من المؤلم – إن لم يكن من الظلم التاريخي – أن تدفع ثمن جنسيتك ونظامك الحاكم الذي تعارضه في آن واحد، فلون بشرتك ولهجة حديثك وملامحك العامة ربما تكون سببًا في إسعادك أحيانًا، لكنها قد تكون سبب شقاء أحايين أخرى، خاصة إن كنت ممن ينتمون شكلًا لعرق أو جنس على خلاف مع أهل البلد الذي تقيم به.
كونك إثيوبيًا مقيمًا في مصر فتلك مصيبة قد يؤخذ صاحبها بالنواصي والأقدام، حتى لو كان من المعارضين لحكومة آبي أحمد والفارين من بطش سلطاته، إذ يكفي أنك من الدولة التي تريد تعطيش 100 مليون مصري عبر تقليل حصتها المتعارف عليها سنويًا من مياه النهر، الذي يمثل شريان الحياة الوحيد للشعب المصري.
في الملفات التي تلقي بظلالها بين الحين والآخر على موائد المنظمات الحقوقية، دفعت الجاليات ثمن الخلافات السياسية بين الدول، فاستهداف الإثيوبيين في مصر أو المصريين في إثيوبيا بسبب النزاع الدائر الآن بشأن سد النهضة، كارثة إنسانية تستوجب تسليط الضوء عليها من كل الجهات ذات الاهتمامات الحقوقية والإنسانية.
فجأة ودون مقدمات وجد الإثيوبيون الموجودون في مصر، سواء بصفة اللجوء أم الإقامة العادية، أنفسهم في مرمى الانتقادات الشعبية المصرية، بعدما أوشكت المفاوضات بين البلدين أن تصل لطريق مسدود، ليسقط الآلاف من أبناء القارة السمراء ضحايا التصعيد السياسي بين أديس أبابا والقاهرة.
ورغم أن النسبة الكبرى من الإثيوبيين المقيمن مصر يعيشون كلاجئين فروا من بطش حكومتهم واستهدافهم على أساس دينهم أو عرقهم أو آرائهم السياسية، فإن لعنة جنسيتهم باتت شبحًا يطاردهم أينما رحلوا أو نزلوا، الأمر الذي زاد من معاناتهم الاقتصادية والمعيشية العادية.. فما حالهم اليوم؟
علاقات معقدة
طبيعة العلاقات المصرية الإثيوبية على مر التاريخ كان لها انعكاساتها على وضعية الجالية الإثيوبية في مصر، لا سيما أن تلك العلاقات تشكل إحدى أعقد العلاقات في القارة الإفريقية، فمنحنيات التعريج فيها أكثر من مسافات الاستقامة، لوجود حزمة من العوامل المتنوعة التي أثرت هذا التعقيد.
ورغم التاريخ الطويل لإثيوبيا كأرض وشعب، فإنها لم تتبلور كإمبراطورية ذات كيان رسمي إلا مع بداية القرن العشرين، وعليه فإن تاريخ العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة لم يتجاوز المئة عام، فقد دشنت مصر أول قنصلية لها في الدولة الإفريقية عام 1923.
العديد من العوامل كان لها دورها السلبي في توتير العلاقات بين البلدين، في المقدمة منها العامل المائي، تحديدًا نهر النيل، شريان الحياة للمصريين، فأكثر من 85% من التدفقات المائية لنهر النيل تأتي من إثيوبيا، ما يجعلها في منطقة حساسة للغاية بالنسبة لمستقبل مئة مليون مصري.
استغل الغرب هذه الوضعية الحرجة لإثيوبيا للضغط من خلالها على مصر منذ ستينيات القرن الماضي، فشرعوا في دعم وتمويل السدود والجسور على النهر، في محاولة لتهديد القاهرة والتأثير على قرارها السياسي، لكن حال دون تنفيذها صعوبات طبيعية ومستوى التقدم التكنولوجي المتوافر وقتذاك.
كما لعب التقارب التاريخي بين إثيوبيا و”إسرائيل” منذ عام 1956 دوره في تعكير صفو العلاقات مع القاهرة، وهو التقارب الذي يستند إلى روافد دينية وثقافية، فيُعتقد أن قبيلة الفلاشا الإثيوبية، ذات أصول يهودية، وربما هذا يفسر موجات الهجرة التي قامت بها تلك القبيلة إلى “إسرائيل” عبر السودان في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
تجاهل الرئيس المصري الراحل أنور السادات للكتلة الإفريقية خلال فترة حكمه، معتقدًا أن معظم أوراق اللعبة بيد الأمريكان، ومن بعده غياب القاهرة عن عمقها الإفريقي خلال فترة حسني مبارك لا سيما عقب محاولة اغتياله الشهيرة في أديس أبابا كان لهما أسوأ الأثر في دخول العلاقات بين البلدين العديد من الأنفاق المظلمة، نفقًا تلو الآخر.
