أتراك اليوروك: ألف عام من الترحال

تحدثت برفين تشوبان صافران، إحدى سيدات عشيرة “صاري كاتشيلي” -ذو الماعز الأصفر بالعربية- التي تنتمي إلى قبائل البدو الرحّل في تركيا، والذين يعرَفون بـ”اليوروك”، عن منطقهم الحياتي الذي اختاروه لأنفسهم، وقالت، بحسب وكالة الأناضول التركية:
“لا نعرف الصراعات، فقط السلام والحب، ولا نشغل بالنا بالمال، من أراد أن يعرفنا فليس لخيامنا أبواب ودائمًا مفتوحة للجميع”. وعن علاقتهم بالطبيعة من حولهم، تقول السيدة برفين: “نحن لا نسبِّب أي ضرر للطبيعة بل نكافح من أجل الحفاظ عليها، هذه هي حياتنا ونحن سعداء بها ولا نستطيع العيش في المدن أو القرى، فإذا ذهبنا إلى القرية ليوم واحد نمرض، لا نعرف إلا حياة الجبال والسهول والعيش الحر”، وتتابع: “في الوقت الذي استقر فيه الجميع بقينا سائرين على خطى أجدادنا محافظين على تقاليدهم، وسنبقى ببقاء الزمن والطبيعة”.
تاريخ طويل
يعود تاريخ اليوروك إلى الأتراك الأوغوز البالغ عددهم 24 قبيلة، والذين بدأوا بالقدوم من آسيا الوسطى إلى الأناضول في القرن العاشر هربًا من الغزو المغولي، بعد انتصار الدولة السلجوقية على البيزنطيين في معركة ملاذكرد عام 1071، بحسب كتاب “اليوروك” للباحث محمد إروز.
ويعد الأوغوز هم الأتراك الأوائل الذين انبثق عنهم العديد من الدول، مثل السلاجقة والصفويين والدولة الأفشارية ودولتي آق قويونلو وقره قويونلو -ذو الماعز الأبيض وذو الماعز الأسود بالعربية-، كما ينحدر من السلالة نفسها الغازي أرطغرل والد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية.
ويؤكد المؤرخ إلبير أورتايلي، أن هذه القبائل هي صاحبة الفضل في تتريك الأناضول، ولكن في الوقت الذي استقر الجميع في شتى أنحاء الدولة على مر العصور، بقي ما يقرب من مئتي عائلة ما زالوا يعيشون حياة الترحال سيرًا على خطى الأجداد الأوائل منذ ألف عام.
عاش اليوروك حياة الترحال حتى القرن السادس عشر، ومنذ ذلك الحين بدأت الدولة العثمانية في العمل على توطينهم في مدن وقرى الأناضول، واستمرت هذه المحاولات حتى عصر الجمهورية، ومع تغير ظروف الزمن وصعوبة هذا النمط من الحياة، فضّل الكثير منهم حياة الاستقرار، إلا القليل من العائلات التي لا تزال تحيي إرث أجدادها بالعيش أحرارًا في أحضان الطبيعة. ورغم الزمن إلا أن اليوروك ما زالوا يتحدثون حتى اليوم بلغة تركية خالصة، لم تتأثر باللغات الأخرى مثل اللغة التركية اليوم.
وقد وثق السلطان عبد الحميد الثاني بشكل شديد في اليوروك، وكان يصفهم بـ”أقاربي”، وعيّنهم حراسًا لحمايته الشخصية، وعيّن النساء منهم في تأمين الحدود لما يملكنه من مهارات أمنية وحربية.
هناك رأي سائد يقول أن كلمة “Yörük” التي كانت تعني “سائر”، ولكنها تستخدم الآن لتطلق على هذه القبائل من البدو الرحل، مشتقة من فعل “السير” الذي يعني بالتركية “Yürümek”، لكن بحسب الباحث مظفر رمضان أوغلو فإن أصلها ليس له علاقة تمامًا بالسير، بل هي صفة أصلها “Yüğrük”، والتي كانت تعني متقدم أو مدني في اللغة التركية القديمة.
كل شيء من أجل الماعز
يفضّل اليوروك لأسباب وراثية الأماكن المرتفعة، ويشعرون فيها بالأمان كما كان أجدادهم في وسط آسيا، حيث ينتشر اليوروك اليوم في جبال طوروس وما حولها من منطقة وسط الأناضول والجنوب الغربي وإيجة بشكل عام، ففي الصيف مثلًا نجد خيامهم السوداء في مرتفعات قونيا وكوتاهيا وأغري، وفي الشتاء يهبطون إلى السواحل الدافئة بمحاذاة البحر المتوسط وبحر إيجة مثل أنطاليا وموغلا ومانيسا ومرسين.
يعتمد عيشهم بشكل أساسي على الماعز التي تحتل مكانة مهمة في حياتهم، مثل أجدادهم الأوائل الذين كانوا يولون أهمية كبيرة لها، فتملك العائلة الواحدة الآلاف من الماعز، ويعطون الأولوية لها في كل شيء لأنها مصدر رزقهم، ويتمحور يومهم حولها، من رعي وإنتاج للألبان والمنسوجات، حتى أن نمط حياتهم الترحالي يعتمد على أين سيجدون الكلأ والدفء لماعزهم أولًا ثم لأنفسهم ثانيًّا.
