لم تكن أهوال السجن وأبوابه المقيدة وحدها تلاحق أذهان المعتقلات السوريات بعدما تحررن بأعجوبة، بل إن المجتمع الذي غض بصره لسنوات أمام تلك المعاناة، ظل مكتفيًا بالبحث عن إجابة لسؤاله “هل اغتصبوكِ؟”، رغم أن المضايقات الجنسية في زنازين النظام السوري لم تكن أسوأ ما تعرضن له.
خلال فترة الاعتقال، تتعرض السجينات إلى أبشع أصناف التعذيب، على غرار الشدّ إلى العجلات وحرق الجسد بالسجائر، فضلًا عن الصدمات الكهربائية في الأماكن الحساسة من الجسم، وحرق الأصابع، أمّا الأسلوب الأكثر شيوعًا بين معظمهن فهو الاغتصاب.
يرفض العديد من النساء اللاتي تعرضن للاعتداء الجنسي الحديث عن تجاربهن المريرة، خاصة أن العديد من الضحايا اغتُصبن أمام أنظار أزواجهن أو أبنائهن.
وفي أحدث الإحصاءات، أشار تقرير اللجنة السورية المستقلة، الصادر في 14 أغسطس/ آب 2020، إلى تعرض العديد من النساء المحتجزات للاعتداء الجنسي، من قبل موظفين في عدد من مواقع الاحتجاز غير الرسمية والمنتشرة.
في حين وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 8 آلاف حالة عنف جنسي، ارتكبتها قوات النظام السوري بحق نساء سوريات، كما تسببت أطراف النزاع في سوريا بمقتل أكثر من 28 ألف امرأة، و29 ألف طفل منذ مارس/ آذار 2011 وحتى 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، حوالي 83% منهم على يد قوات النظام السوري والميليشيات والقوى المتحالفة معه.
الطلاق مصيرها
الثلاثينية صفاء نور، والتي اعتقلت بتهمة “ملفقة” تحت اسم “الإرهاب”، قضت ما يقارب العام داخل الزنازين متنقلة بين فرق التحقيق القاسية؛ تحكي عن تجربتها المريرة، وما عاشته من ترويع وإهانة لا يخطر على بال أحد. بيد أنها عندما أفرج عنها لم تكافأ باحتضان أو دعم، حيث كانت “ورقة الطلاق” مصيرها.
تقول صفاء لـ”نون بوست”: “صدمت بالنظرة السلبية تجاه المعتقلة، يعتبرون أن اعتقالها يمس بالعرض والشرف، حتى أهلي اعتبروا الاعتقال من الكبائر، وقاطعوني أبدًا”.
ما رأيته خارج المعتقل لم يختلف كثيرًا، قوبلنا بالتشكيك ونظرة الاشمئزاز، وكأننا نحن من اخترن السجن والاغتصاب
وتابعت: “كل من يراني ويعرف أني قد اعتقلت، يظن أنني تعرضت للاغتصاب، ولا يصدق إن نفيت. حتى أقرب الناس إليّ الذي هو زوجي، تبنى فكرة أن شيئًا حدث في المعتقل، وبسبب ذلك تفاقمت الخلافات بيننا، وانتهى الأمر بالطلاق”.
تعيش صفاء وحيدة، بعدما أخذ طليقها أولادها الثلاثة، حيث انتقلت من دمشق إلى إدلب، عازمةً على المضي في إكمال دراستها، تسدد ثمن ذلك من خلال قيامها بإعطاء الدروس الخصوصية للطلاب.
وتضيف: “إن الظلم الذي عشته في تلك السجون، جعلني أحتمل كل الصعاب الأخرى، بما فيها إقصاء المجتمع لي وتنكره لحقوقي، كما أن هذا دفعني إلى إثبات نفسي، وتغيير مسار حياتي للأفضل”.
من ناحية أخرى، اختارت بعض السجينات السفر هروبًا من “جحيم الواقع الجديد ونظرة المجتمع الدونية لهن”.
