في مطلع القرن العشرين وعلى تخوم المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والشام، تزامنًا مع الحرب العالمية الأولى، وقع حدث اجتماعي وسياسي مهم كان أبطاله من نخب “العائلة الهاشمية”، هو ما عرف باسم الثورة العربية الكبرى.
رغم حداثة هذا التاريخ وأهميته ودوره في التأسيس لكثير من الوقائع السياسية في منطقتنا العربية، ومن بينها نشأة ما يُعرف باسم دولة الأردن بشكلها المعاصر، فإن كثيرًا من أحداث هذه الحقبة لم نستطع فهمها إلا بعد مرور 100 عام على مجراها، حينما أفرجت بريطانيا عن أرشيف هذه الفترة وبدأ الباحثون في التدوين عنها.
ومع مرور نحو قرن على الثورة العربية الكبرى في هذه المنطقة، فإنّ تغيرًا كبيرًا لم يحدث في جوهر طريقة إدارة الأمور، وعلاقة السلطة بالمواطن العربي، فقد وقعت محاولة انقلاب ضخمة في الأردن الأسبوع الماضي كادت أن تطيح بالحاكم، وبسبب التعتيم المركزي والبيانات المغلوطة لم نستطع تجميع خيوط الحدث بدقة، باستثناء بعض التحليلات القادمة من صحيفة واشنطن بوست الأميركية وشبكة بي بي سي البريطانية، وبعض وسائل إعلام الجارة الحدودية للأردن: “إسرائيل”.
وقد استفاض الإعلام العربي خلال الأيام القليلة الماضية في عرض خلاصات المنصّتين الأميركية والبريطانية، والتي كان بعضها صحيحًا وبعضها متضاربًا غير دقيق، في هذه المادة نقدم الرواية الثالثة، رواية إعلام وصحافة دولة الاحتلال، في محاولة لفهم كواليس ما جرى ليلة الثالث من أبريل/ نيسان الحالي.
إبلاغ سريع
قبل هذه الحادثة بمدة، كان معروفًا أن هناك بعض التوتر بين الجانبين “الإسرائيلي” والأردني، على خلفية ما عُرف إعلاميًّا، نقلًا عن الملك عبد الله الثاني، باسم “اللاءات الأربعة” للأردن في وجه المشروع الصهيوني، والتي كان على رأسها رفض أي وضع يهدد الوصاية الهاشمية على القدس، ورفض أي طرح سياسي يتنافى مع دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
حرص مسؤولون رفيعو المستوى في قيادة الجيش الأردني على الاتصال الميداني مع نظرائهم في جيش الاحتلال الإسرائيلي لإبلاغهم رسالة واضحة وحاسمة
وقبل الانقلاب بوقت قصير، وقعت حادثة معروفة كشفت مزيدًا عن التوتر في العلاقات الأردنية “الإسرائيلية”، وهي منع عمّان مرور طائرة رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو في الأجواء الأردنية باتجاه الخليج العربي (الإمارات)، ردًّا على رفض دولة الاحتلال زيارةً مماثلة من ملك الأردن إلى مدينة القدس.
وبالتزامن مع محاولة الانقلاب تقريبًا، ركزت الصحافة العبرية (هآرتس) على إبراز واقعة في سياق التوتر نفسه بين الطرفين، وهي رفض رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو اقتراحًا فنيًّا مقدمًا من خبراء المياه في بلاده، للسماح بمرور بعض تدفقات المياه النظيفة للجارة الأردن، التي تعاني من فقر مائيّ متأصل، ومن شحٍّ في عوائد الأمطار في فصل الشتاء، مقابل وفرة عند الجانب “الإسرائيلي”.
