عقب التغريدات التي كتبتها السفارة الصينية في أنقرة، مهاجمة ومهددة لسياسيين أتراك من جناح المعارضة، كانوا قد اعترضوا على الانتهاكات الصينية بحق أقلية الإيغور في تركستان الشرقية، استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الصيني في أنقرة، ليو شاو بين، الثلاثاء 6 أبريل/ نيسان، لتعرب عن انزعاجها من منشورات السفارة، بحسب معلومات حصلت عليها وكالة الأناضول من مسؤولين في الخارجية التركية.
وردًّا على تغريدات داعمة لمسلمي الإيغور في ذكرى مرور 31 عامًا على مجزرة “بارين”، كان قد نشرها كل من رئيسة حزب “الجيد” التركي المعارض ميرال أكشينار ورئيس بلدية أنقرة منصور ياواش ممثل حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، المجزرة التي ارتكبها الجيش الصيني بحق الإيغور في تركستان الشرقية في 5 أبريل/ نيسان 1990، وراح ضحيتها المئات؛ أشارت السفارة الصينية إلى حسابهما على تويتر في تغريدة لها كتبت فيها: “يعارض الجانب الصيني بحزم ويدين بشدة أي تحدٍّ من أي شخص أو قوة لسيادة الصين ووحدة أراضيها، ويحتفظ بحق الرد المحق”.
وأثارت تغريدات السفارة الصينية غضب قادة وممثلي الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى كثير من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرين أن لغة السفارة تحمل تهديدًا ضمنيًّا لسياسيين أتراك، الأمر الذي رفضوه بشكل قاطع واعتبروه إهانة لكل تركيا، وطالبوا الحكومة بأخذ إجراءات صارمة بحق السفارة الصينية.
وتستنكر أحزاب المعارضة التركية صمت أردوغان وحكومته عن الممارسات القمعية التي تطبقها الصين بحق الإيغور، وتكيل له الاتهامات بأن الصين قد أخضعته واشترت صمته مقابل بعض الاستثمارات والقروض الحكومية، بالإضافة إلى بعض الامتيازات التي تتعلق بتسهيل حصول تركيا على لقاح كورونا الصيني.
تعاطف شعبي تركي
يرتبط الأتراك بأقلية الإيغور المسلمة ارتباطًا عرقيًّا وثقافيًّا، ويتكلم الإيغور لغة مشتقة من اللغة التركية، كما يبلغ عددهم في الصين نحو 11 مليون شخص، ويشكلون نحو 45% من سكان إقليم شينجيانغ. وفي أوائل القرن العشرين أعلن الإيغور استقلالهم لفترة وجيزة، لكن الإقليم وقعَ تحت سيطرة الصين الشيوعية عام 1949، ما دفع بالبعض للجوء إلى تركيا، ويعيش في تركيا اليوم قرابة الـ 50 ألف.
وقّعت في عام 2017 مع الصين اتفاقية تقضي بتسليم المجرمين بين البلدين، صادقت الصين على هذه الاتفاقية في حين لم يجرِ تمريرها في البرلمان التركي بعد
وعلى مدار العقود الماضية، عكفت تركيا على مساعدة الإيغور والدفاع عنهم في شتى المحافل الدولية، حيث يعتبرهم القوميون الأتراك إخوانهم في العرق. فمنذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا، نشطت المساعدات التركية السياسية والعينية للأقلية المضطهدة، وفتحت لهم الأبواب واستضافتهم في تركيا، وزودت البعض منهم بوثائق رسمية.
وبعد أن انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حملة القمع الي قامت بها السلطات الصينية بحق الإيغور عام 2009، ووصف الأمر على أنه “إبادة جماعية”، طرأ تغير جذري في النهج التركي الحكومي تجاه قضية الإيغور، وقرر أردوغان وحكومته التزام الصمت، الأمر الذي استهجنه الشعب التركي وأحزاب المعارضة.
وكان قد شارك آلاف المحتجين الأتراك في مسيرة بمدينة إسطنبول التركية في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019، دعمًا لأقلية الإيغور المسلمة في الصين، وعبّروا عن تضامنهم مع لاعب كرة القدم التركي مسعود أوزيل بعد الضجة التي أثارها انتقاده لسياسات الصين تجاه تلك الأقلية المسلمة.
ولم تكتفِ الحكومة التركية بالصمت، بل وقّعت في عام 2017 مع الصين اتفاقية تقضي بتسليم المجرمين بين البلدين، صادقت الصين على هذه الاتفاقية في حين لم يجرِ تمريرها في البرلمان التركي بعد، والاتفاقية الموقعة عبارة عن مشروع تسعى بكين من خلاله إلى ترحيل صينيين من أقلية الإيغور لجأوا إلى تركيا متهمين بالإرهاب، الأمر الذي يثير قلق نحو 50 ألف شخص من جالية الإيغور المقيمين في تركيا.
وفي وقت سابق، وصف أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق عن حزب العدالة والتنمية، وزعيم حزب “المستقبل” المعارض، أن إعادة أنقرة للاجئين الإيغور إلى الصين خيانة. وخلال خطابه في مؤتمر حزبه في محافظة أرداهان التركية، قال داوود أوغلو إن “هناك تقارير في وسائل الإعلام بأن تركيا تبذل جهودًا لإرسال 50 ألفًا من إخوتنا وأخواتنا من الإيغور إلى طاجيكستان ومن هناك إلى الصين”.
ومع الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لأنقرة، ناقش الطرفان وضع الإيغور بحسب تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، حيث كتب على صفحته الشخصية على موقع تويتر أننا “نقلنا حساسياتنا ووجهات نظرنا بشأن الأتراك الإيغور”.