لا تختلف قصة بل مأساة أم علي (اسم مستعار) البالغة 40 عامًا عن صفاء، فهي أرملة وأمّ لخمسة أطفال تعيلهم بشق الأنفس، استشهد زوجها في بداية الثورة السورية، وأضحت المعيل الوحيد لأطفالها. تسرد لـ”نون بوست” بدايات حياتها مع العمل حيث انضمت إلى مجال الخياطة، وبتهمة ذلك سجنت لمدة تزيد عن العامين، تعرضت فيهما لمعاملة قاسية وغير إنسانية، كمثيلاتها الأسيرات، من شبح وجلد وتحرش، كما استخدم المحقق أولادها كورقة ضغط وتعذيب.
وأكملت حديثها: “لم أتخيل خروجي يومًا حية أو بكامل قدرتي العقلية، كنت أدعو الله الخلاص من هذا الظلم، لكن ما رأيته خارج المعتقل لم يختلف كثيرًا، قوبلنا بالتشكيك ونظرة الاشمئزاز، وكأننا نحن من اخترن السجن والاغتصاب”.
كانت أم علي من بين النساء اللواتي فضّلن الغربة، لحماية أولادها، وللتخلص من القيود التي فرضت عليها لكونها معتقلة، وتتمثل الحرية لدى السيدة الأربعينية في وسط لا تعرفه ولا يعرفها.
غياب الدعم الاجتماعي
أوضحت الناشطة الاجتماعية نسرين قوجو صرار، أن المعتقلات في سجون النظام في سوريا، يواجهن بعد الإفراج عنهن صعوبة في الاندماج والعودة إلى الحياة العملية، كذلك يجدن أنفسهن منبوذات من قبل المجتمع ومجبورات على التأقلم من جديد، وفي بعض الأحيان تتفاقم مأساة بعض السجينات اللاتي يعانين من آثار التعذيب في ظلّ غياب وسائل العلاج المناسبة والإحاطة النفسية.
وتضيف الناشطة، في حديث خاص لـ”نون بوست”: “هناك الكثير من القصص والشواهد على ظلم المجتمع، كالزواج القسري، أو الإعلان عن وفاتها، وأخريات تطلقن، وكان وقع ذلك على نفوسهن أشد من قسوة السجن وقهره”.
وأكدت أن نبذ المجتمع للمعتقلات يعد إجرامًا بحقهن، في وقت كان من الأولى تقديم الدعم النفسي وإشعارهن بأنه يعي ما مرت به، ويقدّر معاناتها، لا العكس، وفق قولها.
إقناع الناجيات بالزواج بسرعة بدافع “السترة” هي معاناة تزيد الجرح جرحًا، كأنهن مجرمات في نظر جهلة المجتمع، وتجاهل كونهن ضحايا ظلمن في حياتهن في أمور كثيرة
كما طالبت الناشطة السورية بضرورة توفير مراكز دعم وتأهيل للمعتقلات تشمل كل الجوانب، بالإضافة إلى توظيف حملات توعية للمجتمع السوري، بكيفية احتضان نسائه وزوجاته المعتقلات، وما يجب فعله تجاهن.
“تجمع الناجيات”
تحت عنوان “تجمع الناجيات”، شكلت محررات من سجون النظام السوري جسمًا تنظيميًّا لهن في الشمال السوري.
بحسب مديرة التجمع، المعتقلة سابقًا، سلمى الجدي، أن أبرز أهداف التجمع، الذي تعرض لضغوط كثيرة للتوقف عن العمل، يتمثل في تمكين المعتقلات في المجتمع، ومساندتهن للانطلاق من جديد، وإيصال صوتهن للمؤسسات والمنظمات الإنسانية والحقوقية، ومتابعة كامل شؤونهن.
وقالت لـ”نون بوست”، في بداية حديثها، إن ظروف الناجيات صعبة للغاية، أولها نظرة المجتمع السلبية لهن، خاصة نظرة الاتهام بأنهن مغتصبات، ومحاولة جهات متعددة المتاجرة بحقوقهن ومعاناتهن، واستغلال قضيتهن لمصالح شخصية.
