في مثل هذا اليوم قبل عامين، أعلن وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف، الانحياز للثورة الشعبية التي قام بها السودانيون في 19 من ديسمبر/كانون الأول 2018 اعتراضًا على الوضعين المعيشي والسياسي، معلنًا عزل الرئيس عمر البشير من منصبه، وتعطيل العمل بالدستور وإعفاء الحكومة، وتعيين مجلس عسكري مؤقت لإدارة شؤون البلاد.
كان الغاضبون الذين ملأوا شوارع الخرطوم وضواحيها ومختلف المدن والشوارع العامة والرئيسية يؤملون أنفسهم بحياة كريمة ومستقبل أكثر إشراقًا من واقعهم المظلم الذي قبعوا فيه لعقود طويلة تحت حكم البشير، إذ تصاعد منسوب الأمل رويدًا رويدًا مع عزل رأس نظام الإنقاذ الذي جثم على صدور السودانيين 30 عامًا.
عامان على الرحيل.. لكن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن، فالأوضاع لم تتبدل كثيرًا، والمعاناة لم تنته، والحلم بحياة أفضل تجمد مؤقتًا، قبيل أن يتحول إلى كابوس، فيما تصدر المشهد من خرج الناس لأجل الإطاحة بهم في المقام الأول، ليعاني الشعب السوداني من لعبة الكراسي الموسيقية التي خيمت على المشهد السياسي طيلة الـ24 شهرًا الماضية.
هيمنة العسكر
العسكر في كل الأنظمة الديكتاتورية هم اللاعب الأبرز حضورًا على الموائد السياسية كافة، فهم العامل المشترك مع أي سلطة حاكمة، والعصا التي تسير الأمور إبان الأزمات، لا سيما وقت الانتفاضات الثورية التي تفتقد للقيادة والرؤية والخطة الموضوعة سلفًا لإدارة المشهد، كما هو المشهد في معظم دول الربيع العربي.
بعد عزل البشير، آلت السلطة في السودان لمجلس عسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه في المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، وبلغت عضويته 10 من القيادات الأمنية والعسكرية، فيما تم تهدئة الأوضاع بإبعاد بعض القيادات التي قيل إنها محسوبة على النظام البائد – وإن كانت هناك اتهامات بوجود أياد إماراتية في هذا الأمر -، ومن أبرزهم الفريق عمر زين العابدين والفريق شرطة الطيب بابكر ونائب مدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق جلال الدين الشيخ.
ورغم المعارضة الشعبية لتغول العسكر في المشهد رغم المطالب الثورية بنظام حكم مدني، فإن توسيع نفوذ الجنرالات كان العنوان الأبرز للمشهد طيلة العامين الماضيين، فلم يعد الأمر مشاركة في الحكم قدر ما هو هيمنة شبه كاملة على مقدرات الدولة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ساعد عسكر السودان في تعظيم رقعة سلطاتهم الدعم الكبير المقدم لهم من بعض العواصم الخليجية على رأسها أبو ظبي والرياض، فسعيا لفرض أجندتهما السياسية مبكرًا، قبل خروج الوضع عن السيطرة وإنجاح الثورة التي قد تهدد مصالح كلا البلدين في إفريقيا والمنطقة برمتها.
واصل جنرالات السودان نزيف التخلي عن الثوابت الوطنية والقومية التي كانت تتمسك بها البلاد لعقود طويلة
تشقق الكتلة المدنية
من إفرازات ثورة 19 ديسمبر/كانون الأول تدشين مكون مدني قوي، تحت اسم “قوى الحرية والتغيير” كان بمثابة رأس حربة الخريطة السياسية السودانية الجديدة، كونه المظلة الرئيسية للقوى والحركات السياسية الداعمة للثورة، مُشكلًا من المكونات على رأسها تجمّع المهنيين السودانيين، الجبهة الثورية وتحالف قوى الإجماع الوطني وكذا التجمع الاتحادي المُعارِض.
كان الهدف من بداية تدشينه القضاء على الحكم العسكري وفتح الطريق أمام حكم مدني قادر على العبور بالبلاد من مرحلة الديكتاتورية إلى الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة، ورغم المآخذ التي أخذها الكثيرون على هذا التيار، كان اللبنة نحو تدشين تكتل مدني يمكن الانطلاق من خلاله.
لكن بعد عامين من نجاح هذا التيار في الإطاحة بالبشير ها هو يتعرض لهزات عنيفة أحدثت شروخات عميقة في جدرانه، كانت البداية بتجميد حزب الأمة القومي، أكبر أحزاب المعارضة، لنشاطه في التحالف، في أبريل/نيسان 2020، ليتبعه العديد من الأحزاب الأخرى مثل البعث السوداني.
الحزب الشيوعي هو الآخر أعلن انسحابه بعدما ألمح إلى وجود اتفاقات سرية مشبوهة تحاك ضد مصالح السودان مع السلطة الانتقالية وبعض القوى الخارجية، هذا بخلاف اتهامه لبعض قيادات قوى “الحرية والتغيير” للتخطيط من أجل الانقلاب على ثوابت الثورة، ما كان له أسوأ الأثر على شعبية التحالف برمته.
وأمام تلك الضربات التي يرجح البعض وقوف الجنرالات خلفها، وجد العسكر – المدعومون خارجيًا – الساحة مهيأة تمامًا لفرض السيطرة بعدما انعزل المكون المدني بالحكومة بقيادة عبد الله حمدوك عن حاضنته الشعبية، وبات أداة سهل السيطرة عليها بأيدي المكون العسكري الذي استطاع بسط هيمنته بصورة أقوى مما كانت عليه في عهد نظام الإنقاذ.
