يربط الكثير من العرب موريتانيا بالصحراء وحياة البادية الصحراوية، لكن في بلاد شنقيط أشياء جميلة أخرى، فعلى شواطئ المحيط الأطلسي نرى صورة أخرى للبلاد مغايرة تمامًا عن الصحراء، فهناك سكن شعب “الإيمراغن” البحر حتى لقّبوا برجال البحر -حيث عايشوا البحر منذ مئات السنين، واكتشفوا أسراره وكنوزه، واندمجوا في عالمه- يمارسون الصيد بوسائل بدائية ويتمسكون بأسلوب حياتهم التقليدي، دعنا نتعرّف إليهم في هذا التقرير.
حوض آرغين
يعيش بدو البحار الموريتانيون على شواطئ المحيط الأطلسي، حيث تقع جزيرة آرغين في الحوض الذي يحمل هذا الاسم جنوب منطقة الرأس الأبيض بأقصى شمال الساحل الأطلسي الموريتاني، قرب الحدود مع الصحراء الغربية.
هناك في تلك الجزيرة الصغيرة، التي توشح هذا الجزء من المحيط الأطلسي لتزيده جمالًا على جماله، يسكن شعب “الإيمراغن” الغامض الذي حيكت حوله قصص وروايات وأساطير ردّدها الابن عن أبيه عن جدّه، بعضها صحيح وبعضها من محض الخيال.
خلال عملية الصيد، يتميز “الإيمراغن” بطقوس غريبة، منها ضرب الموجات الشاطئية بالعصي مشكلين طابورًا هلاليًّا
تحيط بالجزيرة التي تبلغ مساحتها 12 كيلومترًا عدة صخور وشعاب مرجانية، وتزخر بتنوع شديد لكل أنواع الحياة كالطيور والكائنات البحرية المهددة بالانقراض، مثل عجول البحر الرهبان والدلافين الحائشة والمرجان الرمادي، وملايين الطيور المستوطنة والمهاجرة والموسمية.
أين وجّهت بصرك في تلك المنطقة تشاهد منظر قوارب الصيادين الموريتانيين، تداعب حوافَّ الماء وهي تسير في سكينة حينًا ويقذف بها الموج غاضبًا أحيانًا أخرى كذلك، فيما تسمع أذناك أصوات البحّارة والقوارب وشباك الصيد كأنها سيمفونية.
عروش وأكواخ
يسكن هناك حوالي 1500 شخص في ثماني قرى بدائية، ورغم انعزالهم عن العالم فهم يرحبون بالغريب ويفتحون له أبواب خيماتهم، حتى أنهم يسمحون للبعض بالانخراط في مجتمعهم، لكن بعد التثبت من هويته وسبب قدومه إلى هناك والاطمئنان له.
انعزالهم جعلهم يحافظون على نمط حياتهم التقليدي، فهم يعيشون في عروش وأكواخ قرب الشاطئ، يتم بناؤها من الأعشاب وأغصان الأشجار، وتصنع النساء مساكن تكون ذات ظل وارف، تمنع تسرب البلل مهما كان المطر غزيرًا.
المصالحة مع المحيط
تصالح شعب “الإيمراغن” مع المحيط الأطلسي، حيث يعيش هذا المجتمع المنعزل جغرافيًّا وثقافيًّا على البحر، فهم يفهمونه جيدًا ويخبرون تقلباته ويعرفون كيف يخرجون كنوزه من الثروات السمكية، ويتعايشون مع قسوة هذه الظروف بكل صبر وعزم.
يتعلم أبناء هذه المنطقة السباحة منذ الطفولة، إذ يقوم الأهل برمي الأطفال في الماء لعدة مرات حتى يتقنوا السباحة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصيد وإدارة دفة القارب، فمنذ الصغر يبدأ الطفل في تعلم صيد السمك وصناعة الزوارق والشباك، كما يرتكز أكل “الإيمراغن” غالبًا على صيد السمك المتوفر بكثافة في المحيط.
تصالُح “الإيمراغن” لم يكن مع المحيط والأسماك فقط، بل مع الدلفين الحائش والقرش أيضًا، فبينهم عملية تعاون كبرى أثارت انتباه بعض الباحثين في علمي الأحياء والأنثروبولوجيا. كما تصالحوا مع الطيور المهاجرة، التي ينطلق بعضها شتاءً من مناطق باردة في سيبيريا الروسية بحثًا عن الدفء على الشواطئ الأطلسية لموريتانيا، فهم في مصالحة تامة مع هذه البيئة الهادئة الغنية بالموارد.
ويقول “الإيمراغن” إن الدلافين تساعدهم في اصطياد الأسماك، فهي تحاصرها حتى تقع في الشباك، وتطاردها حتى المناطق القريبة من الشاطئ، كما تساعدهم في إنقاذ من يغرقون في البحر، لذلك هم في علاقة حميمية معها.
ليس هذا فحسب، فخلال مرضهم يستخدم شعب هذه المنطقة زيوت الأسماك لعلاج الأمراض، حيث يتخصص بعضهم في علاج الأمراض من خلال تناول وجبات من أنواع خاصة من الأسماك وزيوتها.
