تعرف العلاقات الثنائية الفرنسية الجزائرية توترًا ملحوظًا في الفترة الأخيرة وتباينًا في وجهات النظر بينهما بالعديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، ما جعل السلطات الفرنسية تسعى للتهدئة في ظل خوفها من خسارة امتيازاتها في هذا البلد العربي الغني بالثروات.
توتر ملحوظ
توتر العلاقات ظهر جليًا في تأجيل السلطات الجزائرية نهاية الأسبوع الماضي زيارة كانت مبرمجة لرئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى الجزائر بطريقة مفاجئة دون أن تعلن سبب ذلك، فيما قال الفرنسيون إن الوضع الصحي وراء ذلك.
بينما يرجع السبب الحقيقي لتأجيل الزيارة إلى انزعاج الجزائر من فرنسا بعد أن خفضت الأخيرة عدد الوفد إلى أربعة وزراء ثم وزيرين، مقابل نحو عشرة في العادة لمثل هذا النوع من الزيارات، دون أن توضح سبب ذلك، وهو ما اعتبرته الجزائر تقليلًا منها.
وكان من المنتظر خلال هذه الزيارة انعقاد اللجنة العليا المشتركة برئاسة كل من كاستكس ورئيس الحكومة عبد العزيز جراد، لتقييم العلاقات الثنائية بين البلدين خاصة الاقتصادية منها.
تطالب الجزائر منذ سنوات باريس بالاعتراف بجرائمها والاعتذار عما ارتكبته من انتهاكات خلال فترة احتلالها التي دامت 132 سنة
بالتزامن مع ذلك، فتح حزب ماكرون فرعًا محليًا جديدًا في مدينة الداخلة بالصحراء الغربية، وهو ما اعتبر تحولًا مهمًا في السياسة الخارجية لفرنسا وتقربًا من المغرب، ذلك أن الحزب الحاكم يعبر حتمًا عن سياسة الدولة الفرنسية، ما يعني أن فرنسا من الممكن أن تفتح قنصلية في أقاليم الصحراء وتعترف بذلك بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
وترى الجزائر في هذا الأمر اصطفافًا فرنسيًا إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب والبوليساريو، فالجزائر تدافع عن البوليساريو وتعمل على إقامة دولة لها في أقاليم الصحراء عكس المغرب الذي يطرح منح الأقاليم الحكم الذاتي.
يظهر التوتر أيضًا في وصف وزير العمل والضمان الاجتماعي الجزائري الهاشمي جعبوب، فرنسا بـ”العدوة الدائمة والتقليدية” لبلاده، وذلك خلال رده على أسئلة أعضاء مجلس الأمة المنعقد الخميس الماضي.
وسجل مؤخرًا هجوم الإعلام الجزائري على فرنسا، إذ عنونت جريدة “الوطن” الناطقة بالفرنسية افتتاحيتها بـ”أعمال عدائية فرنسية خطرة”، قالت فيها: “من حقنا التساؤل عن اللعبة الخطرة للسلطات الفرنسية”، فيما كتبت جريدة “الخبر” الناطقة بالعربية في صفحتها الأولى “تأجيل زيارة كاستكس يؤكد عمق الفجوة بين الجزائر وفرنسا” تحت عنوان كبير هو “القطيعة مستمرة”.
حتى في الحراك الشعبي، يظهر رفض الشارع الجزائري لفرنسا، ففي كل مظاهرة تتعدد الشعارات المناهضة لفرنسا وسط المتظاهرين، والداعية إلى ضرورة خروجها من بلادهم بسبب سرقة خيراتها والتغطية على الفساد.
ويرى العديد من الجزائريين أن باريس عدوتهم التاريخية، فحتى خطوات فرنسا المتخذة مؤخرًا بشأن ملف الذاكرة المتعلقة بالحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، يُنظر إليها بعين الريبة، فتطالب الجزائر منذ سنوات باريس بالاعتراف بجرائمها والاعتذار عما ارتكبته من انتهاكات خلال فترة احتلالها التي دامت 132 سنة، لكن ذلك لم يحصل بعد، وهو ما يُفسر برودة الجانب الجزائري.
مساعٍ فرنسية للتهدئة
في ظل هذا التوتر الواضح في العلاقات بين البلدين، تعمل السلطات الفرنسية على تهدئة الأوضاع، فقد قال وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمون بون، إن باريس تريد التهدئة في العلاقات مع الجزائر رغم بعض التصريحات التي لا مبرر لها، وتأجيل زيارة رئيس الوزراء جان كاستكس لها.