اللافت في الأمر أنه على الرغم من فصول هذا التوتر السياسي بين الطرفين، فقد حرص مسؤولون رفيعو المستوى في قيادة الجيش الأردني على الاتصال “الميداني” مع نظرائهم في جيش الاحتلال الإسرائيلي لإبلاغهم رسالة واضحة وحاسمة مفادها أن الأمور كلها تحت السيطرة، وفق ما وثّقه عدد من المراسلين مثل باراك بن رافيد مراسل موقع “والا نيوز” العبريّ.
الدور “الإسرائيلي”
تكشف هذه التفصيلة أمرين مهمين، الأول أنّ القيادة السياسية والعسكرية في الأردن في هذا التوقيت لم تنظر إلى الجانب “الإسرائيلي” كمشاركٍ أساسي في محاولة الانقلاب على الملك عبد الله الثاني، وأن التنسيق الأمني مستمر على أعلى المستويات في أحلك الظروف الميدانية.
في المقابل من هذه المعلومة المتعلقة بمسارعة العسكريين الأردنيين إلى إبلاغ وتطمين نظرائهم “الإسرائيليين” بعدم خروج الأوضاع عن السيطرة، فإن الجانب “الإسرائيلي” على المستوى السياسي، نتنياهو ودائرته، كان بالفعل على اتصال لحظيّ مع الدوائر الأمنية، الموساد وأمان، التي أبلغته بما جرى وقت حدوثه.
ومع عدم ذكر الصحافة العبرية لدور مركزي لأجهزة دولة الاحتلال في المشاركة بمحاولة الانقلاب الفاشل على الملك، الذي يقبع على رأس البلاد منذ 22 عامًا، فإن الصحافة نفسها (يديعوت أحرونوت) تحدثت على مضض عن عرض من جهاز الموساد لتهريب زوجة الأمير حمزة حسين، المتهم الرئيس في التخطيط للانقلاب على الملك، وعائلتها بطائرة مروحية تقلّها من الأردن إلى دولة أجنبية.
هناك إجماع على دور المملكة العربية السعودية الخلفي في محاولة الانقلاب استنادًا على عدة شواهد على رأسها الارتباط التاريخي والنفوذ السياسي للسعودية في الأردن
وقد أدى هذا الوضع، وعوامل أخرى، إلى عدم ثقة الملك عبد الله في أي أحد من دائرته المقربة، داخليًّا من العائلة الهاشمية، وخارجيًّا من الخليج العربي و”إسرائيل”، بنيامين نتنياهو شخصيًّا، على حدّ وصف صحيفة يديعوت أحرونوت، في حديث عن الوضع العام بعد محاولة الانقلاب التي قال الملك إنها وئدت ويجري تسويتها داخليًّا.
تفاصيل ما جرى
وفقًا لما ذكره ضبّاط أردنيون بيروقراطيون رفيعو المستوى للصحافة العبرية، فإن ما جرى كان الأوسع نطاقًا، بالنظر إلى مكانة وعدد الشخصيات المتورطة فيه، وبالقياس على محاولات سابقة حضرها هؤلاء الضباط، ويمكن تصنيفها بين السياسي والأمني في خانة “تهديد جادّ لأمن المملكة”.
هناكَ إجماعٌ على دور المملكة العربية السعودية الخلفي في محاولة الانقلاب، استنادًا على عدة شواهد على رأسها الارتباط التاريخي والنفوذ السياسي للسعودية في المملكة الهاشمية الأردنية، واشتراك عدد من الشخصيات المقربة من السعودية في هذه المحاولة، مثل باسم عوض الله وزير المالية ومدير مكتب الملك السابق، والأمير حسن بن زيد عمّ الملك الأردني من الدرجة الثانية الذي يتنقل بين البلدين حاملًا جوازًا سعوديًّا، إلى جانب جوازه الأردني.
