يمر لبنان في هذه المرحلة بأزمات مركبة تنذر بانهيار الهيكل على رؤوس الجميع، وجعلت الكثيرين يتحدثون عن أزمة كيان أو أزمة نظام سياسي لم يعد قادرًا على تلبية احتياجات المرحلة الحاليّة، أو أزمة طبقة سياسية حاكمة فقدت كل إحساس بالمسؤولية الوطنية ودفعت بسياساتها وتصرفاتها إلى انسداد أفق الحل السياسي وبالتالي بدأ شعور بالقلق والخوف يتسلل إلى داخل كل طرف وفريق من المكونات التي يتشكل منها لبنان.
قام نظام لبنان منذ عشرينيات القرن العشرين على ما عُرف بالديمقراطية التوافقية، بمعنى آخر الشيء ونقيضه، فلا إمكانية لحكم الأغلبية كما في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية أو الرئاسية، ولا إمكانية أيضًا للمحاسبة، فمواقع المسؤولية الدستورية موزعة بشكل مدروس على المكونات الرئيسية وعلى خلفية طائفية مذهبية وليس على أساس الكفاءة أو البرامج السياسية والتنموية أو بموجب الانتخاب الحر المفتوح.
فرئيس البلاد يجب أن يكون مسيحيًا مارونيًا، ورئيس المجلس النيابي يجب أن يكون شيعيًا، ورئيس الحكومة يجب أن يكون مسلمًا سنيًا، والوزراء في الحكومة يجب أن يكونوا مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك النواب في المجلس النيابي، وموظفو الفئة الأولى في إدارات الدولة، ونسبيًا بين المذاهب عند كل طائفة، وهذا ما جعل النظام السياسي والإداري في لبنان معقد إلى درجة كبيرة يستعصي على الإصلاح والتغيير، وهو الشيء الذي ثبت في مواجهة انتفاضة أو حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، فقد فشل هذا الحراك على أسوار الطائفية التي تتقاسم النفوذ في البلد، وتحمي الفساد وتكرس هيمنة الطبقة السياسية من كل المكونات، غير أن أهم ميزة لهذا النظام، رغم كل مساوئه، أنه أرسى نوعًا من التوازن بين المكونات حتى لا تطغى فئة على أخرى وتستأثر بمقدرات البلد وتهمش المكونات الأخرى.
مسملو لبنان وتحديات المرحلة
يشكل المسلمون في لبنان بشكل عام نحو 65% من عدد اللبنانيين وهو ما أظهرته اللوائح الانتخابية الأخيرة التي اعتمدت للانتخابات النيابية عام 2018، وتكاد أعداد المسلمين السنة منهم تتقدم بشكل طفيف على الشيعة، فقد أظهرت اللوائح الانتخابية للعام 2018 تقدم عدد المسلمين السنة على الشيعة ببضعة آلاف فقط، في حين تشكل نسبة المسيحيين في البلد نحو 30% بينما تتوزع النسبة المتبقية على أقليات.
يشغل المسلمون السنة في النظام السياسي اللبناني مواقع مهمة تعزز التوازن النظري على مستوى النظام السياسي مع المكونات الأخرى، فهم يشغلون موقع رئيس الحكومة (الموقع الثالث في السلطة والأول تنفيذيًا) وكذلك مواقع إدارية مهمة في إدارة الدولة كالمدير العام للأمن الداخلي والمدعي العام التمييزي (موقع قضائي) وموقع الإفتاء العام للجمهورية، إضافة إلى مواقع أخرى توازيها وتماثلها مواقع أخرى مشغولة من مكونات أخرى.
إن كل هذه القوى والشخصيات التي تمثل بمجموعها المسلمين السنة في لبنان باتت اليوم تشعر بنوع من القلق وبرز أمامها تحد لم تكن تشعر به أو تتحدث عنه قبل بضع سنوات
غير أن المسلمين السنة في لبنان أصابهم نوع من الانقسام والتشظي على المستوى السياسي، خاصة في ظل غياب الظهير الخارجي أو العمق العربي الذي كان غالبًا ما يجعلهم أكثر اطمئنانًا وراحة من أي وقت، ويكاد يكون “تيار المستقبل” الذي يرأسه سعد الحريري المكلف حاليًّا بتشكيل الحكومة أقوى فصيل سياسي يمثل المسلمين السنة في لبنان، فله كتلة نيابية وازنة، غير أنه لم يحز كل مقاعد المسلمين السنة في المجلس النيابي (27 مقعدًا من أصل 128)، فتمكن بعض خصومه، لا سيما المدعومين من النظام السوري وحلفائه من إحراز بعض المقاعد النيابية على حسابه، وبالتالي فإن ذلك أظهر نوعًا من الانقسام لدى المسلمين السنة في لبنان.
إلى “تيار المستقبل” والشخصيات والنواب الذين فازوا بالانتخابات الأخيرة عام 2018، هناك التيار الإسلامي وفي طليعته “الجماعة الإسلامية” التي تُعتبر أكثر تماسكًا على المستوى التنظيمي من “المستقبل”، وأكثر انتشارًا منه، غير أنها لم تتمكن، لأسباب عديدة ليس محل ذكرها الآن، من ترجمة هذا الانتشار والبنية التنظيمية إلى قوة شعبية حقيقية تتمثل في المجلس النيابي في الدورة الأخيرة.