20 ألف لاجئ
لا تتوفر أرقام دقيقة بشأن عدد الإثيوبيين المقيمين في مصر، سواء كان بصفة اللجوء أم الإقامة والعمل، فيما تتباين الأعداد بين الجهات الأممية الرسمية والتقديرات المجتمعية الخاصة، وهو ما يجعل الجزم بوجود عدد معين في مصر يمكن التعويل عليه لحسابات سياسية كانت أو اقتصادية مسألة صعبة.
المفوضية العامة لشؤون اللاجئين تشير إلى أن عدد اللاجئين الإثيوبيين الموجودين في مصر حتى العام الماضي يقترب من 7 آلاف لاجئ، في الوقت الذي تذهب فيه تقديرات غير رسمية بأن إجمالي عدد الإثيوبيين بشتى انتماءاتهم يتجاوز 20 ألف.
التباين في الأرقام يعزوه البعض إلى قدوم الكثير من الإثيوبيين لمصر بطرق غير شرعية، وعليه فهم لا يملكون أوراقًا ثبوتيةً خاصةً بهم تثبت دخولهم البلاد، ومن ثم غير مسجلين، لا في السفارة الإثيوبية في القاهرة ولا في مفوضية شؤون اللاجئين الأممية.
يتجمع الإثيوبيون في الغالب في المناطق القريبة من التجمعات السكنية ذات المستوى الاقتصادي المرتفع، كما هو الحال في المعادي ومصر الجديدة بالقاهرة والمهندسين بالجيزة، ويحرصون على الاقتراب العائلي الذي يشعرهم بالدفء والانتماء رغم أن كثيرًا منهم هرب من بلاده فارًا من ملاحقة السلطات الحاكمة هناك.
أوضاع اقتصادية صعبة
“لولا المساعدات التي تأتي إلينا من الجمعيات الخيرية لربما كان الموت جوعًا هو المصير”، هكذا علق الشاب الثلاثيني الإثيوبي، إبراهيم سومو عمر، واصفًا الأحوال المعيشية التي يحياها السواد الأعظم من الإثيوبيين في مصر، منوهًا أن الأوضاع تزداد سوءًا يومًا تلو الآخر.
عمر الذي ينتمي لعرقية الأورومو في حديثه لـ”نون بوست” يقول إنهم خرجوا من إثيوبيا بعد الاضطهاد الذي تعرضوا له على أيدي السلطات الأمنية هناك، هذا بخلاف العنصرية العرقية التي يعانون منها مجتمعيًا، لكنهم فوجئوا بالوضع في مصر ليس كما كان يخيل لهم.
فالكثير منهم لا يحملون أوراقًا رسميةً، وغير مسجلين في هيئة اللاجئين، ومن ثم لا يمكنهم العمل بشكل نظامي، ما يضطرهم لقبول أي عمل، وفي الغالب يكون عمالة نظافة في المطاعم والمتاجر بأجور زهيدة، إذ يستغل أصحاب المحال وضعيتهم غير القانونية لابتزازهم بالعمل برواتب متدنية.
“في بعض الأحيان تجد أكثر من 10 شباب في غرفة واحدة، البعض قد لا يستطيع التنفس”، هكذا أضاف، منوهًا أن النساء يذهبن للعمل كخادمات في المنازل فيما يبقى الرجال في انتظار أي دعم خارجي من المؤسسات المجتمعية التي باتت تتولى أمور اللاجئين في الفترة الأخيرة.
فيما أشار أحمد زيناوي، الطالب الذي يدرس بجامعة الأزهر، أن الأزمة ليست في التمويل، لكن في طريقة توصيله وعدالته، لافتًا أن الدعم المخصص للاجئين الإثيوبيين ربما يكون من أكثر مستويات الدعم المقدمة للاجئين في العالم، لكن الأزمة تتلخص في كيفية إنفاقه ونوافذ هذا الإنفاق، متسائلًا: أين يذهب هذا التمويل؟ وتابع “المساعدة المالية تقدم فقط إلى ما بين 15 و35% من اللاجئين والساعين للحصول على اللجوء”.