الاستثمارات الصينية داخل الأراضي التركية
في العقد الأخير، جرى تعزيز التعاون الاقتصادي بين تركيا والصين، لتحل الصين على إثر ذلك في المركز الثالث كأكبر شريك تجاري لتركيا بعد روسيا وألمانيا، وبلغ حجم التبادل التجاري في الـ 5 سنوات الأخيرة ولغاية عام 2020 قرابة الـ 126 مليار دولار أميركي، الغلبة فيه للصين بنحو 113 مليار دولار أميركي حجم الواردات التركية من الصين، مقابل 13 مليار دولار أميركي صادرات تركيا إلى الصين.
واكتسبت الاستثمارات في قطاع المواصلات والبنى التحتية التركية زخمًا كبيرًا مؤخرًا من قبل الصين، حيث تمتلك شركات صينية 51% من أسهم جسر السلطان يافورز (جسر إسطنبول الثالث)، وكذلك 65% من محطة حاويات الشحن كومبورت (Kumport) في إسطنبول، كما تلقت تركيا قروضًا ميسرة بقيمة 5 مليارات دولار أميركي من أجل مشاريع مرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق”.
وفي عام 2018، وبسبب الخلاف بين أنقرة وواشنطن، انخفضت قيمة الليرة التركية بنسبة 40%، عقدت أنقرة مع بكين على إثرها اتفاقية لتبادل العملات المحلية (SWAP) بقيمة 3.6 مليار دولار أميركي، وذلك لإنعاش الليرة التركية. وتقوم الصين بإقراض البنوك الحكومية التركية، حيث حصل بنك “زراعات” التركي على 600 مليون دولار أميركي من بنك التنمية الصيني، وحصل بنك “وقف” على 140 مليون دولار أميركي من بنك الصين الصناعي.
وتسعى الصين للاستفادة من موقع تركيا الاستراتيجي، لقربها من دول الاتحاد الأوروبي ودول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى الاستفادة من اتفاقية الاتحاد الجمركي الموقعة من قبل تركيا مع الاتحاد الأوروبي. تحاول الصين من خلال هذا التوجه نقل بعض مصانعها بالقرب من حدود الاتحاد الأوروبي إلى الأراضي التركية، كان آخرها افتتاح مصنع “شاومي” للهواتف الذكية في مدينة إسطنبول، الأمر الذي يعزز حجم الاستثمارات الصينية المباشرة داخل النظام الاقتصادي التركي.
الاستثمارات الصينية تسعد بنهوض الاقتصاد التركي
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والصين عام 1971 بشكل بسيط وعادي، واكتسب التعاون الاقتصادي والسياسي بين الطرفين حراكًا متزايدًا منذ الثمانينيات، فيما شهدت العلاقات تطورًا ملحوظًا في العقد الأخير لترتفع إلى مستوى “التعاون الاستراتيجي”، وعلى إثرها ازدهرت التجارة وازدادت الاستثمارات الصينية داخل تركيا، ومع نمو الاستثمارات نمت المصالح السياسية المشتركة لكلا الطرفين، وكثرت الزيارات الدبلوماسية رفيعة المستوى بينهما.
ونظرًا إلى العجز في الميزان التجاري التركي، الناتج بسبب زيادة الواردات على الصادرات، تبقى تركيا دومًا بحاجة إلى رأس مال أجنبي من أجل تحقيق معدلات النمو المطلوبة. ومع ازدياد حجم الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد من خلال انخفاض قيمة الليرة التركية وازدياد نسب التضخم والبطالة ونقص في معدلات النمو واستحقاق موعد الديون الخارجية، بالإضافة إلى العزوف الدولي عن الاستثمار في تركيا، أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى زيادة الاعتماد التركي على الاستثمارات الصينية.
وتوحدت الجهود الصينية والتركية من أجل إنجاح مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، التي تهدف إلى تطوير طرق تجارية واسعة النطاق إلى أوروبا وغيرها من المناطق، وذلك من خلال الاستفادة من الطرق والجسور والموانئ التركية. وقدمت بكين قروضًا ميسرة لأنقرة من أجل استثماراتها في مشاريع البنى التحتية، والتي تهدف بشكل مباشر إلى تعزيز وتسريع إنجاز مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. رحبت أنقرة من جانبها بالمشروع الصيني، ووضعت وزارة الطرق والبنية التحتية ووزارة التجارة خططًا ومشاريع لتعزيز المبادرة الصينية.
وتعتمد تركيا اعتمادًا كليًّا على اللقاح الصيني لمكافحة وباء كورونا، حيث عقدت تركيا اتفاقية مع الصين لاستيراد عشرات الملايين من جرعات اللقاح. الأمر الذي تعتبره أحزاب المعارضة ورقة ضغط بيد الحكومة الصينية لابتزاز تركيا وحثها على تسليم أفراد وقيادات من جماعة الإيغور المتواجدين على أراضيها.
في النهاية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا حاليًّا، وبسبب خططها الاقتصادية التنموية المبنية على جلب الاستثمارات الأجنبية، فإن تركيا بحاجة إلى مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية بشكل مباشر أو تدفقات نقدية ضخمة في مصارفها وسوق أسهمها، وذلك للحفاظ على نموها الاقتصادي. قد تجد أنقرة نفسها مضطرة إلى التزام الصمت والبعد عن الخطابات الحادة اتجاه قضية الإيغور، بهدف تعزيز الاستثمارات الصينية، ما يعود بالنفع على الاقتصاد التركي في ظل أزمة كورونا.