أمس الأول الخميس، اجتمعت الدول الثمانية الإسلامية الكبرى لأول مرة منذ أكثر من عامين افتراضيًا بحضور عدد من الزعماء، على رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في القمة العاشرة التي ترأسها بنغلاديش.
في هذا التقرير، نستعرض أهم ما جرى في هذه النسخة، التي شهدت بعض الأحداث المهمة بالفعل في سبيل احتمالات التقارب السياسي بين بعض الدول الأعضاء، ونعيد استذكار جذورها، وتسليط الضوء على آفاقها المستقبلية، في ضوء مجالات هذه المنظمة المعروفة بـ(D-8) وممكناتها والأهداف التي اتفق عليها قادة الدول.
حلم أربكان
كان رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان والأستاذ الجامعي وقائد عدد من الأحزاب السياسية منتصف التسعينيات، حينما كان نظام الحكم في تركيا برلمانيًا، يؤمن بإمكان الجمع بين كلٍ من الإسلام والنهضة، فلا يرى تعارضًا بين أن يكون هناك نظام سياسي يتمسك بالقيم الإسلامية ونجاح هذا النظام السياسي في تحقيق الاستقرار المنشود للمجتمع.
وخلافًا للدعوات الانكفائية في تركيا بحيث تكون للقومية أبعاد ضيقة متوجسة من الخارج أو تلك التي تقول إن تركيا غربية أو تنتمي إلى “أوراسيا” حصرًا، كان نجم الدين أربكان، الأب الروحي للرئيس التركي الحاليّ، رجب طيب أردوغان يرى أن لتركيا، على المستوى الثقافي الناعم، بعدًا إسلاميًا لا ينبغي إغفاله، وأن النظام الإسلامي يتسم بالشمول والعملية والأممية.
اعتقد نجم الدين أربكان أن فكرة التكتلات الإسلامية المتخصصة يمكن أن تكون فكرةً عمليةً من أجل حلحلة التكتلات العالمية المهيمنة بقيمٍ بعيدة عن الإسلام، شريطة أن تكون التحالفات الجديدة تتوافق مع القيم الإسلامية فعلًا، لا أن تكون مجرد تكتلات موازية مستنسخة من نظيرتها العالمية كما حدث من قبل أكثر من مرة.
في ضوء هذه المقدمات النظرية، فكر أربكان في ضرورة أن تكون هناك تحالفات إسلامية مقابلة لنظيرتها العالمية، بغرض محاولة تقديم تجربة مغايرة للنمط المادي المهيمن، فأراد أن تكون هناك عدة تحالفاتٍ من بينها منظمة إسلامية تتبنى جوهر القيم الاقتصادية الإسلامية كالبعد عن الربا وتجنب الضرائب، إلى جانب تحالفات عسكرية وثقافية مشابهة.
بمجرد أن وصل إلى رئاسة الوزراء ضمن حكومةٍ ائتلافية تتبع حزب “الرفاه” عام 1997، دفع أربكان في اتجاه تدشين منظمة ضخمة تضم الدول الإسلامية الكبرى وتعمل على التشبيك فيما بينها ضمن مساعي تطبيق الحلول الإسلامية في الاقتصاد وهي منظمة (D8)، لكن كثيرًا من هذه الأحلام وئدت مع انقلاب الجيش التركي على هذه الحكومة، بدعوى اتباعها سياسات رجعية، وانتهى المطاف بهذه التجربة بسجن أربكان عامين ثم منعه من ممارسة الحياة السياسية 5 أعوام.
تركيا والثماني الإسلامية
بطبيعة الحال، تأثرت المنظمة برحيل صاحب الفكرة وراعيها، أربكان، لكن استدامة الإطار المؤسسي لها على مدار عقدين، واستشعار القيادة السياسية في تركيا وبالأخص حزب العدالة والتنمية أهمية تلك المنظمة التي ولدت لأول مرة في إسطنبول عوامل ساهمت في تضاعف معدل التجارة البينية بين الدول الأعضاء 6 مرات.
وقبل انعقاد قمة هذا العام بالأمس، شهدت فاعليات ما قبل القمة نشاطًا تركيًا ملحوظًا، فقد أكدت وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان على “فلسفة” الاهتمام التركي الواضح بهذه المنظمة، وبالأخص في ضوء رئاسة الدورة السابقة، إذ قالت: “تركيا تدرك جيدًا المنفعة الاقتصادية المترتبة على تعاونها مع بلدان أخرى تمتلك ذات القيم والأسس التاريخية والاجتماعية والثقافية”.
