في أحد شوارع الحي السابع بمدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، يكتظ مقهى “بريك محمد” بعشرات العراقيين، يتجاذبون أطراف الحديث، يشدون أنفاس “النارجيلة” بينما يرمون حجر النرد، منذ الوهلة الأولى تشعر كأنك في مقهى الزهاوي أو حسن عجمي أو الشابندر في شارع الرشيد بوسط العاصمة العراقية بغداد.
خطوات قليلة تفصل عن هذا المقهى حتى تداعب مسامع المار المفردات العراقية الشهيرة على شاكلة “أكو، وهسه، أنطيك، ودزيت” فيما يندر استخدام اللهجة المصرية العامة، وهو ما دفع سكان المدينة هناك بأن يطلقوا على هذا المقهى “كافيه العراقيين” وبات معروفًا بهذا الاسم، حتى لدى العراقيين المقيمين خارج مصر.
وما إن تلقي عليهم السلام حتى ينتفضوا ترحيبًا بك بأشد العبارات حفاوة، مشددين على الجلوس لتناول مشروب الضيافة الشهير لديهم، تشعر كأنه صاحب المقهى وليس مجرد زبون به، الأمر لم يحتج أكثر من ثوانٍ معدودات حتى يتعرفوا على الضيف وسط أجواء حميمية دافئة.
الجالية العراقية في مصر، إحدى أقدم وأكبر الجاليات العربية التي استوطنت التراب المصري خلال العقدين الماضيين، لم يجدوا صعوبة في الانصهار داخل المجتمع المصري في ظل ما يربط الشعبين من علاقات قوية وحب متبادل، فكثير من المصريين لا ينسون للعراق فضله قديمًا حين كان قبلة العمال المصريين لسنوات طويلة، وها هو الجميل حاول المصريون رده للأشقاء بعدما فر عشرات الآلاف من أبناء الرافدين هربًا من ويلات الحرب والدمار.
الوطن الثاني
“منذ 2005 وأنا أقيم في مصر، تركت دياري وأهلي هربًا من الحرب وجئت إلى القاهرة، فالمصريون الأقرب لقلب العراقيين على مدار سنوات عدة كنا فيها نعمل معًا ونأكل معًا ونبيت معًا”، هكذا استهل عدي حديث ذكرياته عن 15 عامًا قضاها في بلد النيل.
وأضاف الشاب الأربعيني الذي لم تغير السنوات لكنته العراقية ولا سمته الخارجي أن اختيار مصر على وجه التحديد كان خيارًا منطقيًا بحكم العلاقة القوية التي تجمع بين الشعبين، لا سيما أنه خلال وجوده في وطنه كان يلتقي بكثير من المصريين العاملين هناك، وكان يعرف عن مصر ربما أكثر من بعض المصريين.
وعن سر اختيار منطقة السادس من أكتوبر تحديدًا للإقامة بها دون غيرها من المناطق الحيوية وسط القاهرة، أوضح أن هذه المدينة ربما تشبه المدن العراقية في الهدوء والاسترخاء والبعد عن الازدحام الذي تتميز به العاصمة، هذا بخلاف أنها مدينة حديثة النشأة وفرص الاستثمار بها أكثر.
وفي الطاولة الملاصقة لعدي كان يجلس رجل ستيني، ذو شارب أبيض وشعر نحيل، وكان يستمع عبر جواله إلى أغنية للمطربة المصرية “أم كلثوم” ويتمايل معها برأسه، الوهلة الأولى كان الاعتقاد أنه مصري، لكن سرعان ما كشف هويته، قائلًا: “الست لم تكن فنانة مصر وفقط بل كل العرب، ونحن في العراق نحبها كالمصريين”.
حالة السلطنة التي كان عليها أسالت لعاب الفضول للوقوف على طبيعة هذا المزاج الذي لم تعكره قاذفات الأباتشي ولا صواريخ كروز المدمرة، لكنها وبحسب – حديثه – التجربة التي تعلم منها أن الحياة يجب أن تمر مهما كانت الصعاب، وأن الحروب مهما استمرت سيسدل ستارها، وأن المنفى مهما طال لا بد من العودة للوطن والارتماء بين ركام المنازل القديمة.
أبو جاسم.. هكذا يلقب بين أصدقائه وأقاربه العراقيين، استقر في مدينة السادس من أكتوبر منذ 2008 وافتتح مشروع تجاري مع بعض المصريين بداية الأمر، لكنه استقل بعد ذلك، وصار لديه مصنع لصناعة الحلوى ومطعم مناصفة مع شريك له، يقدم الوجبات المصرية والعراقية على حد سواء.
