اصطفت آلاف السيارات أمام محطات الوقود لتشكل طوابير ضخمة تمتد لعدة كيلومترات، مع غياب شبه تام لحركة السير، بينما يجتمع الناس أمام مواقف السيارات والكراجات في ساعات الصباح الأولى ينتظرون دورهم في الحصول على وسيلة نقل أو شاحنة صغيرة خاصة لتنقلهم إلى أعمالهم، ما يعكس عدم توافر الوقود في أبرز المدن السورية: دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس والسويداء أيضًا، وعجز حكومة النظام السوري عن تأمين الوقود لمناطق سيطرته في ظل انهيار اقتصادي يضاهي الدعم المقدم من الحلفاء، والجهود غير المجدية في تحسين الوضع الاقتصادي، الذي انعكس واقعه على السوريين في شتى أنحاء البلاد، ما أوقعهم في تدهور معيشي مستمر.
انعدام المشتقات النفطية.. والنظام يبرر فشله
تعيش المحافظات السورية والمناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد في جميع أنحاء البلاد، أزمة وقود كبيرة ساهمت في غياب شبه كلي لوسائل النقل العام والخاص على حد سواء، مع ارتفاع كبير بأسعار الوقود إذا توافرت في السوق السوداء التي يستغلها بعض المشغلين ورؤوس الأموال التابعين لشخصيات ومليشيات تعمل لصالح الحكومة.
ومما ساهم في انحسار أعداد السيارات وغياب وسائل النقل في المحافظات السورية وتراكمها أمام مراكز الوقود، للحصول على مادتي المازوت والبنزين، خلال الأسابيع القليلة الماضية، تخفيض حكومة النظام كميات تعبئة شرائح البنزين والمازوت بنسبة 50%، بما يتناسب مع الكميات المتوافرة، بحيث يتم تعبئة 20 لترًا كل أربعة أيام للسيارة العامة و20 لترًا كل سبعة أيام للسيارة الخاصة، و3 ليترات كل سبعة أيام للدراجات النارية.
وفي وقت سابق حاولت حكومة النظام تبرير انخفاض كميات الوقود لديها، بسبب إغلاق قناة السويس ومنع بارجة نفط إيرانية من الوصول إلى ميناء طرطوس، وتارةً أخرى بالعقوبات الأمريكية التي طالت شخصيات بارزة فيها، وكانت واشنطن قد منعت مصر من السماح لإيران بتزويد سوريا بالنفط منذ 2 من فبراير/شباط 2019، وقبل هذا التاريخ كانت إيران تشحن أكثر من 66 ألف برميل يوميًا.
وأعلنت وزارة النفط السورية الإثنين 5 من أبريل/نيسان الحاليّ، بدء تطبيق الآلية الجديدة لتوزيع مادة البنزين وفق نظام الرسائل النصية القصيرة، كبديل عن الطوابير والازدحام أمام محطات الوقود في مختلف المدن السورية، وذكرت أن الآلية الجديدة تعتمد على إرسال رسالة نصية قصيرة لهواتف المواطنين الجوالة تتضمن تفاصيل المحطة التي يتوجب التوجه إليها مع مدة صلاحية الرسالة، البالغة 24 ساعة، من وقت الإرسال.
وبعد الطريقة الجديدة التي وجدتها الحكومة انخفضت أعداد السيارات التي كانت مصطفة أمام محطات الوقود، إلا أن الرسالة لم تصل إلى أحد وإنما تحاول حكومة النظام إنهاء الطوابير المصطفة من مئات السيارات والتخلص من الظرف المحرج الذي وصلت له.
وعن هذا الموضوع يقول الصحفي منار عبد الرزاق خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “السوريون يعلمون جيدًا أن لا حلول في الأفق، وتصريحات النظام مجرد تخدير مؤقت ووهمي لم يؤثر في حل المشكلة، ويعتقد معظمهم أن حلول النظام للأزمات الاقتصادية المتلاحقة في البلاد هي حلول ترقيعية لا يمكن التعويل عليها”.
ومؤخرًا استطاعت حكومة النظام عقد اتفاقية مع قسد، فيقضي الاتفاق فتح المعابر بين الطرفين، وأن تزوّد قسد النظام بما يقرب من 200 صهريج نفطي يوميًا، مع إلزام السيارات التجارية بدفع ضرائب بنسبة 30% من قيمة حمولتها، وخمسة آلاف ليرة عن كل فرد يدخل مناطق سيطرة “قسد”.
وعلق الصحفي على الموضوع قائلًا: “إنها مجرد مخدر للشارع السوري، لأن الكميات التي يتم الحديث عنها محدودة لا تتجاوز عشرات البراميل أسبوعيًا وبعيدًا عن أعين التحالف الدولي، ما يجعل اعتماده على شرق البلاد أمرًا صعبًا للغاية في تأمين الكميات الكافية، لمناطق سيطرته”.
أسباب فقدان الوقود
العامل الرئيسي هو الانهيار الاقتصادي الذي أفقد النظام القدرة على مده بالموارد النفطية، وزيادة سطوة الميلشيات على الأرض يجعل المواد النفطية تحت احتكار الميلشيات الموجودة في مناطق سيطرته، وما يدل على ذلك توافر المادة في السوق السوداء بأسعار خيالية، فقد بلغ سعر اللتر الواحد نحو 4500 في أسواق حلب و5000 في أسواق دمشق.
