ترجمة وتحرير: نون بوست
في 25 آذار/ مارس الماضي، كان العشرات من أفراد قبيلة الدواغرة متجمعين لتناول عشاء جماعي عندما اقتحمت أربع شاحنات صغيرة تقلّ ما لا يقل عن 23 من مقاتلي تنظيم الدولة قرية العوامرية في بئر العبد، شمال سيناء.
قال أحد أفراد القبيلة يدعى مغنام لموقع “ميدل إيست آي” إن “التكفيريين نزلوا من السيارات، وأطلقوا طلقات تحذيرية، وضربوا شابين تبادلا الشتائم معهم. وأمروا جميع الرجال بإلقاء أسلحتهم وأخذوا بشكل عشوائي 14 رجلا من القبيلة وغادروا”.
وأضاف أن المسلحين كانوا يحملون أسلحة خفيفة وسكاكين ومدفعا رشاشا مثبتا في إحدى الشاحنات: “أطلقوا علينا اسم المرتدين لأننا نساعد الجيش كمرشدين وعملاء”، موضحا أن المخطوفين هم آباء وأبناء وأبناء عم، ومعظمهم تربطهم صلة قرابة بالدم والزواج.
أفاد مغنام بأن المسلحين جابوا بئر العبد بحرية للوصول إلى قريتهم، مشيرا إلى أنهم “يعلمون أن بإمكانهم فعل ما يريدون وقيادة سياراتهم بحرية لأنه لا يوجد جيش أو شرطة لإيقافهم”.
تعاون خطير
تعد قبيلة الدواغرة من إحدى قبائل شمال سيناء العديدة التي تساعد قوات الجيش والشرطة في شبه الجزيرة التي تعيش حالة احتقان منذ سنة 2014 وصعود الجماعات المسلحة، لا سيما الجماعة التابعة لتنظيم الدولة في محافظة سيناء.
منذ وقوع عمليات الاختطاف، دخلت القرية في حالة حداد وظلت تنتظر اتصالا من الجيش أو المسلحين الذين قد يطلبون فدية. ولكن العديد من سكان القرية، بما في ذلك مغنام، كانوا يخشون الأسوأ: وهو رؤية الأقارب والأصدقاء يُعدمون في مقطع فيديو دعائي لتنظيم الدولة أو سماع ذلك على منصات التواصل الاجتماعي.
بعد تصاعد التمرد في أعقاب التفريق العنيف لاعتصام رابعة، تم التخلي عن أفراد المجتمع القبلي الذكور الذين تعاونوا، طوعا أو تحت الضغط، مع الجيش وتُركوا لمواجهة رد الفعل العنيف للمسلحين
إن مأساة عائلة مغنام مثال نموذجي على الحياة القاسية التي يعيشها آلاف السكان شمال سيناء، في بيئة معزولة شبيهة بالحرب بين نظام عسكري وتمرد مسلح متطرف، وسط قيود تفرضها الدولة على وصول الصحفيين إلى المنطقة.
رغم العديد من التصريحات الدعائية المثيرة والمسلسلات التلفزيونية التي تبعث على الشعور بالسعادة والتي تؤكد على “القضاء على الإرهاب” المزعوم من قبل الدولة، إلا أن الوضع في شمال سيناء لا يزال يشكّل حقيقة مروعة بالنسبة للسكان. وهذا ينطبق بشكل خاص على المجتمع القبلي الذي يعيش بالقرب من الحدود مع قطاع غزة و”إسرائيل”، وهو واقع يشمل التعذيب والاعتقالات الجماعية والقتل خارج نطاق القانون ونقص المياه والكهرباء والمضايقات من جانب المسلحين.
لجأت قوات الأمن المصرية، في سياق محاربة مسلحي تنظيم الدولة، إلى مساعدة القبائل المحلية إما كمخبرين سريين أو كقوات شبه عسكرية. وعلى غرار العديد من الحوادث والتفاصيل المتعلقة بحرب مصر ضد المسلحين في شمال سيناء، قلّما يتم الكتابة أو الإبلاغ عن هذا التعاون، بصرف النظر عن المقالات ذات النزعة القومية التي تحتفي بدور القبائل غير المحدد في مكافحة التمرد.
لكن منذ سنة 2013، بعد تصاعد التمرد في أعقاب التفريق العنيف لاعتصام رابعة، تم التخلي عن أفراد المجتمع القبلي الذكور الذين تعاونوا، طوعا أو تحت الضغط، مع الجيش وتُركوا لمواجهة رد الفعل العنيف للمسلحين. وقع إعدام العديد منهم – وغالبا ما قُطعت رؤوسهم – أو اختطفهم المسلحون، دون ذكر أي منهم تقريبا في الصحف المحلية أو البيانات العسكرية، ودون الاعتراف بمجهوداتهم أو تكريمهم أمام عائلاتهم.
تحدث موقع “ميدل إيست آي” إلى أفراد عائلات المخبرين السريين المقتولين الذين عملوا مع الجيش والشرطة المصرية، بالإضافة إلى سكان شمال سيناء الآخرين الذين تلقوا تهديدات بالاحتجاز إذا لم يتجسسوا على المسلحين.