يشير المسن العراقي إلى أن الأجواء في مصر رغم صعوبتها، فإنها الأقرب لأجواء بلاده، منوهًا أن الجالية العراقية الموجودة في المحروسة تحرص على أن تكون في مكان واحد، قريبين من بعضهم البعض، من أجل الاستئناس والدفء واستعادة روح الوطن وطقوس الحياة هناك.
اندماج اجتماعي واقتصادي
لم يأخذ العراقيون وقتًا طويلًا للتعرف على خريطة المجتمع المصري وهو ما ساعدهم على الانصهار مبكرًا بداخله، سواء كان ذلك من خلال العلاقات القديمة التي تجمعهم أم المصاهرة والنسب، بجانب التشابك الاقتصادي عبر المشروعات الاستثمارية التي دشنها العراقيون في العديد من المدن المصرية.
أبو سلمان مستثمر عراقي يعمل في مجال العقارات، يقول إنه في 2006 بدأ تأسيس أول شركة له خاصة بالاستثمار العقاري في منطقة الهرم وفيصل، وكان العراقيون جمهورها المستهدف حينها فقط، تلبية لطلباتهم وتوفير السكن الملائم لهم، خاصة أن الأعداد القادمة لمصر وقتها كانت في زيادة مستمرة.
لكن الأمور تجاوزت العراقيين حتى باتت شركة تلبي طلبات كل الجنسيات، لا سيما الخليجية، وحققت الكثير من الأرباح، على حد قوله، مؤكدًا أن ربحه الشهري كان يتراوح في الفترة من 2007 حتى 2010 نحو 4 آلاف دولار شهريًا، وهو رقم جيد بالنسبة لشركة ناشئة وأصحابها غير مصريين، كما يقول.
وأكد رجل الأعمال العراقي أن شقيقيه سلكا نفس الدرب لكن في مجالات أخرى، فالأكبر دشن مطعمًا فخمًا في منطقة مدينة نصر بالقاهرة، أما الأصغر فافتتح متجرًا لبيع الحلوى الشرقية، وكلاهما استطاعا أن يحققا ثروة جيدة من خلال تلك المشروعات التي حققت شهرةً ورواجًا كبيرًا بين المصريين.
لكن بعد 2011 تغيرت الأمور نسبيًا، إذ لعبت الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المضطربة دورًا سلبيًا في خريطة الاستثمارات الأجنبية عمومًا والعراقية على وجه خاص، فقد اضطر العديد من المستثمرين إلى تصفية شركاتهم خشية المضايقات.
وفي السياق ذاته دفعت تلك الأوضاع شريحة كبيرة من العراقيين إلى مغادرة مصر إلى وجهات أخرى، أبرزها تركيا، التي كان يرى فيها العراقيون التمايز الثقافي والمجتمعي والاستقرار النسبي الذي لم يكن بمصر خلال السنة الأولى من الثورة، حيث الانفلات الأمني واستهداف الجاليات العربية الموجودة التي باتت محل شك واتهام السلطات الأمنية.
لكن في المجمل استطاع العراقيون إحداث طفرة كبيرة في السوق الاقتصادية المصرية لا سيما العقارية، فقد نجحت رؤوس الأموال التي ضخوها في تحريك المياه الراكدة في هذا المجال الاستثماري الذي كان يعاني من تراجع كبير بسبب ندرة السيولة وحالة التضخم التي كانت تخيم على الأجواء.
عبد الرحمن ياسين، محامي ووكيل أعمال عدد من رجال الأعمال العراقيين، يقول إن الأموال العراقية التي ضُخت في سوق العقارات بمدينة السادس من أكتوبر وسوق الأطعمة في مدينة نصر بالقاهرة كان لها مفعولها السحري في إنعاش السوقين بصورة أثارت إعجاب المسؤولين المصريين أنفسهم.
وأضاف أن المشروعات التي دشنها عراقيون ساهمت في تشغيل آلاف الأيدي العاملة المصرية ثم لحقت بها السورية واليمنية بعد ذلك، هذا بخلاف ما كانت تُنعش به خزينة الدولة من خلال الضرائب والرسوم المدفوعة لتدشين الشركات والمؤسسات المملوكة لرجال أعمال عراقيين في الهيئة العامة للاستثمار ووزارتي العدل والداخلية.
هروب تدريجي
غابت الأرقام الرسمية بشأن أعداد العراقيين الموجودين بمصر، ما بين بضعة آلاف وفق مفوضية شؤون اللاجئين وعشرات الآلاف بحسب التقديرات غير الرسمية، لكن المؤكد أن تلك الأعداد تراجعت بصورة كبيرة خلال السنوات الأخيرة الماضية وذلك لسببين:
الأول: الاستقرار الأمني والسياسي النسبي في العراق، الأمر الذي دفع الكثير من أبناء الرافدين المهاجرين للعودة إلى الوطن الأم، وهو ما أشار إليه أبو سلمان الذي قال إن معظم عائلته عادت إلى بغداد فيما بقي هو في القاهرة لمباشرة أعماله، وإن كانت فكرة العودة تسيطر عليه كثيرًا.
