لا تكاد تمر سنة إلا ويُلقى الضوء على قضية الأموال المجمدة التي تعود إلى الحكام العرب الذين ثارت عليهم شعوبهم بداية من عام 2010 وحتى اليوم، وكان التجميد يتم بهدف “مساعدة السلطات على استرداد الأصول المختلسة المملوكة للدولة”، وحصل هذا الأمر مع أكثر من دولة ولعل أهمها تونس ومصر وليبيا وسوريا.
جمع حكام هذه البلدان ثروات طائلة من قوت شعوبهم على مدار فترة حكمهم التي استمر بعضها لأكثر من 3 عقود، وخلال هذه فترة كانوا يملأون خزائنهم في البنوك الغربية لا سيما أوروبا، فعلى سبيل المثال قُدرت ثروة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك بين 60 و70 مليار دولار. (حكومة السيسي قدرتها عام 2017 بـ 5 ونصف مليار دولار).
أما الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، فلم تستطع التقارير تحديد مقدار الأموال التي نهبها من تونس وهربها إلى الخارج، إلا أن تقريرًا سابقًا للبنك المركزي التونسي أوضح أنه توصل إلى تحديد ممتلكات وأموال منهوبة من تونس في 10 بلدان، ويشير الخبراء إلى مليارات الدولارات حصيلة الثروة التي جمعتها عائلة بن علي خلال فترة حكمه.
وبما أن الحكام العرب ينتهجون نفس السياسات في بلدانهم، فقد كان معمر القذافي الزعيم الليبي الراحل في سباق مع نظرائه بجمع المال من شعبه وتعبئة خزائنه، وكذا فعل بشار الأسد رئيس النظام السوري ومثلهم سرق علي عبد الله صالح الرئيس اليمني الراحل أيضًا.
إبان انطلاق ثورات الربيع العربي، كانت أوروبا وغيرها من الدول تسارع إلى فرض عقوبات على الأنظمة العربية التي قمعت الانتفاضات الشعبية وقتلت واعتقلت وانتهكت مبادئ حقوق الإنسان، وكانت بداية العقوبات على ثروات الرؤساء العرب من تونس وتبعتها مصر ثم ليبيا واليمن وسوريا، لكن اليوم وبعد 10 سنوات لم تعد تلك الأموال المجمدة إلى أيادي مستحقيها أو الدول التي اختلست منها، وهو الهدف من العقوبات، إنما بدأت أوروبا بفك التجميد عن الأموال تلك لإعادتها ليد من سرقها ونهبها.
رفع العقوبات
رفع الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي العقوبات المفروضة على الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك وأسرته وأفراد في نظامه مسؤولين عن اختلاس أموال الدولة وتضمن رفع العقوبات إلغاء تجميد عائدات الفساد المشتبه بها، بدعوى أن “النظام قد خدم غرضه“، وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض العقوبات قبل 10 سنوات، بهدف مساعدة السلطات المصرية على استعادة الأصول المملوكة للدولة المختلسة.
وفقًا لما نشره موقع “open democracy“: “كانت الفكرة أنه بعد نجاح إدانة الأفراد الخاضعين للعقوبات بالفساد في بلدانهم الأصلية، سيتم الإفراج عن الأصول وإعادتها إلى الأشخاص الذين سُرقت منهم في البداية، ومع ذلك، فقد ثبت أن الواقع مختلف تمامًا”.
يضيف الموقع “خذ الحالة المصرية على سبيل المثال، تم العثور على نحو 664 مليون دولار من المليارات التي يُزعم اختلاسها وإخفاؤها في الخارج من الرئيس السابق حسني مبارك وعشيرته – وتم تجميدها – في البنوك السويسرية، لكن الحجم الإجمالي للأموال المختلسة لا يزال غير واضح، لأن الدول الأوروبية قدمت فقط معلومات جزئية عن الأصول المجمدة على أراضيها”.
الجدير بالذكر أن هذا القرار ليس الأول من نوعه، ففي عام 2017 قررت سويسرا إغلاق التعاون القضائي مع القاهرة بشأن الأموال المهربة لنظام مبارك بسبب ما قالت إنه “فشل المساعدة القضائية من مصر”، وهو ما كان في صالح أسرة مبارك لاستعادة هذه الأموال!
