شراكة تركية أوكرانية واعدة.. وتوجس روسي

تشهد العلاقات التركية الأوكرانية تطورًا ملحوظًا، بوتيرة لم تكن معهودة من قبل، كان للأزمة الأوكرانية الروسية دور كبير في توطيدها، وعلى مدار السنوات السبعة الماضية تُوجت العلاقات بين البلدين من خلال توقيع اتفاقات على مختلف الأصعدة، الاقتصادية والدفاعية والعسكرية.
وفي الوقت الذي يستمر به التوتر على الحدود الأوكرانية الروسية، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في إسطنبول، السبت 10 من أبريل/نيسان، للمشاركة في اجتماع المجلس الإستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، بنسخته التاسعة.
وعقب انتهاء الاجتماع الذي دام لأكثر من 3 ساعات، أكد أردوغان مجددًا دعمه لوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها وعدم الاعتراف بضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وأضاف “تعاوننا ليس بأي حال من الأحوال محاولة ضد دول ثالثة”، في إشارة طمأنة لبوتين.
في هذا التقرير سنستعرض العلاقات التركية الأوكرانية والتعاون الإستراتيجي بين البلدين، وما يقابله من توجس روسي، وسنستعرض أيضًا نجاح تركيا في تعزيز أوراق القوة لديها في مواجهة روسيا في ساحات دولية متعددة، من سوريا إلى أذربيجان، وصولًا إلى ليبيا.
التعاون السياسي
رفضت تركيا ما قامت به روسيا من ضم شبة جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/آذار 2014، إذ تعد تركيا تتار القرم جزءًا من العالم التركي بحكم العرق واللغة، وأكد الرئيس التركي مرارًا وفي أكثر من محفل أن بلاده ستواصل دعم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، بما فيها القرم، مشيرًا إلى أن تركيا تنظر إلى أوكرانيا كدولة محورية لضمان الاستقرار والأمن والسلام والازدهار في المنطقة.
أوكرانيا تؤيد تركيا وسياساتها في العديد من الملفات الدولية، أبرزها، توافقها مع الموقف التركي في دعم أذربيجان ووحدة أراضيها
وتسعى تركيا من خلال التقارب مع أوكرانيا لمواجهة النفوذ الروسي المتنامي في منطقة البحر الأسود، كما أنها تنافس روسيا في عدة محاور دولية أبرزها سوريا والقوقاز وآسيا الوسطى، وبالتالي فإن تعزيز علاقاتها مع غريمتها أوكرانيا يؤدي إلى تعزيز أوراق تركيا أمام روسيا.
وتدعم تركيا الجهود والإصلاحات الأوكرانية من أجل الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، يذكر أن تركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بأوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وبالمقابل، فإن أوكرانيا تؤيد تركيا وسياساتها في العديد من الملفات الدولية، أبرزها، توافقها مع الموقف التركي في دعم أذربيجان ووحدة أراضيها، إبان المواجهات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا، في سبتمبر/أيلول 2020، بإقليم قره باغ الذي تحتله أرمينيا لأكثر من 30 عامًا، بالإضافة للتعاون الأوكراني في ملاحقة وتسليم فارين من جماعة غولن الإرهابية.
التعاون الاقتصادي
نجح التعاون الإستراتيجي بين الطرفين في تعزيز الشراكة الاقتصادية، وتحتل تركيا المرتبة الـ5 في قائمة كبار الشركاء التجاريين لأوكرانيا، إذ بلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو 5 مليارات دولار عام 2019، ونجحا في الحفاظ عليه إلى حد كبير العام الماضي، حيث بلغ نحو 4.7 مليار رغم تفشي فيروس كورونا، فيما يسعى الطرفان لرفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 10 مليارات دولار في السنوات القليلة المقبلة.
وبلغ عدد الشركات التركية العاملة في أوكرانيا نحو 600 شركة، تدر ما قدره 2.5 مليار دولار سنويًا على الاقتصاد الأوكراني، لتعتبر تركيا بذلك إحدى أكبر الدول المستثمرة في أوكرانيا، وتعزيزًا للتجارة بين البلدين اكتسبت مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين زخمًا جديدًا في سبتمبر/أيلول 2020، فيما لا تزال المحادثات جارية بهذا الصدد.
ونجح البلدان في تعزيز اتفاقات النقل الجوي والبحري بينهما، كما وقعا اتفاقية لتعزيز القطاع السياحي، من خلال السماح للمواطنين في كلا البلدين بإجراء زيارات متبادلة بموجب البطاقة الشخصية (الهوية) فقط، دون الحاجة لجواز سفر أو تأشيرة سياحية.
كما شهدت الحركة السياحية بين البلدين ازدهارًا كبيرًا مؤخرًا، فقد استقبلت تركيا نحو 1.5 مليون سائح أوكراني خلال عام 2019 ونحو 300 ألف تركي زاروا أوكرانيا في تلك الفترة، وعلى الرغم من تفشي وباء كورونا، فإن عام 2020 شهد زيارة نحو مليون أوكراني لتركيا.
