الجولة السياحية التي قام بها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد في مصر كانت ناجحة فعلًا.
صحيح أن الجولة السياحية كان ينقصها “بروغرام” الجولة الليلية على متن سفينة في النيل، والعشاء مع وصلة الرقص الشرقي، لكنها أعجبت مريديه ومريدي الجنرال السيسي.. وهذا يكفي.
بينما كانت زيارة قيس سعيد إلى ليبيا على العكس، خاطفة واستغرقت ساعتين فقط، وتمّت بارتجال وعلى عجل، دون أي تحضير مسبق، ولا تنسيق مع الحكومة، ودون اصطحاب وزراء معنيّين بفرص التعاون مع ليبيا، التي بدأت مسارًا سياسيًّا سلميًّا جديدًا وحركة إعادة إعمار واستثمار نشطة تسيل لعاب كل دول العالم، بما فيها الكبرى والغنية.
ذهب الرئيس سعيد إلى ليبيا ورجع مكتفيًا بمجرّد الكلام كعادته. حتى أن الأخبار أفادت بأنه طلب القيام بجولة في ليبيا، لكنهم رفضوا لعدم التحضير المسبق في الوقت المناسب لذلك، وسط مخاوف أمنية.
في المقابل، ذهب رئيس المجلس الرئاسي الليبي الجديد، قبلها بفترة قصيرة إلى تركيا في زيارة رسمية أيضًا. ولكنه لم يجد الوقت الكافي ولا “وسع البال” للجولات السياحية. فلا هو زار مسجد الفاتح، ولا قصر طوب قابي، ولا قام بجولة بحرية في الباسفور، وإنما خطط مع الرئيس التركي لما ينفع بلاده سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا وعسكريًّا. ثم كنتيجة لتلك الزيارة، وبعدها بأيام، تحديدًا يوم الاثنين 12 أبريل/ نيسان 2021، سافر رئيس الوزراء الليبي الجديد صحبة “شطر” حكومته إلى أنقرة، ليقابل بدوره الرئيس التركي ورئيس الوزراء التركي، ويجتمع كل وزير بالوزراء الأتراك الذين يماثلونه.
انتهت الاجتماعات الماراتونية الضخمة باتفاقات استراتيجية كبرى بين ليبيا وتركيا. فقد تم إمضاء مذكرة تفاهم ليبية تركية شاملة، مع تأكيد ضمني للاتفاق العسكري الذي سبق إبرامه بين حكومة الوفاق والحكومة التركية. وتعهدت تركيا بحماية مسار السلام وتثبيت وقف إطلاق النار والمساعدة في بلوغ الانتخابات آخر السنة.
كما تم الاتفاق على عودة رحلات الخطوط التركية إلى ليبيا، وعودة الشركات التركية إلى العمل في ليبيا، ويعني ذلك على وجه الدقة عودتها إلى المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات خليفة حفتر، لأن بقية المناطق التي كانت تحت سيطرة حكومة الوفاق، كانت الشركات التركية تنشط فيها بشكل عادي.
أيضًا تم الإعلان عن مساهمة تركيا في إعادة إعمار ليبيا، من ذلك إنشاء ثلاث محطات كهرباء، وإعادة تهيئة محطة ركّاب جديدة بمطار طرابلس، وبناء مركز تسوّق جديد بالعاصمة، إضافة إلى دعم قطاع الإعلام، ودعم القطاع الصحي، وإرسال تركيا 150 ألف جرعة تلقيح ضد فايروس كورونا إلى ليبيا.
يعكس ما فعله رئيسا تركيا وليبيا معنى التحضير المسبق والجيد والمنهجي للزيارات الرسمية بين الدول، والتنسيق اللازم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، لتكون الجهود الدبلوماسية منظمة ومثمرة وناجحة للبلاد.
في المقابل، نجد رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد يقوم بزياراته الخارجية دون أي تنسيق مع الحكومة، بزعم أنه على خلاف مع رئيسها ويرغب في استقالته ورحيله.
ويسافر الرئيس دون أي وفد مصاحب ذي قيمة، يمكن أن يحول الزيارة لبلد أجنبي إلى زيارة مثمرة فعلًا.
في حين أن الزيارات الفردية للرؤساء على الطراز القديم، تكاد أن تنقرض من دبلوماسية القرن الواحد والعشرين. حيث يسافر أغلب رؤساء الدول اليوم صحبة وزراء الاقتصاد والمال والاستثمار والتجارة، مصحوبين برجال الأعمال والمستثمرين. لكن الرئيس سعيد يكتفي باصطحاب مديرة ديوانه الرئاسي، مع وزير الخارجيّة فقط، طبق البروتوكول.
الرئيس قيس سعيد المغرم بالخطابة والكلام، يعتقد أن السياسة الدوليّة ومصالح البلاد في العالم هي مجرد خطابات حسن نوايا حماسية، وكلمات رنانة، وثرثرة لغوية.
ولا يقف الأمر عند عدم تنسيق الرئيس سعيد مع الحكومة، وعدم اصطحابه الوزراء المعنيّين في زيارته للدول الأخرى، بل المعلومات تفيد بأنه حتى وزير الخارجية يقع تهميشه لصالح شخصيات القصر.
كما أن عدم اتفاق رئيس الجمهورية على برنامج عمل واضح مع الحكومة، وعدم معرفة حاجاتها وطلباتها بدقة، والتخطيط بينهما معًا لاستراتيجية مشتركة لتحقيق الأهداف الوطنية، يجعل زيارة الرئيس تقتصر على مجرد خطاب عمومي عن التعاون بين البلدين، دون أي اتفاقيات محددة أو عملية أو قابلة للتطبيق.
ذلك أنه حتى الاتفاقيات الدولية التي من الممكن أن يبرمها الرئيس سعيد مع الدول الأجنبية، دون سابق اتفاق مع الحكومة ومع الأغلبية البرلمانية، من الممكن ألّا تجد طريقها للتطبيق أو الاعتماد أصلًا، لأن الفصلين 65 و67 من الدستور ينصان على أن المعاهدات والاتفاقيات الدولية تخضع لمصادقة مجلس نواب الشعب.
يجب على رئيس الجمهوريّة أن يعلم ويدرك ويفهم أن الزيارات الرسمية للبلدان الأجنبية ليست مثل جولات زيارة المقاهي في أحياء تونس، أو المساجد، أو منازل أفراد تنسيقياته، والتي يقوم بها دون سابق تحضير أو تنسيق أو برنامج أو تحديد للأهداف أو دراسة أو تخطيط.
إن ارتجال قيس سعيد لن يصنع شيئًا إيجابيًّا لتونس، عدا فقاعات كلامية، وحسابات سياسية شخصية ضيقة.