قرار الاتحاد الأوروبي الصادر في مارس/آذار الماضي جعل أبناء حسني مبارك يحتفلون بأن الأموال التي فُك تجميدها ستعود إليهم، وغرد علاء مبارك: “قبل كل شيء الحمد والشكر لله، وتستمر الحقيقة في الظهور والقادم أفضل بإذن الله”، بالإضافة إلى أن أسرة مبارك أعلنت دراسة رفع دعوى ضد الاتحاد للحصول على تعويضات بحسب ما أوردت قناة الجزيرة، وتأتي الدعوة نتيجة “الإدراج الخاطئ لها بقائمة العقوبات، والسلوك غير المبرر تجاهها على مدى العقد الماضي”.
مبلغ ضئيل من المبالغ التي نهبها نظام حسني مبارك استردته الخزينة المصرية، إذ أعادت سويسرا ما يقارب 183 مليون دولار إلى مصر عام 2016 و34 مليون دولار بعد عامين، إلا أن عائلة الرئيس المخلوع حسني مبارك نجحت في الطعن على العقوبات التي فُرضت بين عامي 2016 و2018، وتم إلغاؤها لاحقًا، ووفقًا للخبراء: “بعد قرار الاتحاد الأوروبي، بات من المستحيل مطالبة الدولة المصرية مجددًا بهذه الأموال”، أي أنها ستعود لناهبيها وكأن شيئًا لم يكن.
60 مليار
في تونس التي تعاني من أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، لم تستطع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة حل ملف الأموال التي نهبها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وجُمدت في أرصدته بدول الاتحاد الأوروبي، إذ تشير تقديرات منظمة “غلوبال فينينشيال إنتغريتي” في 2019، إلى أن قيمة الأموال المنهوبة من تونس تتجاوز 60 مليار دولار منذ عام 1960، وقدرت المنظمة أن ثلث هذه الأموال أي ما يُعادل 20 مليار دولار كان خلال فترة حكم بن علي.
في تقرير سابق لـ”نون بوست”، سلطنا الضوء على أموال تونس المنهوبة والحقوق الضائعة، ويشير التقرير إلى أن تونس عملت في الأعوام الأولى للثورة على “كشف وتحديد قيمة الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، من خلال لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي وبفضل تنسيقها مع نظيراتها من الدول التي توجد بها أرصدة مجمدة، فيما تولى قضاة التحقيق المتعهدون بقضايا الفساد المالي خلال الفترة الفاصلة بين بداية سنة 2011 ونهاية سنة 2014 إصدار 64 إنابة قضائية دولية تستند في نصها للفصل 43 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وتطلب إنفاذًا له إجراء الأبحاث والتحقيقات اللازمة لاكتشاف الأموال والعقارات والمنقولات الراجعة إلى الأشخاص المشمولين بالتتبع وبتجميدها في انتظار استكمال الإجراءات القانونية لإرجاعها للدولة التونسية”.
لم تدم التحركات التونسية طويلًا، فقد انتهت المحاولات دون أي إنجازات تُذكر، ورغم عدم إعلان الحكومة التونسية لأي تقديرات عن الأموال المنهوبة فإن منظمة الشفافية المالية التونسية (غير حكومية)، قدرت الأموال بنحو 23 مليار دولار.
وصلت مدة تجميد الأموال التونسية في سويسرا إلى الحد الأقصى في الشهر الأول من هذا العام، أي عشر سنوات حسب القانون السويسري دون أن تكمل السلطات التونسية الإجراءات القانونية لاستعادتها، وباتت عائلة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي قريبة من استعادة هذه الأموال والتصرف بها، دون أي إجراءات قانونية، وقالت منظمة “بابليك آي” السويسرية غير الحكومية، إن قريبين من بن علي “قد يكونوا نقلوا 320 مليون دولار عبر مركز جنيف المالي إلى سويسرا، ونقلت وسائل إعلام سويسرية أرقامًا مشابهةً”.
