بعد حملة إعلامية كبيرة، قررت وزارة الدفاع العراقية تعليق قرارها باستخدام الكيلو 14 في اللطيفية للإسكان العسكري. قرار كان كافيًا لإثارة لغط كبير بعد قرارات مماثلة في مناطق أخرى من حزام بغداد.
وبعيدًا عن كون القرار يحمل آثارًا اقتصادية سيئة بحق الاقتصاد، كما يقول الخبير الزراعي سعد مشتت، باعتبار أن “اللطيفية وكل مناطق حزام بغداد كانت تعتبر سلة العاصمة الغذائية، وكانت توفر المنتجات الزراعية واللحوم والأسماك لنحو عشرين مليونًا من سكان العاصمة، تذهب أموالهم حاليًّا إلى السلع المستوردة”، فإنّ القرار يحمل في طياته أيضًا توجهًا واضحًا لتغيير ديموغرافي في حزام بغداد، الذي يكتنز خصائص تاريخية واجتماعية فريدة.
طوق العشائر حول بغداد
بدءاً من القرن السادس عشر، تحول العراق إلى ساحة صراع بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، اشتمل الصراع تناوب السيطرة على العراق بينهما، ثم انتهى المطاف بالسيطرة العثمانية عليه واستعادته من الصفويين على يد السلطان مراد الرابع عام 1638.
بحلول القرن السابع عشر، استنزفت الصراعات المتكررة مع الصفويين قوة الإمبراطورية العثمانية، وأضعفت سيطرتها على مقاطعاتها، لتهيمن السلطة القبلية مرة أخرى في العراق. لو نظرنا إلى تاريخ العراق في القرن التاسع عشر، لن نرى سوى وقائع هجرات العشائر والصراعات الدائرة بينها. تضخم السكان البدو مع تدفق البدو من نجد في شبه الجزيرة العربية، وأصبح من المستحيل كبح غارات البدو على المناطق المستقرة.
في الداخل، يشكَّل اتحاد قبيلة المنتفق الكبير والقوي تحت قيادة عائلة السعدون السنّية في مكة. في الصحراء الجنوبية الغربية، دخل شمر -أحد أكبر الاتحادات القبلية في شبه الجزيرة العربية- الصحراء السورية واشتبك مع كونفدرالية عنيزة. على نهر دجلة السفلي بالقرب من العمارة، ترسخ اتحاد قبلي جديد، بني لام. في الشمال، ظهرت أسرة بابان الكردية ونظمت المقاومة الكردية. جعلت المقاومة من المستحيل على العثمانيين الحفاظ حتى على السيادة الاسمية على كردستان العراق. بين عامي 1625 و1668، ومن عام 1694 إلى عام 1701، حكم المشايخ المحليون البصرة والأهوار، وتجاهل الأقوياء منهم الحاكم العثماني لبغداد.
انعكست دورة الحرب القبلية وتدهور الحياة الحضرية التي بدأت في القرن الثالث عشر مع الغزوات المغولية مؤقتًا مع عودة ظهور المماليك. في أوائل القرن الثامن عشر، بدأ المماليك بتأكيد سلطتهم بعيدًا عن العثمانيين. بتوسيع حكمهم أولًا على البصرة، سيطر المماليك في النهاية على وديان نهرَي دجلة والفرات من الخليج الفارسي إلى سفوح كردستان. في الغالب، كان المماليك إداريين قادرين، واتسم حكمهم بالاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي، خاصة في ظل أعظم قادتهم، سليمان الثاني (1780-1802).
مع ضعف الدولة العثمانية لاحقًا ثم سقوطها على يد البريطانيين عام 1918، أصبح لهذه القبائل قوة كبيرة و دورًا سياسيًّا في تشكل الحكومة لاحقًا
انتهى العصر المملوكي في عام 1831، عندما دمر الطاعون والفيضان بغداد، ما مكّن السلطان العثماني محمود الثاني من إعادة تأكيد السيادة العثمانية على العراق. لكن الحكم العثماني كان غير مستقر. على سبيل المثال، كان لبغداد أكثر من عشرة حكام بين عامي 1831 و1869.
ولكن في عام 1869، استعاد العثمانيون السلطة عندما تم تعيين مدحت باشا محافظًا على بغداد. شرع مدحت على الفور في تحديث العراق على النموذج الغربي. الأهداف الأولية لإصلاحات مدحت تسمى التنظيمات، كان عليها إعادة تنظيم الجيش، ووضع قوانين جنائية وتجارية، وعلمنة النظام المدرسي، وتحسين الإدارة الإقليمية. أنشأ مجالس نيابية إقليمية لمساعدة المحافظ، وأسس مجالس بلدية منتخبة في المدن الكبرى. ومع ذلك، فإن المكاتب الجديدة التي يعمل فيها إلى حد كبير وجهاء عراقيون لا تربطهم صلات قوية بالجماهير، ساعدت مجموعة من العراقيين على اكتساب الخبرة الإدارية.
لكن الخطوة الأهم التي قام بها مدحت باشا كانت إنشاء وكالات حكومية في المدن لتوطين القبائل. غيّر مدحت توازن القوى بين القبائل الحضرية، والتي كانت منذ القرن الثالث عشر لصالح القبائل إلى حد كبير. كان أهم عنصر في خطة مدحت لمد السلطة العثمانية إلى الريف هو قانون الأراضي في طابو لعام 1858 (سمي على اسم الأحرف الأولى من المكتب الحكومي الذي أصدره).