شراكات دفاعية واعدة
على مدار الـ7 سنوات الماضية، وعقب أزمة القرم عام 2014 سعت أوكرانيا إلى تعزيز التعاون الإستراتيجي في الصناعات الدفاعية مع تركيا بشكل ملحوظ، وذلك للتخلص من اعتمادها على روسيا في التسلّح، وفي مساعيها نحو التحرر من النظام الدفاعي السوفياتي السابق، تسعى أوكرانيا للاستفادة من الأنظمة والمعايير الدفاعية التركية لتسهيل عملية الانضمام إلى حلف الناتو، كما تعتبر هذا التعاون بأنه القوة الدافعة لتطوير شركات الدفاع الأوكرانية.
يسعى البلدان من خلال اتفاقيات التعاون المشترك إلى الارتقاء بعلاقتهما من علاقة المشتري والبائع إلى مستوى جديد من التعاون
ولدعم هذا التوجّه، وقع الطرفان عدة اتفاقات في مجال الصناعات الدفاعية، كان أبرزها ما وقعتاه وزارتا دفاع البلدين في 14 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، لتبادل الخبرات في مجال تكنولوجيا صناعة السفن الحربية والطائرات الحربية المسيّرة، بالإضافة لاتفاقية “الإطار العسكري” التي وقعها وزير الدفاع الأوكراني أندري تاران، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، مع نظيره التركي خلوصي أقار، كما وقع مع رئيس مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير، اتفاق حسن نوايا في إطار مشاريع الصناعات الدفاعية.
وتعد تركيا المصدر الأهم في التوريدات الدفاعية لأوكرانيا، إذ تلبّي الاحتياج الأوكراني للصناعات المتطورة في المجال الدفاعي ومجال الاتصالات العسكرية، فقد اشترت أوكرانيا العام الماضي عددًا من الطائرات المسيرة، بالإضافة إلى مجموعة من أنظمة التحكم الأرضية والرادارات وأنظمة اتصالات متطورة من شركة “أسيلسان”، لتحدث هذه المنتجات المتطورة نقلة نوعية في المجال الدفاعي الأوكراني.
ويسعى البلدان من خلال اتفاقات التعاون المشترك إلى الارتقاء بعلاقتهما من علاقة المشتري والبائع إلى مستوى جديد من التعاون، يسمح لكلاهما بإنتاج أسلحة جديدة متطورة بكميات كبيرة، من خلال دمج التقدم التكنولوجي الرقمي التركي مع تكنولوجيا الإنتاج المتطورة في أوكرانيا.
وبرز هذا التعاون بعد إدخال أوكرانيا لطائرات “بيرقدار-TB2” المسيرة ضمن سلاحها الجوي عام 2019، التي تم إنتاجهم عبر برنامج الإنتاج المشترك بين البلدين، بالإضافة لبدء شركات أوكرانية تصنيع محركات خاصة بصواريخ “أطمجة” التركية، المضادة للسفن والغواصات، وطرادات من طراز “أدا” التي سيتم إنتاجها بشكل مشترك.
توجس روسي
روسيا من قبلها تعتبر أن التقارب التركي الأوكراني لن يكون على حساب الشراكة الاقتصادية والسياسية الإستراتيجية بين روسيا وتركيا، كما ترى أن تركيا يمكن أن تكون وسيطًا نزيهًا ومقبولًا من الطرفين الروسي والأوكراني لحل الأزمة بالطرق السلمية انطلاقًا من مبادئ اتفاقات “مينسك”.
بعث أردوغان رسائل مطمئنة إلى بوتين عقب انتهاء الاجتماع مع الرئيس الأوكراني
وقبيل زيارة الرئيس الأوكراني لتركيا، هاتف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره التركي رجب طيب أردوغان، الجمعة 9 من أبريل/نيسان، لبحث الأوضاع الإقليمية، عقب إعلان استعداد سفن حربية أمريكية لدخول البحر الأسود، على وقع التوتر الحاصل بين روسيا وأوكرانيا.
وبحث بوتين مع أردوغان الرؤية الروسية لتسوية النزاع الأوكراني وشدد على أهمية اتفاقات “مينسك” المبرمة بين الطرفين عام 2015، معتبرًا إياها الأساس الذي لا غنى عنه لحل الأزمة مع أوكرانيا، ومتهمًا الحكومة الأوكرانية بالتهرب من تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاقات الموقعة، ووصف كييف بأنها تمارس استفزازات خطرة من شأنها أن تصعد الوضع على خط التماس مع روسيا.
ومع كثرة الجدل السياسي الدائر حاليًّا في تركيا عن نية أردوغان وحكومته الخروج من معاهدة “مونترو”، بالإضافة لموافقة الحكومة على المشروع النهائي لإنشاء قناة إسطنبول المائية الموازية لمضيق البسفور، شدد بوتين في اتصاله على أهمية الالتزام بالنظام المعمول به حاليًّا وفقًا لمعاهدة “مونترو” المبرمة عام 1936، التي تنظم حركة السفن في المضائق التركية الواصلة للبحر الأسود، كما تمنع الوجود العسكري لدول حلف الناتو في مياهه.
وبعث أردوغان رسائل مطمئنة إلى بوتين عقب انتهاء الاجتماع مع الرئيس الأوكراني، فقال: “البحر الأسود لا يزال بحر سلام وطمأنينة وتعاون، لا نريد أن يزداد التوتر في جغرافيتنا المشتركة بأي شكل من الأشكال”، ودعا إلى حل الأزمة الحاليّة بالطرق الدبلوماسية على أساس وحدة الأراضي الأوكرانية وفق القانون الدولي.