تصريح بون جاء في برنامج “غران جوري” الذي يبث بالاشتراك بين إذاعة “إر تي إل” وصحيفة “لوفيغارو” وتليفزيون “إل سي أي”، وأضاف “هناك أحيانًا تصريحات لا مبرر لها في العلاقات الفرنسية الجزائرية”.
تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية 2017
وفق كليمون بون فإن تصريحات وزير العمل الجزائري لا تستحق استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، وأجاب عند سؤاله عن ذلك “لا أعتقد ذلك”، وأضاف: “يجب تهدئة كل ذلك.. أجرى وزير الخارجية جان إيف لودريان اتصالات في الأيام الأخيرة مع نظيره الجزائري صبري بوقادوم”.
وأوضح وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية أن عدم إمكان عقد الاجتماع رفيع المستوى بين الحكومتين لا يرتبط بالتوتر بين فرنسا والجزائر، لكن بالوضع الصحي الذي لم يسمح للحكومة الفرنسية بإرسال وفد كبير إلى الجزائر.
مخاوف جدية
سعي فرنسا لتهدئة العلاقات مع الجزائر يرجع إلى خشيتها من خسارة امتيازاتها الكثيرة هناك، وفقدان سيطرتها الكلية على الجزائر لفائدة قوى إقليمية أخرى على غرار روسيا والصين.
ومؤخرًا وقعت الجزائر على مذكرة تفاهم بين المؤسسة الوطنية للحديد والصلب “فيرال” وائتلاف شركات صينية، من أجل استغلال منجم الحديد بغار جبيلات بمحافظة تندوف (1800 كيلومتر جنوب غرب العاصمة)، وسيكون تمويل المشروع جزائريًا صينيًا مشتركًا، في حدود ملياري دولار.
كما سبق أن فعل الجانبان صفقة إنجاز ميناء الحمدانية بمحافظة تيبازة (50 كيلومترًا غرب العاصمة)، وستكون تكلفة الميناء في حدود 3.3 مليار دولار، وسيتم تمويله في إطار قرض صيني على المدى الطويل، بينما تضمن استغلاله شركة “موانئ شنغهاي”، ويدخل ميناء الحمدانية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، ويعد من بين أهم المشاريع المخصصة لنقل السلع، ما سيمكنه مستقبلًا من إجراء مبادلات تجارية مع إفريقيا وأوروبا.
تأتي هذه الصفقات الكبيرة في وقت تسعى فيه الجزائر لفك ارتباطها مع فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، وتتصدر الصين ممولي الجزائر بـ17%، أي ما يعادل 9 مليارات دولار، وفق إحصاءات صادرة عن وزارة التجارة الجزائرية، فيما بلغت صادرات فرنسا نحو الجزائر 3.364 مليار دولار، ما جعلها تفقد مرتبتها الأولى كمورد للجزائر.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت الجزائر، اعتزامها عدم تجديد التعاقد مع شركة فرنسية مكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011، على أن تحل محلها أخرى جزائرية 100% مملوكة لمؤسسة مترو الجزائر.
تخشى فرنسا أن تخسر السوق الجزائرية، حيث تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية 2017، حسب بيانات الوكالة الجزائرية لتطوير الاستثمار، وتتمثل هذه الاستثمارات بـ500 مشروع تشمل قطاع الطاقة والصناعات، إضافة للخدمات العامة، وينخرط فيها 400 شركة، وفق المصدر ذاته.
وتخشى فرنسا أيضًا أنه لو أفسحت المجال لمنافسين من شاكلة روسيا والصين، ستجد نفسها في صعوبات ومشاكل كبيرة في الجزائر، خاصة أن التبادل التجاري مع الجزائر يقتصر على تصدير المنتجات الاستهلاكية، ما يدلل على فشلها في التوجه نحو المشاريع الكبرى.
في المقابل سعت الجزائر منذ تنحي بوتفليقة لتعزيز شراكتها الإستراتيجية مع روسيا والصين ودول أخرى في ظل رغبة النخب العسكرية والسياسية الصاعدة في إنهاء نفوذ فرنسا بالدولة والخروج من دوائر التبعية للسياسة الفرنسية التي ارتبطت بإرث الاستعمار وتغلغل الثقافة الفرانكفونية، ورغبةً أيضًا في قيادة قاطرة التطور الاقتصادي في شمال إفريقيا.