وهذا التيار الإسلامي حاول خلال السنوات الأخيرة البقاء في منطقة حافظ فيها على علاقاته بكل القوى السياسية اللبنانية وبكل المكونات من دون أن يصطدم بأي منها بشكل مباشر وكبير.
إن كل هذه القوى والشخصيات التي تمثل بمجموعها المسلمين السنة في لبنان باتت اليوم تشعر بنوع من القلق وبرز أمامها تحد لم تكن تشعر به أو تتحدث عنه قبل بضعة سنوات، وهذا التحدي الحاليّ يتمثل بقلقها على البلد ووحدته وبقاء مؤسساته من ناحية، وعلى انهيار نظامه السياسي وبالتالي الكيان اللبناني وتشظيه إلى كيانات صغيرة على أسس طائفية ومذهبية، أو بقلقها من قيام أي طرف أو مكون بوضع يده بشكل كامل على البلد والهيمنة عليه بعد ذلك بشكل كامل.
لقد أظهر انسداد أفق الحل السياسي لأزمة تشكيل الحكومة، سواء كان ذلك مقصودًا أم غير مقصود، بمعنى آخر كان مخططًا له أم لا، فإنه أظهر حجم الخطر المحدق بلبنان، وحجم القلق الذي ينتاب مكوناته، لا سيما المسلمين السنة، لأنهم يشعرون أن أي تغيير أو تعديل في ظل الظروف القائمة حاليًّا سيكون على حساب دورهم ووجودهم وحضورهم في البلد، وبالتالي سيدفعون الأثمان، بغض النظر عن تبايناتهم السياسية من كثير من الموضوعات والملفات.
لقد دفع ذلك إلى إطلاق حوار حقيقي بين القوى والشخصيات لدى المسلمين السنة في لبنان بهدف تحديد الأولويات والتحديات في هذه المرحلة، وتنسيق الجهود ووضع الخطط والبرامج على المستويات كافة للقيام بكل ما يلزم من أجل الحفاظ على لبنان وعلى التوازن فيه، وعلى دورهم وحضورهم ووجودهم، غير أن ذلك لا يكفي في هذه المرحلة، فالفاعلون والمؤثرون في لبنان ليسوا من مكوناته فحسب، بل هناك دول إقليمية ودولية لها قدرتها وإمكاناتها الضخمة ومشاريعها العملاقة والإستراتيجية، وبالتالي فإن المسلمين السنة في لبنان لا يمكنهم بمفردهم، حتى لو اجتمعت كلمتهم وتوحدت قوتهم أن يقفوا بوجه ما يُحاك ويُخطط للبلد، بل يحتاجون إلى عمق عربي أو إسلامي يكون سندًا لهم في لحظة الشروع في الحلول والتسويات وإلا فإن الخسارة ستكون محققةً وقائمةً لا محالة.
مسلمو لبنان لم يكونوا يومًا بهذا التفكير أو العقلية، وحتى إن لجأوا إليها فهم مرغمون ومجبورون حتى لا يخسروا دورهم وحضورهم ووجودهم في البلد
المؤسف أن هذه التحديات التي تواجه المسلمين السنة في لبنان تأتي في لحظة إقليمية فارقة، فالعمق العربي والإسلامي منهك ومشغول بقضايا وأزمات لا تُعد ولا تحصى ولا تنتهي فصولًا، ومستنزف في معارك وأزمات داخلية وخارجية كثيرة، فضلًا عن أن البوصلة أو الأولوية عند البعض منهم غير صحيحة أو دقيقة بل مختلة بشكل كبير تجعل من الصعوبة بمكان التدخل وتقديم الدعم والإسناد.
إن أول ما يحتاجه المسلمون السنة في لبنان في هذه المرحلة التي يواجه فيها لبنان أزمة اقتصادية خانقة، وفي ظل انسداد أفق الحل السياسي من خلال إفشال أي مسعى لتشكيل الحكومة والشروع في وضع حلول للأزمات اللبنانية الكثيرة، هو الدعم الاقتصادي الذي يخفف من أعباء الأزمة ويعزز من صمود الناس المرغمين في أحيان كثيرة على الهجرة والسفر تحت وطأة الأزمة والحاجة، وخاصة الشباب، ثم بعد ذلك هم بحاجة إلى تأمين المظلة السياسية التي ترسي توازنًا مهمًا في لحظة إبرام التسويات، خاصة إذا وصلت الأمور إلى حدود إنتاج صيغة جديدة أو نظام سياسي جديد للبنان.
مسلمو لبنان لم يكونوا يومًا بهذا التفكير أو العقلية، وحتى إن لجأوا إليها فهم مرغمون ومجبورون حتى لا يخسروا دورهم وحضورهم ووجودهم في البلد، وحتى لا يخسر البلد لأنهم كانوا على الدوام ضمانته الأكيدة.
إن قناعتهم ستظل على الدوام هي في قيام دولة المواطنة التي يتكافأ فيها ويتساوى الجميع بالحقوق والواجبات، لكنها الوقائع التي تجعل المرء أحيانًا يختار ما لا يريد.