البحر والصيد.. محور الحياة
هذا الأمر جعل محور حياة “الإيمراغن” هو البحر والصيد، حيث يقضون معظم وقتهم في تحضير المواد وتجهيز القوارب، وبعد ذلك يقومون برفع السارية، للانطلاق في رحلتهم اليومية لصيد الأسماك، ويعتبر موطن “الإيمراغن” من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك، والأنواع البحرية الأخرى، ويصف سكان محليون هذه الثروة السمكية الغنية والمتنوعة بـ”بترول موريتانيا”.
يذكر أن شعب “الإيمراغن” أسس تجمعاته تماشيًا مع حركة السمك على الشاطئ، فنظرًا إلى معرفتهم بمواسم تحرك السمك ومواطن استراحته، أقاموا قراهم في مناطق قريبة من الشاطئ، سمّوها المصايد، وأصبح لكل منها مجاله الذي يمارس فيه الصيد، وذلك وفق مسافات يبدو أنها محددة وفق أعراف وتقاليد معينة.
تعد موريتانيا أكبر مصدّر عربي للأسماك بنحو 44% من إجمالي الصادرات العربية، حيث صدرت في عام 2018 نحو 900 ألف طن، بحسب وكالة “الأخبار” المحلية (خاصة)، كما أن نحو 95% من مجموع إنتاجها من الأسماك يصدر للاتحاد الأوروبي.
تعود غزارة الثروة السمكية في المنطقة، إلى كونها نقطة التقاء تيارات الكناريا الباردة القادمة من الشمال، والتيارات الدافئة القادمة من خليج غينيا، إلى جانب تيارات بحرية أخرى قادمة من جزيرة القديسة هيلينا بعرض المحيط الأطلسي.
في عملية صيدهم، يعتمد “الإيمراغن” على قوارب تقليدية يصنعونها بأنفسهم، ويرفضون حتى الآن الاستعانة بالزوارق الحديثة التي لها محركات تعمل بالوقود، ذلك أنهم يعتقدون أن سفن الصيد الكبيرة تستنزف الثروة السمكية، وتتسبب في تناقص أعداد الأسماك.
تتم عملية صنع القوارب بالاستعانة بألواح خشبية، تُنحت من جذوع شجر الأيك المنتشر في الصحراء، وتدهن بزيت السمك، وتجفف عدة أيام، ثم يتم شد بعضها إلى بعض بمسامير يجلبونها من المدن الكبرى على غرار العاصمة نواكشوط أو مدينة نواذيبو. يتولى الصياد صنع القارب الذي يصطاد به بنفسه، بمساعدة بعض الصيادين المختصين.
يمنع شعب “الإيمراغن” قدوم النساء إلى الشاطئ، لأن ذلك في اعتقاداتهم يغضب البحر غضبًا شديدًا
يختلف حجم القوارب المصنوعة باختلاف الغاية من صنعها، حيث توجد قوارب كبيرة الحجم ويبلغ طولها 9 أمتار، وهي خاصة بالصيد في عرض البحر، فيما توجد قوارب أصغر منها حجمًا ويبلغ طولها 4 أمتار وتستخدم للصيد على الشاطئ.
أما الشباك، فتصنع من مواد طبيعية تعتمد على عراجين شجر الرتم التي تنبت في الصحراء، ويقوم بإحضارها عادة مجموعة من الشباب يُطلق عليهم “الفزاعة”، بعد ذلك يتم عزل الألياف اللينة منها وتجفيفها، ثم يتم فتلها على شكل خيوط وأسلاك، تصنع منها الشبكة.
طقوس الصيد
خلال عملية الصيد، يتميز “الإيمراغن” بطقوس غريبة، منها ضرب الموجات الشاطئية بالعصي مشكلين طابورًا هلاليًّا، وتصحب هذا الضرب المنتظم حركات خاصة وأهازيج مبهمة لاستدعاء الدلافين حتى تسوق معها الأسماك نحو الشباك.
يمنع شعب “الإيمراغن” قدوم النساء إلى الشاطئ، لأن ذلك في اعتقاداتهم يغضب البحر غضبًا شديدًا، فيضنّ بخيراته ويحطم الزوارق الموجودة في البحار، لذلك تسند للنساء مهمة معالجة الأسماك وتجفيفها، وتحضير ما سيتم تسويقه في أسواق نواكشوط أو نواذيبو الساحليتين.
عادة ما يتم تكسير رؤوس الأسماك في الشباك، حتى لا تهرب، وأيضًا عملًا بمعتقد راسخ عند شعب المنطقة يقول إن إسالة دم السمكة في البحر يخصبه، ويحافظ الجميع على هذه الحياة ويرون فيها هويتهم الجامعة.
تتلخص حياة بدو المحيط الموريتانيين في البحر، فهم منه وهو منهم، سكنوا البحر وأكلوا من سمكه وتعالجوا منه، وأسسوا لأنفسهم مجتمعًا منعزلًا بعيدًا عن سكان المدن الذين ألّفوا حولهم القصص.