“مشاركتنا مع مجموعة الثمانية إلى جانب منظمة التعاون الاقتصادي والإسلامي هي نتيجة لهذا الاعتقاد، جائحة كورونا أظهرت أهمية رفع مستوى التنسيق المشترك بين الدول، ودعم تركيا للمبادرات الرامية إلى ضمان توزيع اللقاحات على كل الدول بشكل عادل”.
وبخصوص الأهداف التركية المتعلقة بالتنسيق المشترك بين الدول الأعضاء في المنظمة، قالت بكجان إن تركيا تسعى إلى الدفع في اتجاه رفع حجم التبادل التجاري إلى 500 مليار دولار، في ظل وصول الناتج المحلي الإجمالي للدول الثمانية إلى نحو 4 تريليونات دولار، وهو ما يمثل ما يقارب 9% من صادرات منظمة التعاون الإسلامي، بالإضافة إلى التركيز على المجالات الجديدة، مثل التحول الرقمي والتجارة الإلكترونية والاقتصاد الرقمي.
أما وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، ففي اجتماع وزراء الخارجية التابعة للمنظمة قبل القمة الرئيسية بيومٍ واحد، فقد تحدث عن الدور التركي الإيجابي تجاه الدول النامية عالميًا باعتبار أن المنظمة في الأساس محفل للدول الإسلامية النامية، ومن ذلك إرسال مساعدات ضمن “دبلوماسية كورونا” إلى 157 دولة ونحو 12 منظمةً خيريةً، بالإضافة إلى دعم مبادرات هيكلة ديون الدول الأكثر فقرًا لدى منظمة العشرين وصندوق النقد والبنك الدوليين.
وعما قدمته تركيا للمنظمة خلال دورة رئاستها مؤخرًا، قال أوغلو إن بلاده استضافت لتوها اجتماع وزراء تجارة الدول الأعضاء، وسوف تستضيف اجتماعيين مماثلين لوزراء النقل والزراعة بالمنظمة، وأطلقت غرفة مقاصة تهدف إلى تعزيز المجموعة بأعضاء جدد ودفع أجندة التجارة وتسهيل التجارة بالعملات المحلية”.
وقد جاءت كلمة الرئيس التركي رجب أردوغان عبر الڤيديو كونفرانس تكثيفًا للجهود التركية في هذا المضمار، فتحدث في اتجاهين متآزرين، الأول فيما يخص المنظمة، إذ أشار إلى ضرورة أن تتسم بالعملية أكثر من الوضع الراهن فيكون لها مردود في المشروعات والإنجازات، وأن تركز على التجارة بالعملات المحلية لحماية بلدان المنظمة من مخاطر أسعار الصرف، داعيًا إلى تدشين ما أسماه “بنك إسلامي على منصة إلكترونية لتوفير السيولة للمؤسسات المالية الإسلامية وتمويل البنية التحتية المتزايدة في العالم الإسلامي”.
أما الاتجاه الثاني، فكان الحديث عن الدور التركي تجاه البلدان النامية من خارج المنظمة، إذ أعلن الرئيس التركي أن اللقاح المحلي الخاص بكورونا سيكون متاحًا عالميًا (دون احتكار) بمجرد انتهاء مراحل تصنيعه وتجريبه، بالإضافة إلى ضرورة التكاتف من أجل دعم اللاجئين الفلسطينيين والأراكانيين واليمنيين والسوريين الذين يعانون من الفقر والقهر.
الحضور المصري
الحضور المصري في القمة كان لافتًا من أكثر من زاوية، الأولى أن هذه القمة العاشرة كانت من المفترض أن تكون برئاسة مصر وليست بنغلاديش، كما اتفق وزير الخارجية المصري سامح شكري مع الأمين العام للمنظمة سبتمبر/أيلول 2019، لكن يبدو أن تغييرًا في الترتيبات الداخلية الخاصة بالمنظمة أدى إلى إسناد هذه القمة لبنغلاديش، خاصة أنها قمة افتراضية (عن بعد) نظرًا لمستجدات أزمة كورونا.
الزاوية الثانية أن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الذي مثل مصر في الكلمة بالقمة الرئيسية نيابةً عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المنهمك في ملفاتٍ داخلية وخارجية وعرة مثل سد النهضة، تعمد توجيه الشكر إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالاسم في مستهل كلمته، وهو ما حاز اهتمام وكالات الأنباء.
