصوات المطالبة بفرض عقوبات على تركيا، وطفت على السطح رغبة الاتحاد الأوروبي في تعزيز التعاون وزيادة وتيرة العلاقات ودعم الأجندة الإيجابية في العلاقات الثنائية، في وقت كان فيه التوتر سيد المشهد في العلاقات بين الطرفين.
تشهد منطقة شرق المتوسط صدامًا حادًا بين تركيا من طرف، واليونان وقبرص وفرنسا من طرف آخر، بخصوص موضوع التنقيب عن الغاز الطبيعي، حيث تتهم أنقرة كلًا من أثينا ونيقوسيا بمواصلة اتخاذ خطوات أحادية بخصوص مناطق الصلاحية البحرية حول جزيرة قبرص، بشكل يعتدي على حقوق ومصالح القبارصة الأتراك في الشق الشمالي من الجزيرة.
وتسعى اليونان بدعم فرنسي أوروبي، إلى محاصرة تركيا في مياهها الإقليمية، الأمر الذي ترفضه تركيا جملةً وتفصيلًا، من خلال إصرارها على موقفها حيال اتخاذ التدابير اللازمة ضد الخطوات أحادية الجانب من قبل اليونان وحلفائها، للحفاظ على حقوقها في المنطقة. وفي هذا الخصوص قال أردوغان إن “على الاتحاد الأوروبي أن يتخلص بسرعة من العمى الاستراتيجي وألّا يتصرف حيال شرق المتوسط حسب أهواء اليونان وقبرص الرومية”. وأوضح أن تركيا التي تمتلك أطول شريط ساحلي على البحر المتوسط، لا يمكنها أن تكتفي بمقعد المتفرج على التطورات في المنطقة.
ويذكر أن بروكسل خلال القمة التي عقدت بين 10 و11 ديسمبر/ كانون الأول 2020، قامت بفرض عقوبات محددة ورمزية بحق أنقرة، استهدفت أفرادًا وكيانات تركية مسؤولين عن عمليات المسح والتنقيب عن الغاز الطبيعي شرقي المتوسط.
منابع الخلاف بين الطرفين
ظهر الخلاف جليًا بين الطرفين عندما بدأت تركيا في السنوات القليلة الماضية الخروج عن توجيهات الدول الغربية، والتحرك في ملفات إقليمية ودولية بهدف الدفاع عن أمنها القومي ومصالحها الداخلية والخارجية. فمنذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أحبطت تركيا مشروع إنشاء كيان كردي يمتد من الحدود العراقية وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط في شمال سوريا، وذلك من خلال العمليات العسكرية التي خاضتها في مواجهة الفصائل الكردية المسلحة، والمدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية.
وفي عام 2011 وقّعت قبرص التركية اتفاقًا مع تركيا لترسيم جرفها القاري، ردًا على قرار قبرص الرومية ترسيم منطقتها الاقتصادية في شرق المتوسط بشكل أحادي في عام 2010، ومنذ ذاك الحين تجري تركيا عمليات تنقيب في المنطقة المحيطة بقبرص والقريبة من اليونان، باعتبارها شريكًا للقبارصة الأتراك ولحماية مصالحهم. وعلى الجانب الآخر، اعترضت قبرص الرومية واليونان على أعمال التنقيب التركية في المنطقة، الأمر الذي جرى اعتباره على أنه انتهاك لسيادتهما ومياههما الإقليمية، في الوقت الذي تؤكد به تركيا أنها تنقب ضمن حدود جرفها القاري.
رفضت أنقرة قرار الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على شخصيات وكيانات تركية ردًا على أنشطة التنقيب التي تقوم بها في شرق المتوسط، معتبرة أنه قرار منحاز وغير قانوني
ومع توقيع تركيا لاتفاقية الدفاع المشترك، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في يوليو/ تموز 2019، وجدت مدخلًا لتواجدها العسكري في ليبيا، ولعبت دورًا رئيسيًا في إفشال خطط حفتر للسيطرة على طرابلس المدعومة من قبل بعض الدول الأوروبية، كما أحبط الوجود التركي المشروع الفرنسي لإنشاء قاعدة عسكرية وسط ليبيا.