وأضاف الصحفي “عدم إمداد إيران للنظام بالمواد النفطية المتفق عليها، لسببين: الأول معرفتها بعدم قدرة دمشق على السداد، وثانيًا العقوبات المفروضة على إيران والنظام التي تعيق الوصول في المواعيد المحددة، وأيضًا انعدام الموارد لدى حكومة الأسد يقلل من فرص الإمداد من حلفائه”.
موضحًا “النظام كان يعتمد فيما سبق على عمليات التهريب من لبنان الذي أصبح يعاني من واقع اقتصادي مزرٍ، وكذلك على تهريب كميات من مناطق قسد شرق الفرات التي غالبًا ما تجابه بتهديدات أمريكية تمنع وصول إمداداتها بشكل حقيقي، وبالتالي انعدام طرق التهريب يغلق الباب أمام الحلول الجزئية التي كان يستخدمها في السابق”.
من جهته يقول المحلل الاقتصادي السوري يونس الكريم، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “الاتفاق مع قسد غير مجدٍ ولا يمكن أن تكتفي مناطق النظام من المحروقات لأن معظم آبار النفط ذات الإنتاج الجيد والجودة العالية يسيطر عليها التحالف الدولي بينما هناك عدد آخر تسيطر عليه بعض العشائر وهي ذات إنتاج ضعيف”.
وأضاف “الآبار الواقعة داخل سيطرة النظام تحكمها الميليشيات وهي ذات إنتاج ضعيف، كما أن تضرر الأنابيب وغياب قطع الغيار يجعل الكميات التي من الممكن أن تستخرج محدودة لا وجود أثر لها في السوق”.
وتشكل المحروقات حاجةً ضروريةً، لا يمكن غيابها ليس للنقل فقط وإنما للكهرباء لتشغيل المعامل والمصانع وغيرها بعد تدهور وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر وانتقال التجار إلى توفير الكهرباء عبر المولدات الكهربائية التي تعتمد على المحروقات.
أثر فقدان المحروقات على الحركة التجارية الداخلية وزاد من عشوائية الأسواق المحلية في ظل ارتفاع متواصل للسلع، وتفاوت أسعارها مع غياب الرقابة وانشغال حكومة النظام في الأزمات المتراكمة التي تشهدها البلاد بشكل متواصل.
وعن الموضوع يؤكد قائلًا: “توقف الطلب على السلع، وهذا الأمر أثر على العرض، فسيساهم في خسائر المواطنين وعدم القدرة على نقلها للأسواق، وسيزيد من ارتفاع سعرها أو كسادها، ما يعني انهيار القدرة الشرائية وهذا سيساهم في معاناة المواطنين لا سيما مع انهيار الليرة السورية”.
أزمات مستمرة يعيشها السوريون
يبدو أن الأهالي يعيشون أمام تحديات وتراكمات تزيد من بؤس أوضاعهم المزرية التي وصلوا إليها في ظل دولة تحكمها الميليشيات، حيث القوي يأكل الضعيف، ويشتكي السكان من الأوضاع التي تعيشها عموم مناطق سيطرة النظام بسبب تعطلهم عن أعمالهم بسبب انعدام حركة السير في مختلف المدن الرئيسية.
فقد أظهرت مقاطع مصورة طوابير طويلة من السيارات الممتدة من أحياء إلى أخرى داخل المدن السورية، وتظهر المشاهد عشرات الناس ينتظرون لساعات في مواقف السيارات العامة ويتزاحمون للحصول على مقعد في سرفيس مكتظ بالركاب.
يقول سائق سيارة نقل عامة رفض كشف اسمه من مدينة حلب، لموقع “نون بوست” إنه ينتظر أمام محطة الوقود أكثر من 24 ساعة كل أربعة أيام للحصول على البنزين، إذ خفضت الحكومة نسبة التعبئة إلى النصف تقريبًا وهذه النسبة فعليًا لا تكفي للعمل يوم واحد كل أربعة أيام وينتظر يومين لتعبئة مادة البنزين في سيارته”.
ويضيف “الوقود غير متوافر وإن توافر في السوق السوداء فهو بأسعار خيالية، وفي محطات الوقود أيضًا نواجه صعوبة في الحصول عليها ناهيك بالسماح لشخصيات محسوبة على الحكومة باختراق الطوابير لتعبئة البنزين دون العودة إلى الكمية المخصصة”.
ويوضح الرجل أن الناس يعيشون في وضع مزرٍ متعدد الأزمات أولها انهيار الليرة السورية وفقدان قيمتها أمام سعر الصرف، وتدهور الوضع المعيشي وعدم تناسب مستوى الدخل وأزمة الوقود أيضًا زادت الطين بلة.
ويضاف إلى طوابير السيارات طوابير الخبز التي تنتشر أمام الأفران، فينتظر السكان ساعات طويلة أمام الأفران للحصول على مخصصاتهم من الخبز المدعوم 100 ليرة للربطة الواحدة، بينما يستغل تجار الأزمات صولتهم لدى الحكومة في بيع الخبز ذاته في الشوارع بسعر 1000 ليرة للربطة الواحدة، ما أثار استياء الأهالي.
ويبدو أن حجم الوارد الشهري للموطن السوري لا يتجاوز في أحسن الأحوال 20 دولارًا، بينما صرفياته تتعدى الـ300 دولار على الأقل في ظل ارتفاع أسعار السلع بين 50 و100 ضعف، وهي مؤشرات تُدلل على أن الواقع في الهاوية، ولولا حوالات السوريين في الخارج لكانت المشاهد التي تأتي للسوريين في الداخل أكثر من مفجعة، لكنها فعليًا تخفف من الواقع المأساوي لبعض السوريين فيما يجد آخرون أنفسهم تحت خط المجاعة والفقر.