كما ألمح إلى وجود بعض المنظمات التي دشنها إثيوبيون للقيام على خدمة الجالية منها ما يُسمي “مجتمع اللاجئين الإثيوبيين في مصر” وهي عبارة عن منظمة أُنشئت عام 2011 وتعمل على تقديم الدعم والمساعدة للاجئين الإثيوبيين بصفة خاصة والأفارقة عمومًا، لكنها ضعيفة الإمكانات وتأثيرها محدود.
وأوضح الشاب الإثيوبي الذي يشارك في حلقات تعليم القرآن واللغة العربية لأبناء الجالية الإفريقية في مصر، أن العودة للوطن حلم يداعب الجميع، لكن المعضلة الأساسية في طبيعة النظام الحاكم هناك، الذي يضطهد بعض العرقيات بصورة عنصرية، ما دفع شريحة كبيرة منهم إما إلى الانضمام لتيار المعارضة وإما الهجرة خارج البلاد.
معروف أن مصر وقعت على اتفاقية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عام 1951، لكنها تحفظت على إحدى فقرات البند “22” الخاص بمساواة الطالب اللاجئ بنظيره المصري في مجانية التعليم الابتدائي، كذلك البند “23” الخاص بالمساواة بين اللاجئين والمواطنين في حق الإغاثة والمساعدة العامة ثم البند “24” الذي يساوي المواطنين واللاجئين في العمل والأجور والتعويضات والضمان الاجتماعي، وهو ما يعمق نسبيًا من مأساة اللاجئين في مصر.
لعنة سد النهضة
خلال العقد الأخير تحديدًا زادت معاناة الإثيوبيين في مصر بصورة غير مسبوقة، منذ أن بدأ الحديث عن اعتزام الحكومة الإثيوبية بناء سد النهضة، وما له من تداعياته الكارثية على الأمن المائي المصري، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على واقع الجالية المقيمة في مصر.
“الجمعيات الخيرية بدأت في تقليل حجم دعمها، والمساعدات الأهلية تراجعت بشكل ملحوظ منذ إعلان حكومة آبي أحمد الملء الأول للسد”، هكذا علقت “أليك” الفتاة الإثيوبية ذات الـ25 عامًا على سؤال عن تداعيات بناء السد على العلاقات مع المصريين.
وأشارت إلى أن الأمر بات يحتاج إلى جهود مضنية لإقناع المصريين بأنهم لا علاقة لهم بالسد ولا بالحكومة، فهم في نظرها معارضون ومطاردون، وعليه لا يمكن احتسابهم على السلطات الإثيوبية، مؤكدين إيمانهم الكامل بحق المصريين في مياه النهر وأنه ليس حكرًا على أي دولة.
الرأي ذاته كشفته شبكة “صوت أمريكا” في تقرير لها كشف تعرض الإثيوبيين في مصر خلال الأسابيع الأخيرة، للتحرش وخطاب الكراهية، بل والعنف المتزايد، خاصة بعدما وصل المسار التفاوضي بين البلدين إلى طريق مسدود.
الأمر تجاوز فكرة الجفاء النفسي إلى الاعتداء الجسدي والعنصرية الفجة، فوفق ما نقلت الشبكة الأمريكية عن المواطن الإثيوبي بالقاهرة، طاهر عمر هورو، فإن “مجموعة من المصريين أطلقوا كلبًا على أحد أفراد الجالية الإثيوبية، وتعرض لإصابات عديدة، لا لشيء إلا لأنه إثيوبي”.
وأضاف الشاب الإثيوبي أنه يتعرض للعنصرية والسخرية والاعتداء حين يعرف أحد أنه إثيوبي، حتى لو لم يفصح عن ذلك، فمجرد أن تكون ملامحك إفريقية فأنت متهم بحمل الجنسية الإثيوبية ومن ثم الرغبة في تعطيش المصريين، وهو الباب الأوسع للاضطهاد والاعتداء.
التقرير نقل عن مواطنين إثيوبيين قولهم إنهم والمصريين في قارب واحد، “إذا عطش المصريون، فإننا سنعطش كذلك” في إشارة إلى أنهم مقيمون في مصر ويعانون مما يعاني منه المصريون، ومن ثم فإن أي تهديد لحياة الشعب المصري ينسحب عليهم بالتبعية.
وهكذا يقع الإثيوبيون بين مطرقة الأوضاع المعيشية الصعبة وتراجع فرص العمل وتردي الأجور والرواتب وتجاهل المجتمع الدولي من جانب، وسندان العنصرية والاستهداف بسبب جنسيتهم على خلفية سد النهضة من جانب آخر، ليبقى الوضع المتأزم على ما هو عليه لحين إشعار آخر.