وردًا على التصعيد اليوناني والتهديدات الغربية لتركيا بقيادة فرنسا، أرسلت أنقرة في مايو/ أيار 2020 أسطولها البحري لحماية سفن التنقيب، كما بدأت عمليات تنقيب واسعة عن النفط والغاز في مناطق متنازع عليها مع اليونان، الأمر الذي كان سببًا في إشعال غضب دول الاتحاد الأوروبي، لتحاول فرنسا على إثره تمرير مشروع عقوبات ضد تركيا كان مصيره الفشل، بسبب ارتباك الموقف الأوروبي.
وكان للتقارب التركي الروسي نصيبًا بارزًا في زيادة حدة الخلاف بين الطرفين، خصوصًا بعد حصول تركيا على منظومة الصواريخ الروسية للدفاع الجوي (S-400)، الأمر الذي جرى اعتباره انتهاكًا مباشرًا لشروط الانضمام لحلف الناتو. والحلقة الأخيرة في مسلسل الخلاف بين الطرفين كان الدعم التركي لأذربيجان، والذي ساعد في استعادة جزء كبير من إقليم قره باغ المحتل من طرف أرمينيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، ليترجم ذلك على أنه محاولة تركية لتعزيز نفوذها في القوقاز.
فشل فرنسا في فرض عقوبات واسعة
اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل بين 10 و11 ديسمبر/ كانون الأول 2020، بهدف بحث مستقبل علاقات الاتحاد الأوروبي مع تركيا، في الوقت الذي كانت تمر به العلاقات بين الطرفين بأسوأ حالاتها، تزامنًا مع التصعيد الحاد بين تركيا وفرنسا بخصوص تعارض مصالح البلدين في ملفات دولية متعددة، أبرزها في ليبيا وسوريا وأذربيجان، كما شكلت قضية التنقيب عن الغاز شرق المتوسط أكبر التحديات التي تواجهها تركيا مع دول الاتحاد.
وقبيل عقد القمة، حاولت كل من فرنسا واليونان وقبرص حث دول الاتحاد على اتخاذ خطوات تصعيدية ضد تركيا، من خلال فرض عقوبات فعالة بهدف تقويض الاقتصاد التركي، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، حيث قرر قادة الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على أفراد وكيانات تركية فقط، وذلك على خلفية أنشطة التنقيب والمسح التي تقوم بها أنقرة في مناطق متنازع عليها في البحر المتوسط مع أثينا ونيقوسيا.
وبالمقابل، رفضت أنقرة قرار الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على شخصيات وكيانات تركية، ردًا على أنشطة التنقيب التي تقوم بها في شرق المتوسط، معتبرة أنه قرار “منحاز وغير قانوني”. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “القمة الأوروبية لم تلبِّ مطالب بعض دول الاتحاد لأن مطالبها لم تكن محقة”، وأضاف أن “البلدان الحكيمة في الاتحاد الأوروبي أحبطت مخططًا ضد تركيا عبر طرح مواقف إيجابية خلال القمة”.
تباين المواقف بين دول الاتحاد الأوروبي
ما أن تجتمع دول ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بغرض مناقشة فرض عقوبات على تركيا، يظهر حجم التباين في الآراء بشكل واضح وجلي بين دول وقادة الاتحاد، حيث إن لكل دولة رؤيتها الخاصة بكيفية التعاطي مع سياسات الحكومة التركية بحسب دوافع وأسباب كل دولة، فينحصر القرار بين جبهتين، جبهة تطالب بالتحلي بالصبر والمرونة تجاه أنقرة، مقابل جبهة تطالب بالردع والصرامة.