الثاني: المنافسة الاقتصادية القوية من السوريين والفلسطينيين للمشروعات الاستثمارية العراقية، فقد نجح السوريون في سحب البساط من تحت أقدام العراقيين في المجالات التي نجحوا فيها على مدار سنوات، خاصة الثلاثي (المطاعم والحلوى والعقارات)، ما كان له تاثيره الكبير على المستثمرين العراقيين.
هذا بخلاف الاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة وكان لها تأثيرها على السوق برمته، على رأسها قرار التعويم الذي ألقى بظلاله على المشهد بأكمله، “كان الدفترين (20 ألف دولار) يشتروا منزلًا كاملًا في السابق أما اليوم فلا يمكنهم شراء شقة متوسطة الحال” هكذا قال أبو جاسم.
ارتفاع الأسعار وتراجع حركة السوق بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ومن قبلها الفوضى السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد منذ 2013 وحتى وقت قريب، كان لها تأثيرها العكسي على خريطة العراقيين في مصر التي تأثرت بصورة كبيرة يمكن قراءتها من خلال أرقام الخارجين من البلاد.
ووفق شهادات عدة لبعض الشباب العراقي المقيم في مصر فإن كثيرًا من زملائهم وأصدقائهم، ليسوا عراقيين فقط، بل من جنسيات عربية أخرى، آثرت مغادرة القاهرة خلال السنوات الأخيرة، فيما كانت تركيا ولبنان وأوروبا قبلتهم المفضلة، سواء على المستوى الاستثماري أم الأسري، وهو ما يمكن التحقق منه من خلال كشوفات العراقيين المسجلين لدى مفوضية اللاجئين، بحسب بعضهم.
معاناة رغم الانصهار
عقد ونصف قضاها العراقيون في مصر تحت مسمى “لاجئين” إلا أنهم نجحوا في الانصهار السريع بالمجتمع للأسباب سالفة الذكر، وأثبتوا قدراتهم القوية كشركاء أساسيين في دعم قاطرة الاقتصاد، مؤكدين أن صفة “اللجوء” ليست إلا مسمى توصيفي لا علاقة له بالواقع الممارس على أرض الواقع.
ورغم النجاح الباهر الذي حققته الجالية العراقية في مصر، فإن حزمة من الصعوبات والتحديات كان لها وقعها السلبي على كيفية وطول مدة بقائهم في البلاد، ما دفع الكثير منهم – وفق شهادت بعضهم – إلى المغادرة والذهاب لبلدان أخرى، أو العودة للوطن الأم.
وتعد البيروقراطية المعهودة في إنهاء الأوراق الثبوتية المعضلة الكبرى التي تواجه أبناء الرافدين في بلاد النيل، في ظل منظومة معقدة من اللوائح والقوانين المرهقة، وهي الأزمة التي تواجه معظم الجاليات العربية في مصر، حتى أبناء الوطن يعانون من تلك المنظومة البيروقراطية المترهلة.
ثم تأتي التعقيدات في إصدار الإقامات والموافقات الأمنية عليها والتأخر الشديد في الحصول عليها ضمن التحديات الأبرز التي تواجه العراقيين، إذ تستغرق دورة الحصول على إقامات – ولو مؤقتة – أسابيع وشهور طويلة، قد يضطر فيها العراقي إلى مراجعة جهاز الأمن الوطني والجوازات ومفوضية اللاجئين أكثر من مرة، وهو أمر بات مرهقا جدًا كما يعرضهم أحيانًا للمضايقات الأمنية بحسب شكوى بعضهم.
هذا بخلاف الابتزاز الذي قد يتعرض له كثير من أبناء الجالية العراقية، سواء على أيدي بعض المصريين أم الجنسيات الأخرى، خاصة فيما يتعلق بإنهاء الإجراءات الدراسية والأبحاث العلمية والأوراق الخاصة بتأسيس الشركات والهيئات، التي باتت ظاهرة تؤرق العراقيين وإن تراجعت بنسبة كبيرة خلال الآونة الأخيرة.
وفي الأخير.. تبقى كل التحديات السابقة قوة دفع تؤجج مشاعر الحنين للوطن لدى العراقيين الذين أشاروا إلى أن هذا الحلم لم يفارق خيالهم رغم سنين الغربة الطويلة، آملين أن تتحسن الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في بلادهم حتى يعودوا ليعيدوا ذكريات الماضي ويبنوا معًا أمجاد الحاضر والمستقبل.