يعود التعاون العسكري المدني بين الجيش المصري وسيناء إلى حرب 1967، حيث حاولت مصر كسب ثقة البدو بعد سيطرة “إسرائيل” على شمال وجنوب سيناء. في الأعمال الأدبية التي سلطت الضوء على هذه الحرب، قاد البدو القوات المصرية ومقاتلي حرب العصابات في العمليات قبل حرب سنة 1973، حيث أكّد العديد من القادة العسكريين على فعالية وولاء قوات سيناء. وقال سلمان، أحد كبار رجال القبائل، إنه “بعد أن استعادت مصر سيطرتها على سيناء، لم تقع مكافأة البدو والقبائل”.
حسب سلمان، لا تزال شمال سيناء حتى يومنا هذا تفتقر إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية والاعتراف الوطني. وأضاف سلمان، الذي يبلغ حاليا 60 سنة، واعتقل سنة 2004 في جنوب سيناء بعد تفجيرات طابا، التي قُتل فيها عشرات السياح في هجمات منسقة في سيناء، إنه “يتم تصويرنا إما باعتبارنا جواسيس مخلصين للجيش أو تكفيريين تابعين لتنظيم الدولة. لقد أجبرونا على أن نختار بين أحدها. لا يمكن للمرء أن يظل محايدا”.
ذكر سلمان أنه احتُجز 18 يوما، معصوب العينين، واستُجوب باستمرار، في مبنى أمن الدولة في شمال سيناء. ولم يسمحوا له بالمغادرة إلا بعد أن تعهد بالتعاون مع الجيش للعثور على مخابئ جماعة التوحيد والجهاد النشطة آنذاك، والتي يمكن القول إنها أول الجماعات المتطرفة المتشددة التي ظهرت في شمال سيناء.
أخبر سلمان موقع “ميدل إيست آي” بأنهم هددوا باعتقال والاعتداء على زوجته إذا لم يتعاون، وهي طريقة معتادة لإجبار المدنيين على التحول إلى عملاء، مضيفا “نحن بدو، لا نملك سوى شرفنا. كان علي أن أفعل ذلك لإنقاذ عائلتي”. في النهاية، اضطر رجال القبائل المسنون إلى المغادرة إلى جنوب سيناء ليعيشوا في سلام. وقال سلمان إن “ضباط أمن الدولة والمخابرات العسكرية سوف يستخدمون أي نقطة ضعف لتجنيد رجل: ابنك المريض، وزوجتك، وسجلك الإجرامي، وحتى منزلك”. وأضاف سلمان أن نقاط التفتيش والوحدات العسكرية هي أفضل الأماكن لاختيار العناصر المحتملة، حيث كان ضباط المخابرات يراقبون تحركات المسافرين.
اعتقل فياض، وهو يعمل سائق شاحنة ينقل الخضار بين السويس والإسماعيلية وشمال سيناء، في إطار الاعتقالات الجماعية التي حدثت خلال حملة سيناء 2018. قال فيّاض: “كان لديّ سجل جنائي مرتبط بالاتجار منذ سنوات. هددني الضابط بالاحتجاز لسنوات إذا رفضت العمل لصالحه. لقد استغل أيضًا حاجتي إلى السفر كل شهر مع ابنتي لكي تخضع لغسيل الكلى في السويس”.
كانت مهمته الأولى جمع المعلومات عن تجار الخضار الذين يسلمون البضائع إلى المسلحين. وقال فياض إنه لفّق بعض الأسماء لكنه اعتقل فيما بعد وتعرض للتعذيب لمدة شهرين. وبعد الإفراج عنه، اكتشف أن ضابط العمليات الذي يعمل لصالحه قد نُقل إلى محافظة أخرى.
حسرة العائلات
ذكر فياض أنه كان محظوظا مقارنة بمصير صديقه موسى عثمان، الذي كان يعمل في مديرية تموين شمال سيناء. اختطف في كانون الثاني/ يناير الماضي وأعدم في بئر العبد. وادّعى فرع تنظيم الدولة في محافظة سيناء بأن عثمان كان “جاسوسا.. يعمل لصالح الجيش المصري المرتد”. وقال فياض “اكتشفنا لاحقا أنه كان يبلّغ الجيش عن تجار السوق السوداء الذين يبيعون البنزين والوقود للمتشددين”. وبعد شهر من إعدامه، أطلق اسم عثمان على ملعب بئر العبد الرياضي.
بينما تم تخليد ذكرى عثمان، لا تزال عائلات المخبرين الآخرين الذين تم إعدامهم يرْثون أقاربهم الذين قُتلوا بسبب تعاونهم مع الجيش المصري. في 25 أيلول/ سبتمبر 2016، تلقت عائلة حسين أبو درويش مكالمة هاتفية من ضابط شرطة تفيد بأنهم عثروا على جثة درويش مقطوعة الرأس. وفي هذا الخصوص، قال فرد من الأسرة طلب عدم ذكر اسمه إن درويش تعاون مع الجيش في عدة مناسبات.