تعتبر تركيا الحليف الأكثر تضررًا من الفوضى والعنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط والأكثر تعرضًا لهجمات إرهابية
وبالمقابل، تدرك تركيا جيدًا حجم التباين في الآراء بين دول الاتحاد، الأمر الذي يتيح لها المناورة في عدة ملفات من أجل تعزيز دورها الإقليمي والدولي. كما تعي أهمية موقعها الاستراتيجي في حلف الناتو، بالإضافة إلى الدور المهم الذي تلعبه في حماية الدول الأوروبية سواء أمام التهديدات الإرهابية أو التوسع الروسي قرب حدود دول الاتحاد، بالإضافة إلى الدور البارز الذي تلعبه أنقرة في ملف اللاجئين، حيث تستضيف نحو 4 مليون لاجئ على أراضيها.
فمنذ انضمامها إلى حلف الناتو في 18 فبراير/ شباط 1952، وتمثل تركيا ثقلًا بارز الأهمية للتحالف، إذ تحتل المرتبة الثانية كأكبر قوة عسكرية داخل الحلف، وواحدة من أكثر الأعضاء إسهامًا في بعثات وعمليات الحلف. وتعتبر تركيا الحليف الأكثر تضررًا من الفوضى والعنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، والأكثر تعرضًا لهجمات إرهابية.
تراجع في حدة التهديدات
بحسب تصريح لوكالة رويترز، ونقلًا عن 4 دبلوماسيين أوروبيين؛ أن الرئيس الأميركي جو بايدن طالب بروكسل بعدم فرض عقوبات جديدة على تركيا، في القمة التي عقدت في شهر مارس/ آذار الماضي، وذلك بفضل المبادرات الدبلوماسية التي أطلقتها أنقرة هذا العام، بالإضافة إلى انفتاح أنقرة على الحوار مع نيقوسيا وأثينا في المسائل التي تتعلق بأعمال التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
وأكد مصدر أوروبي لوكالة الأناضول، أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يتشاركان الرؤية في بناء علاقات مع تركيا وفي شرق المتوسط، قائمة على المصالح المتبادلة. ويأتي تأكيد المصدر، بعد اللقاء الذي أجراه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل مع السفير الأميركي في أنقرة ديفيد ساترفيلد، قبيل لقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الثلاثاء.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقد في مقر بعثة الاتحاد الأوروبي بالعاصمة أنقرة، عقب لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الثلاثاء 6 مارس/ آذار، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، رغبة الاتحاد بتعزيز التعاون مع تركيا. وأضافت قائلة إن “تركيا أظهرت بشكل إيجابي رغبتها في تعزيز العلاقات، ونحن جئنا إلى تركيا لنحقق هذه الإضافة، وبحثنا مجالات التعاون التي تعود بالفائدة لكلا الجانبين”.
انحراف تركيا نحو محور روسيا والصين سيكون له عظيم الأثر على المصالح الأميركية والأوروبية في المنطقة
في الوقت الذي أكد فيه المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، أن الاجتماع مضى بشكل إيجابي، أضاف أن أردوغان أكد للمسؤولين الأوروبيين أن الهدف النهائي لبلاده من مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، هو العضوية التامة في صفوفه. وأشار قالن إلى أنه تم خلال اللقاء تناول ملفات عديدة، مثل تحديث اتفاقيتي الهجرة والاتحاد الجمركي، وإعفاء المواطنين الأتراك من شرط التأشيرة الأوروبية، والاتصالات بين الشعوب، والاستشارات السياسية رفيعة المستوى بين الجانبين.
في النهاية، إن طلب بايدن من الاتحاد الأوروبي تجميد العقوبات على تركيا، بالإضافة إلى الزيارة التي قام بها كل من رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس المجلس الأوروبي، مباشرة عقب انتهاء قمة قادة الاتحاد الأوروبي التي عقدت الأسبوع الماضي، هما أمران يعدان تطورًا مهمًا في العلاقات الغربية مع تركيا. وذلك لحاجة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى الدور التركي الفاعل في عدة ملفات دولية، أبرزها ليبيا وسوريا والقوقاز، وخوفًا من انحراف تركيا نحو محور روسيا والصين، الأمر الذي سيكون له عظيم الأثر على المصالح الأميركية والأوروبية في المنطقة.