هذا بالإضافة إلى ما بات معروفًا عن القيادة السعودية الحالية من “رعونة” في إدارة كواليس الصراع مع حكّام مناطق نفوذها، كما جرى مع الحريري في لبنان من قبل، ومسارعة السعودية إلى إعلان دعم الملك عبد الله. وتستدل الصحافة العبرية على حدوث توتر مكتوم بين الرياض وعمان من خلال إحدى الزيارات التي حدثت من الملك عبد الله الشهر الماضي إلى السعودية بشكل سري، وجرت خلالها مقابلة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، دون الإفصاح عن الزيارة.
لكن ما استجد هو الانتقال من الإشارة المباشرة إلى دولة الإمارات من خلال الاستنتاج أن أبو ظبي غاضبة من إعاقة الملك عبد الله زيارة نتنياهو إليها، ثمّ الحديث عن دور لـ”إمارةٍ خليجية” بهذا النصّ دون تسمية، إلى التصريح باسم الإمارات، في سياق توثيق غضب الملك الشخصي من دورها في هذه المحاولة الانقلابية، كما أوردت الصحافة العبرية مؤخرًا.
مستقبل الأحداث
هناك إشارات إلى دور إنجليزي محتمل في محاولة الانقلاب، بالاستناد إلى “تحليلات” تعتمد على معلومة وجود الملكة نور، والدة الأمير حمزة الأخ غير الشقيق للملك عبد الله، في إنجلترا، ثمّ تسجيل الأمير حمزة مقطعًا باللغة الإنجليزية وإرساله إلى شبكة بي بي سي على وجه التحديد.
على الرغم من التوترات، تظل الأردن جارًا استراتيجيًّا لـ”إسرائيل” (..) سيستخدم الملك ما حدث من أجل تقوية حكمه وإبعاد خصومه
ساهم هذا المقطع، كما ذكر باراك رافيد، في قلب الأحداث تمامًا من جهتين: الأولى خروج الصراع العائلي من دائرة مغلقة وسرية إلى العلن وإدخال الجمهور في المعادلة، والثانية هي تكذيب سردية الدولة الأردنية عن عدم خضوع الأمير حمزة إلى الإقامة الجبرية، كما ذكر بيان الجيش في الساعات الأولى.
بالإضافة إلى ما هو معروف عن زيارته الأخيرة للقبائل في الكرك، ما أقلق الأوساط الحاكمة، واحتمال تلقيه دعمًا خارجيًّا في ظل غليان الشارع على أداء الحكومة الأردنية في الأزمات الاقتصادية الراهنة، فإنّ سمدار بيري من صحيفة يديعوت أحرونوت يرجح أن طموح الأمير حمزة، الذي ظل وليًّا للعهد في البلاد 5 أعوام، قبل أن يختار الملك نجله الأكبر لهذا المنصب، بالإضافة إلى رغبته في الانتقام من تهميشه وإبعاده حتى عن الزيارات الخارجية وأي دور في القصر، هما عاملان ساهما في إخراج المشهد الذي رآه العالم في الأيام الأخيرة.
اعتُقل 25 شخصًا مقربًا من الأمير حمزة على مدار الأيام السابقة لليلة التصعيد، من بينهم حراسه الشخصيون، وظلّ الأمير حمزة رفقة شقيقه الأمير هاشم وأخيه غير الشقيق علي، وكان مبنى المخابرات الأردنية في دابوق بعمّان هو المقر الذي تدار منه الأحداث.
ويكثّف الموقفَ “الإسرائيلي” الرسمي خلال هذه الليلة وما بعدها تصريحُ الأكاديمي في جامعة تل أبيب إيال زيسر لإذاعة الجيش، عن حدود التأثير والتأثر بما جرى، عندما قال: “هذا حدث درامي وقع في وقت عصيب للعائلة الحاكمة، تعاني خلاله من أزمات اقتصادية وأزمة كورونا، وعلى الرغم من التوترات، تظلُّ الأردن جارًا استراتيجيًّا لـ”إسرائيل” (..) سيستخدم الملك ما حدث من أجل تقوية حكمه وإبعاد خصومه”.