“أود أن أشكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الجهود التي بذلتها بلاده خلال رئاستها لمنظمتنا، وأود أيضًا أن أهنئ رئيسة وزراء بنغلاديش شيخة حسينة واجد على تولي بلادها رئاسة المنظمة، وأتمنى لبنغلاديش التوفيق والسداد خلال رئاستها للمنظمة”، قال مدبولي.
في العلاقات العامة وعلم “السيميائيات” (الرموز اللغوية ذات الدالة) يعد هذا التخصيص دلالةً إيجابيةً على تهدئة الأجواء على الصعيد الرسمي بين الطرفين المصري والتركي، إذ لم يكن غياب هذه الإشارة مؤثرًا على مسار الحديث في الجلسة، لكن تعمد ذكرها، في ظل تصريحاتٍ إيجابية متبادلة بين البلدين بعد طرح مصر عددًا من مناقصات التنقيب عن الثروة المعدنية شرق المتوسط على نحو يحترم الجرف القاري التركي، وطلب الأخيرة من قنوات المعارضة المصرية في إسطنبول مراجعة سياستها التحريرية يرجح هذا التحليل، الذي أبرزته وكالات الأنباء.
إلى جانب دعوة الرئيس التركي إلى تدشين البنك الإسلامي، فقد اتفقت الدول الثمانية على تطوير اتفاقية “التجارة التفضيلية” بينها البعض
وفي سياق الالتزام المصري تجاه المنظمة وخطة مصر لدفع التعاون المشترك، قال مدبولي: “مصر تولي اهتمامًا كبيرًا بالمشاركة في فاعليات المنظمة بهدف تعزيز الروابط في المجالات ذات الاهتمام المشترك وتعزيز سبل التعاون الحاليّ والمستقبلي لمواجهة التحديات في ظل الظروف الاستثنائية الحاليّة، هذه التحديات الهائلة وضعت في الصدارة القضايا التنموية التي تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وعززت أهمية القطاعات الاقتصادية القادرة على تحقيق التعافي السريع، فضلًا عن إبراز أهمية تنمية رأس المال البشري”.
أهداف المنظمة
صحيح أن المنظمة نجحت في مضاعفة التبادل التجاري بين دولها الأعضاء 6 مرات خلال عقدين، لكن الرقم الإجمالي كما أوضحت وزيرة التجارة التركية لا يزال ضئيلًا للغاية، فهو أقل كثيرًا من 500 مليار دولار، وكما قال رئيس الوزراء المصري لا يمثل إلا 7% من إجمالي تجارة العالم.
وتسعى المنظمة التي يبلغ عدد سكانها مجتمعين نحو 1.1 مليار نسمة ويصل إجمالي الناتج المحلي للدول الأعضاء بها إلى 4 تريليونات دولار (5% الناتج المحلي العالمي)، وتحوي إمكانات سياحية تعادل 100 مليار دولار، إلى أن تكون الفترة القادمة طفرةً في التعاون المشترك، وبالأخص بعد التعافي من أزمة كورونا.
إلى جانب دعوة الرئيس التركي إلى تدشين البنك الإسلامي، فقد اتفقت الدول الثمانية على تطوير اتفاقية “التجارة التفضيلية” بينها البعض، والمضي قدمًا في تفعيل نظام “الدفع بالبطاقات” الذي يعد بديلًا عمليًا لمشكلة صك عملة مشتركة، حيث يعتمد بدلًا من ذلك على التبادل التجاري البيني بالعملات المحلية، لتقليل الاعتماد على الدولار.
ويبشر داتو كوجعفر كوشاري أمين عام المنظمة، بأنه وفقًا للحسابات المؤسسية، وبعد نجاح الخطة العشرية المنتظرة التي جرى إطلاقها في هذه القمة، أن يكون الاقتصاد الإندونيسي في المرتبة 4 عالميًا، والاقتصاد التركي في المرتبة 11، والنيجيري في المرتبة 14 ثم الاقتصاد المصري في 15، وصولًا إلى كل من باكستان وإيران التي سيحل اقتصادهما في المرتبتين الـ16 و17 عالميًا، فيما ستأتي بنغلاديش وماليزيا في المرتبتين الـ23 و24 على التوالي، بحلول عام 2050.