ذكر قريبه أنه أبلغ ضابط العمليات بتحركات أعضاء تنظيم الدولة ومواقعهم. في أحد الحوادث، استخدم الضابط المعلومات الاستخبارية وداهم وكرا على ذمة المسلحين. في ذلك الوقت، اتصل درويش بشكل متكرر بضابط العمليات. وعندما أجاب الضابط قال لدرويش: “لا أستطيع مساعدتك. عول على نفسك”. وقال قريبه: “في اليوم التالي، اعتقل المسلحون حسين واستجوبوه، ووجدنا رأسه منفصلا عن جسده”.
غياب الحماية
منذ 2013، ينشر فرع تنظيم الدولة في محافظة سيناء لقطات لمسلحيه وهم يستجوبون المدنيين الذين اعترفوا بالعمل مع الجيش أو الشرطة المصرية أو المخابرات الإسرائيلية أو الميليشيات الموالية للجيش. تُستخدم مقاطع الفيديو كمواد دعائية لإظهار مدى تعقيد عملية التجسس المضاد للمجموعة. على مر السنين، استخدمت الجماعات خبرات أفراد الأمن السابقين، بما في ذلك مقاتلين من غزة وليبيا وسوريا والعراق.
قال قريب درويش: “هذه ليست معركتنا” مضيفًا أن “الجيش والشرطة يستخدمون المُخبر كوسيلة للحصول على المعلومات والأسماء، ثم يتركونه ليواجه مصيره بمفرده دون حماية”.
أفاد سامح، مدرس في مدرسة وعضو في قبيلة الترابين، أكبر شبكة عشائرية موالية للحكومة في شمال سيناء، بأن جميع المخبرين الذين يعملون مع الجيش لا يُجبرون على القيام بذلك، بل يتطوع البعض منهم للحصول على مزايا ومكانة ومورد رزق”.
قامت قبيلة الترابين وقبائل أخرى في سنة 2017 بإنشاء اتحاد قبائل سيناء، وهو فصيل شبه عسكري من المسلحين الموالين للحكومة. وقال سامح إن الفصائل الأقوى والأكثر ازدهارا في القبيلة هي الوحيدة المستفيدة من “التقارب بين الجيش واتحاد قبائل سيناء”. يرى المدرس، الذي درس في القاهرة، أن هذه العلاقات معقدة.
تساءل سامح: “كيف نضمن أن القبائل المسلحة لن تضطهد خصومها وتزعم أنهم العدو؟ كيف يمكننا أن نضمن أن رجل المليشيا التي تعمل مع الجيش في انتقاء مدنيين عشوائيين من الحواجز لا يعتقل جاره الذي يدين له بالمال؟”. وضح سامح أن الدولة أصدرت عفوا عن جميع أفراد أسرته من مختلف الجرائم التي ارتكبوها قبل 2011 ووثقت بهم. قبل سنة 2011، كنا تجار مخدرات ومهربين، والآن نحن المقاتلون الأبطال الذين يحاربون الإرهاب الخبيث.
في تقرير صدر في سنة 2019، حذّرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” من اعتماد الجيش على الميليشيات الموالية للحكومة، وقالت إنها “تستخدم سلطة الأمر الواقع للقبض التعسفي على السكان وتسوية الحسابات والخلافات الشخصية”، مضيفة أنهم متورطون أيضًا في التعذيب وعمليات القتل خارج نطاق القانون.
الإنكار
نددت عايدة سواركة، النائب عن شمال سيناء وعضو قبيلة السواركة الموالية للجيش، بالتقارير أو الشهادات التي انتقدت التعاون بين القوات المسلحة المصرية والمليشيات. ونفت لموقع “ميدل إيست آي” حقيقة أن الجيش والشرطة جندوا أفراد القبيلة تحت الضغط أو استخدموهم دون توفير الحماية الكافية لهم.
وأوضحت سواركة أن “اتحاد قبائل سيناء يساعد الجيش المصري من خلال مدّهم بالمعلومات والدعم عند الحاجة، حيث يقر أهالي سيناء بأهمية القضاء على الإرهاب لأنهم أمضوا سنوات في ظل انعدام الأمن”.
وأنكرت النائب عمليات الخطف التي وقعت في قرية العوامرية. واتهمت جماعة الإخوان المسلمين بنشر معلومات كاذبة عن الأوضاع في سيناء: “أما الجثث التي يتم العثور عليها، فقد تكون من أعضاء الجماعة (تنظيم الدولة) الذين قُتلوا، لكن الإخوان والمنظمات الأجنبية الخائنة (جماعات حقوق الإنسان) تُضلل الحقائق بغية انتقاد الدولة”. لكنها أكدت أنه “منذ بداية حملات مكافحة الإرهاب، فقد الكثير من رجال القبائل حياتهم لكي يهبوا لنا السلام والأمان في سيناء”.
المصدر: ميدل إيست آي