استبدل الإصلاح الزراعي الجديد النظام الإقطاعي لحيازات الأراضي والمزارع الضريبية، بحقوق ملكية مصدق عليها قانونًا. وقد تم تصميمه لحث شيوخ القبائل على الاستقرار ومنحهم حصة في النظام السياسي القائم.
في الممارسة العملية، مكنت قوانين الطابو شيوخ القبائل من أن يصبحوا كبار ملاك الأراضي. سجّل رجال القبائل خوفًا من أن القانون الجديد كان محاولة لجمع الضرائب بشكل أكثر فعالية أو لفرض التجنيد الإجباري، الأراضي القبلية المملوكة للمجتمع بأسماء مشايخهم أو بيعها مباشرة للمضاربين الحضريين. ونتيجة لذلك، تحول شيوخ القبائل تدريجيًّا إلى ملاك أراضٍ يسعون للربح بينما تم إنزال رجال قبائلهم إلى دور المزارعين.
كان لهذه الخطوة أبعاد أخرى أكثر أهمية، وهي تشكُّل طوق من العشائر ذات الولاء للدولة العثمانية “سنّية المذهب”. شمل الحزام عشائر الجنابيين والعبيد وزوبع والمشاهدة والغرير. وأصبح يحيط بغداد من جوانبها الأربعة. ومع ضعف الدولة العثمانية لاحقًا ثم سقوطها على يد البريطانيين عام 1918، أصبح لهذه القبائل قوة كبيرة ودورًا سياسيًّا في تشكل الحكومة فيما بعد. كان امتداد بعض هذه القبائل يمتد لعمق المحافظات الأخرى مثل صلاح الدين شمال بغداد والأنبار غرب العراق. كما أن مجتمعها الزراعي المحافظ، كوّن منها كتلة اجتماعية صلبة مكّنها من أداء أدوار كبيرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
مثلث الموت
بعد احتلال القوات الأميركية للعراق عام 2003، اندلعت مقاومة عنيفة ضد وجودها في المناطق ذات الطابع السنّي ومنها بغداد. كما شكلت مناطق حزام بغداد بطبيعتها الزراعية نقاط انطلاق لعمليات المقاومة، برزت خلال معركة الفلوجة الأولى بشكل كبير، حينما وجد الجيش الأميركي نفسه يقاتل مدينة يصل عمقها الاستراتيجي حتى جنوب بغداد عند اللطيفية.
اشتهرت تلك المناطق بكونها مثلث الموت، نتيجة الهجمات الضارية التي كانت تتعرض لها القوات الأميركية عند المرور منها.
لاحقًا، مع دخول “خيار السلفادور” حيز التنفيذ في العراق، عقب مجيء السفير الأميركي جون نيغروبونتي، أصبح لهذه المناطق قيمة أخرى في الصراع الطائفي، إذ شكلت طوقًا يحيط ببغداد، ويضيف إليها عمقًا نحو المحافظات الأخرى، وكان استحالة استهدافها أمرًا مستحيلًا بسبب طبيعتها وانتشار الفصائل المسلحة فيها، وإن ظلت الاستهدافات الطائفية تطالها خلال فترة رئيس الوزراء نوري المالكي.
لكن الوضع اختلف كثيرًا مع اندلاع الحرب على داعش، ربما يستغرب الكثير معرفة أن داعش جرّد سكان المناطق من أغلب أسلحتهم بذريعة عدم مبايعته، ومع انسحابه فجأة أمام هجمات القوات الحكومية المدعومة بالحشد، أصبحت تلك المناطق بالكامل تحت سيطرة الحكومة، وهو أمر لم يكن متاحًا حتى دخول داعش لتلك المناطق، بعد انسحاب القوات الأمنية منها.
اشتهرت تلك المناطق بكونها مثلث الموت، نتيجة الهجمات الضارية التي كانت تتعرض لها القوات الأميركية عند المرور منها
ماذا حصل إذًا؟ بدأت أولى نوايا التغيير الديموغرافي بالظهور مع منطقة جرف الصخر جنوب غربي العراق، رغم مرور ما يقارب الـ 5 سنوات على تحريرها، لم يستطع أهلها العودة إليها ولم يتمكن أي مسؤول حكومي من دخولها، ضمنهم 3 من رؤساء الوزراء.
تكرر الأمر مع منطقة أخرى من حزام بغداد الغربي في الرضوانية، بعد قرار حكومي بتحويل آلاف الهكتارات الزراعية إلى أراضٍ صناعية وفتحها للاستثمار، ما يفتح الباب أمام تهجير مئات العوائل التي تسكنها منذ قرون. كما شكلت هجمات داعش ذريعة لنداءات تفريغ قضاء الطارمية من سكانه -يبلغ عددهم 200-250 ألف نسمة-، ثم يعود الأمر من جديد إلى منطقة اللطيفية.
إن عملية التغيير الديموغرافي في مناطق حزام بغداد، ليست سوى باب لتغيير ديموغرافي أوسع في المحافظات الأخرى، والعملية كلها ليست سوى استنساخ لما حصل في سوريا من تغيير ديموغرافي أشرف عليه الإيرانيون بعد الثورة، بدأ في مدينة القصير التي دخلها حزب الله اللبناني عام 2013. مشروع تريد فيه إيران تغييرًا بعيد المدى، يخدم مصالحها المبطنة بالمذهب والطائفية وشعارات الموت لأميركا.. والموت لـ”إسرائيل”!