إلى ذلك يمكن أن نرى قريبًا قرارًا أوروبيًا بحق الأموال التونسية المنهوبة مشابهًا لما حصل في الأموال المصرية، فتعود الأموال إلى ناهبيها لا إلى أصحابها الحقيقيين، وإضافةً إلى التراخي الأوروبي فإن بعض الدول العربية عملت على عرقلة المشاريع التونسية لاستعادة الأموال، فوفقًا لتصريحات وزير أملاك الدولة السابق مبروك كورشيد، فإن “الدولة التونسية عملت على استرجاع بعض الأموال من بعض الجهات، التي تعاونت في هذا الملف، إلا أن دولًا أخرى رفضت المساعدة تمامًا، على غرار المغرب والإمارات وغيرهم من الدول الإفريقية والآسيوية، لذلك كانت حصيلة الـ6 سنوات الأولى هزيلة ومخيبة للآمال”.
ثغرات
في السياق، لا يغيب عن الأذهان كيف استطاع نظام بشار الأسد استعادة الكثير من أمواله المجمدة في أوروبا نتيجة لثغرات بقوانين الاتحاد، فقد أوردت صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية عام 2013 أن الرئيس السوري بشار الأسد وأعوانه “تمكنوا من الإفراج عن أموال تقدر بمئات الملايين من اليورو، كانت مجمدة في دول الاتحاد الأوروبي”، وتسنى ذلك بسبب ثغرة في قوانين الاتحاد، تسمح بالإفراج عن الأموال المجمدة من أجل شراء مواد إغاثة للمواطنين السوريين.
إلا أن النظام السوري، بحسب الصحيفة استخدم هذه الأموال لتمويل نفقات النظام السوري وقواته ولشراء الأغذية للجيش النظامي، وقالت الصحيفة إن المسؤولين البريطانيين يعتقدون أن الأموال التي تم تجميدها في جميع دول الاتحاد الأوروبي بعد اندلاع الأزمة في سوريا، يجري تحويلها لدعم قيادة الأسد وإطعام جيشه بدلاً من ضحايا الحرب.
في اليمن كان الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح قد أسس شبكة تتألف من عمليات تجارية وشركات وأصول في كندا وأمريكا وسويسرا وهولندا وفرنسا وجنوب شرق آسيا والإمارات ودول الشرق الأوسط وجزر البهاما وجزر فرجن وجزر تركس وكايكوس، وفي منتصف 2020، سجل تقرير تحويلات مصرفية بقيمة 65 مليون دولار أُرسلت من المصرف المتحد السويسري إلى حسابين مصرفيين في سنغافورة يعودان إلى أحد أفراد أسرة صالح.
أما بخصوص الأموال المنهوبة في ليبيا من عائلة الزعيم الليبي الأسبق معمر القذافي، فإن مليارات الدولارات تناثرت بين الدول، فلا يُعلم أرقام حقيقية عنها بالإضافة لتلك التي جُمدت في بنوك الدول بعد فرض العقوبات على نظام القذافي في 2011، ففي بلجيكا وخلال الأعوام السابقة هزت عدة فضائح الحكومة البلجيكية، إذ كشفت التحقيقات اختفاء ما يصل إلى 10 مليارات يورو في أصول ليبية مجمدة تابعة للعقيد الراحل.
وتعود الأموال المفقودة إلى الأرصدة التي تم تجميدها في الفترة من 2013 إلى 2017، وبلغت قيمة مبالغ القذافي المجمدة نحو 16.1 مليار يورو، وخلصت الأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2018 إلى أن بلجيكا تجاوزت القانون عن طريق السماح بمثل هذه المدفوعات، التي تمت بين عامي 2012 و2017، ووفقًا لمحامين فإن عدة شركات بلجيكية تمكنت من الاستفادة من فوائد الأموال الليبية المجمدة لسداد ديون مستحقة لها لدى ليبيا.
بالمحصلة، كان الفساد المالي أحد أهم الأسباب الموجبة لقيام الثورات العربية في 2011، وكانت العقوبات الأوروبية التي تضمنت تجميد أرصدة زعماء تلك الدول أحد الإجراءات المفائلة للشعوب، لكن هذه العقوبات لم تكن ذات فائدة، فلم تُرجع الأموال لأصحابها ومستحقيها، إنما احتفظت بها لإعادتها لمن نهبها وسرقها، كما لو كانت وديعة، أو كانت شريكة في سرقتها وضياعها كالذي حصل في بلجيكا، لتبقى العدالة الأوروبية وقوانينها على المحك.