يقوم اليوروك برحلتين أساسيتين كل عام، مثلما كانت تعتمد حياة أجدادهم على “ييلاق وقشلاق”، أي المشتى والمصيف، فتبدأ رحلة الشتاء في نهايات سبتمبر/ أيلول ورحلة الصيف في نهايات أبريل/ نيسان، وتستغرق الرحلة التي تتكون من مئات الكيلومترات حوالي الشهرين، بينما يستغرق التحضير لها قرابة الشهر، وطبقًا لهذه الخطة فإنهم يستقرون في المرتفعات لمدة أربعة أشهر ومثلها في السواحل، ويذهب الثلث الباقي من السنة لمسافة الطريق ونصب الخيم للراحة والنوم وفكّها مرة أخرى بشكل يومي.
من الجدير بالذكر أن الإغلاق العام الذي جرى تطبيقه في تركيا في مارس/ آذار 2020 أدى إلى تعطل الرحلة الصيفية لليوروك، وتأجيلها حتى شهر مايو/ أيار، وذلك بسبب إغلاق حركة السفر بين المدن التركية المختلفة في أعقاب الانتشار الواسع لفيروس كورونا، حيث اضطرت تلك العشائر البعيدة كل البعد عن حياة الإنسان الحديث إلى دفع ثمن ما يرتكبه.
تعد المرتفعات الصيفية التي يقيم فيها اليوروك بين أبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول هي النقطة الأهم في رحلتهم السنوية، حيث يتوفر الكلأ بكثرة ما يؤدي إلى إنتاج حيواني جيد يساعدهم على التجارة، التي تضمن ادّخار بعض الأموال لأشهر الشتاء الجافة والباردة.
تستخدم القبائل الجِمال كوسيلة نقل رئيسية إلى جانب الخيول والعربات الجرارة، ولرحلاتهم طقوس تبدأ بحمل كل شيء على الجمال والخيول والعربات في مشهد تزينه الجمال الملتفة بالسجاد اليدوي الملوّن في المقدمة، مع عزف آلة “الساز”. يتشاركون الرقص والغناء خلال الرحلة، ولو صادفهم غريب في الطريق أطعموه وسقوه من زادهم، لكن كل هذا لا يمكن أن يحدث يوم الثلاثاء، الذي يعد الترحال فيه من سوء الطالع، ما يجعلهم يبدأون رحلاتهم في يوم الحظ بالنسبة إليهم، الخميس.
حياة بسيطة
يتمتع اليوروك بثقافة ونمط حياة خاصَّين، فهم مستقلون تمامًا، يصنعون ملابسهم وأثاثهم البسيط بأيديهم، ويستخدمون وبر الماعز في صناعة خيامهم، ويعتمد نظامهم الغذائي على منتجات الحيوان مستخدمين الحطب في الطبخ. وهو نمط يعتمد على الصحة واللياقة، لذلك يبدأون يومهم في الخامسة صباحًا ويقضونه في رعي الماعز وصناعة المنسوجات وإعداد الطعام، وفي الليل يشعلون الحطب بحثًا عن الدفء.
ورغم كل التطور التكنولوجي الحاصل في عالمنا اليوم، يقف اليوروك على مسافة بعيدة منه، غير عابئين كثيرًا به، إذ يقول علي أتار أحد أفراد اليوروك لجريدة خبر ترك: “لا يعرف أطفالنا الكمبيوتر ولا يساورهم الفضول لاكتشاف هذا العالم، لكنهم متقنون لفنون حياتنا، فإذا مرِض حيوان، يعرفون جيدًا كيف يعاملونه”.
ورغم ذلك، تهتم القبائل بتعليم أولادها، إذا تضطر للتخييم في أوقات الدراسة قرب الطرق من أجل الوصول إلى المدارس، لكنهم يواجهون اليوم صعوبات كثيرة، كرفض سكان بعض القرى السماح لهم بالمرور منها دون دفع المال لهم.
تعيش عشائر اليوروك بشكل متفرق ويتزوجون من بعضهم، وعلى عكس صورة نمطية سائدة عن حياة البدو، فإن دور المرأة في القبيلة والتأثير عليها يتجاوز حدود تأثير الرجال، إذ تقوم المرأة بتولي أغلب شؤون القبيلة، من تربية الأطفال وحياكة الملابس والخيام وصولًا إلى صنع الطعام والاهتمام بالحيوانات، بالإضافة إلى مهارات الحماية واستخدام الأسلحة، لذلك تجد أحيانًا قيادة العشيرة في يد إحدى سيداتها.
وتبدأ طقوس القبائل الخاصة منذ ولادة الطفل، يضعونه في التراب ثم في الماء البارد، كي يصبح صلبًا ويتذكر دائمًا أنه ابن الطبيعة. لكن خصائص حياتهم تجعلهم يولدون ويعيشون ويموتون في ترحالهم، حيث تلد المرأة ثم تحمل وليدها وتكمل المسير، وإذا مات أحدهم في الطريق يدفنونه في أقرب مكان صالح ويستكملون الرحلة التي لا تتوقف.
يعبّر اليوروك كثيرًا عن تركيا بماضيها وحاضرها، حيث يقول عنهم مؤسس الجمهورية التركية والذي تمتد أصوله أيضًا إليهم، مصطفى كمال أتاتورك، في أحد خطبه: “إذا بقيَ هناك ولو خيمة واحدة في جبال طوروس لا يزال يخرج منها الدخان، فاعلموا جيدًا أن لا قوة على وجه الأرض تستطيع أن تهزم الترك”.