سقوط الثوابت
واصل جنرالات السودان نزيف التخلي عن الثوابت الوطنية والقومية التي كانت تتمسك بها البلاد لعقود طويلة، فالخرطوم الشهيرة بـ”عاصمة اللاءات الثلاثة” ضمن مخرجات القمة العربية في 1967، حين أكدت أنه “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل” انضمت لركب الدول المطبعة، لتكتب حقبة جديدة في تاريخ المنطقة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2020 أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أن الخرطوم وتل أبيب باتا على بعد خطوات قليلة من إبرام اتفاق تطبيع على غرار الإمارات والبحرين، في خطوة استهدف الرئيس الجمهوري من خلالها التسويق لنفسه سياسيًا مقابل حزمة من الإغراءات المقدمة للدولة العربية التي تعاني من أوضاع اقتصادية متأزمة.
المتابع الجيد للمشهد في السودان يجد أن الوضع لم يتغير على أرض الواقع، فالإحباط ما زال يخيم على الأجواء، وعدم الرضا هو السمة الغالبة على الشارع السوداني
وفي الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني هذا العام ضربت السلطة الانتقالية بكل أصوات المعارضة للتطبيع عرض الحائط، حين وقعت على اتفاق أبراهام مع الكيان الصهيوني، وهو التحرك الذي أحدث انقسامًا بين التيارات والأحزاب السياسية والمدنية، فريق يرفض هذه الانتكاسة وآخر يؤيد بدعوة المكاسب المحققة من ورائه.
وبينما كان بالأمس يلوم الثوار على البشير ارتهان قرار بلاده السياسي لمن يدفع أكثر، ها هو اللوم نفسه يوجه للسلطة الانتقالية الحاليّة التي أسقطت ثوابت الدولة من أجل حفنة من المصالح المؤقتة المرهونة في الغالب برضا أطراف خارجية، ما يقوض استقلالية السودان ونزاهة تحركاته الإقليمية.
لم يتغير شيء
الأهداف التي خرج لأجلها الغاضبون قبل 29 شهرًا ماذا تحقق منها؟ المتابع الجيد للمشهد في السودان يجد أن الوضع لم يتغير على أرض الواقع، فالإحباط ما زال يخيم على الأجواء، وعدم الرضا هو السمة الغالبة على الشارع السوداني، بل ذهب البعض إلى أن الأمور تزداد من سيئ إلى أسوأ.
على الجانب السياسي.. لم يتحقق شيء من أحلام الديمقراطية والمدنية، فعسكرة المشهد باتت إستراتيجية يتم تعزيزها يومًا تلو الآخر، بل إن قبول القوى الثورية المدنية ممثلة في “قوى الحرية والتغيير” بتقاسم السلطة مع جنرالات النظام البائد وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان وحميدتي وكلاهما كانا ذراعين مهمين للبشير، أعطى الجنرالات سلطة مطلقة لإدارة شؤون الدولة فيما تم تقزيم التيار المدني وتقليم أظافره.
وعلى المستوى الاقتصادي ما زال السودانيون يعانون من أوضاع معيشية متدنية، وارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة ونسب الفقر وحجم التضخم، هذا بخلاف الانهيار الكبير لأسعار العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما أدى إلى استمرار الفعاليات التظاهرية والاحتجاجية التي لم تهدأ منذ تسلم السلطة الانتقالية عملها سبتمبر/أيلول 2019.
وحتى المكاسب التي كان يؤمل حمدوك ورفاقه الجنرالات أنفسهم بتحقيقها من وراء التطبيع لم يتحقق منها شيء حتى الآن، إلا رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب، وإعادة التعامل بينها وبين المنظمات التمويلية الدولية، غير أن المواطن السوداني لم يتلمس شيئًا واقعيًا من تبعات ذلك على حياته المعيشية.
أما على المستوى الثوري، فمطالب الثوار لا تزال أضغاث أحلام تضاجع مناماتهم دون تحقق أي منها، ما انعكس على الكيان الثوري التي تفتت لحمته، وتشتت قواه في ظل صراع النفوذ بين مكوناته السياسية، ما أفقده جزءًا كبيرًا من رصيده الشعبي، وهو ما يخدم بالتبعية العسكر ونظامهم القائم بالفعل على أركان نظام الإنقاذ وإن تغيرت الملامح وتبدلت الوجوه.
ولعل النقطة الوحيدة المضيئة في هذا المسار هي الاتفاق الذي تم توقيعه بين الحكومة والحركات المسلحة في جوبا نهاية أغسطس/آب الماضي، وهو الاتفاق الذي أنهى سنوات طويلة من النزاع بين الطرفين كان له تأثيره السلبي على خريطة الاستقرار في البلاد، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من كل الأطراف في الداخل والخارج.
وفي المحصلة.. وبعد عامين كاملين على تحقيق الثورة السودانية مطلبها الأول بسقوط نظام الإنقاذ، رحل البشير وبقي نظامه، غادر الرأس ليظل الجسد بأذرعه وأقدامه، اكتفى الثوار بحلم الديمقراطية المدنية فيما سيطر الجنرالات على الواقع، ورغم ذلك لم يفقد السودانيون الأمل في الخروج من هذا النفق المظلم حتى إن لم يكن بداخله سوى ضوء خافت من بعيد.