كما لفتت إلى أن فكرة إقناع الناجيات بالزواج بسرعة بدافع “السترة”، هي معاناة تزيد الجرح جرحًا، كأنهن مجرمات في نظر جهلة المجتمع، وتجاهل كونهن ضحايا ظلمن في حياتهن في أمور كثيرة.
وشددت على أن المعتقلات في سجون النظام يعشن واقعًا مريرًا، يتمثل بالإهانات، والمعاملة السيئة، والتحرش الجنسي الذي يصل أحيانًا إلى الاغتصاب، وعدم وجود أي رعاية صحية لهن في ظل انتشار الكثير من الأمراض، واعتبرت أن ما يجري داخل السجون بحق النساء من أسوأ الجرائم الإنسانية.
سياسة ممنهجة
منذ عام 2011، استخدم النظام السوري العنف بشكل مفرط ضد المتظاهرين، حيث أمعنت قواته في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان على الحواجز وخلال مداهمة المنازل للبحث عن المطلوبين، واعتقال النساء وخطف الفتيات لإجبار أزواجهن أو أقاربهن على تسليم أنفسهم.
وغالبًا ما كنّ يتعرضن لاعتداءات جنسية بهدف ترويع الحاضنة الشعبية للمنخرطين في الاحتجاجات الشعبية، غير أن هذه الانتهاكات تحولت لاحقًا إلى “سياسة ممنهجة” في مجتمع تحكمه أعراف وتقاليد متجذرة، تربط هذه الجرائم بوصمة العار الاجتماعية التي قد تستمر لسنوات طويلة.
قال مدير الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين، فهد الموسى، إن العديد من القرارات الدولية تنص على إطلاق سراح المعتقلين في سوريا وبيان مصير المختفين منهم، حيث تولي هذه القرارات الأولوية لإطلاق سراح النساء والأطفال كفئات مستضعفة، إلا أن نظام الأسد ضرب بعرض الحائط الدساتير السورية وكافة القرارات الدولية والقانون الإنساني العرفي.
وأضاف، في حواره مع “نون بوست”: “أن النظام السوري أمعن باعتقال و إخفاء آلاف النساء لقمع المجتمع السوري وضرب بنيته الاجتماعية، خلافًا لاتفاقيات منع التعذيب، حيث تعاني النساء المعتقلات في السجون السرية والعلنية كل أصناف التعذيب، عدا الحرمان من محاكمات عادلة ونزيهة ومنعهن من التواصل مع أهاليهن أو محامين للدفاع، وغالبًا ما يتحول الاعتقال إلى اختفاء قسري ونكران أفرع المخابرات وجود المرأة المعتقلة لديهم، عدا اعتقال أطفالها معها أو تشرد الأسرة في حال غياب الأم المعتقلة”.
دور لا يتعدى سوى التوثيق والدعم النفسي، في حين حاجة المرأة المعتقلة أو الناجية من الاعتقال أكثر من ذلك بكثير
وأكد الحقوقي الموسى أن النظام السوري كان حريصًا على نقل معاناة النساء المعتقلات في سجونه من أجل ترويع وترهيب المجتمع السوري، لوقف الاحتجاجات المطالبة بالحرية والكرامة.
واستطرد بقوله: “نظرًا إلى حساسية هذه القضية المرتبطة بالشرف، فأغلب العائلات تكتمت على اعتقال بناتها ولم تقم بتوثيق هذه الحالات لدى المنظمات الحقوقية، وسعت هذه العائلات لإطلاق سراح بناتها مقابل رشاوى مالية باهظة للقضاة وضباط المخابرات، وأكثر هذه العائلات تعرض لحالات النصب والاحتيال من السماسرة”.
دور المجتمع المدني
حول سؤالنا عن دور المجتمع المدني في حماية المعتقلات، أفاد الموسى بأنه دور لا يتعدى سوى التوثيق والدعم النفسي، في حين حاجة المرأة المعتقلة أو الناجية من الاعتقال أكثر من ذلك بكثير.
واستدرك مدير هيئة الأسرى بالقول: “إن عمل المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في المناطق الخاضعة لنظام الأسد يعتبر من المحرمات، لا تستطيع هذه المنظمات العمل على تقديم أي دعم للنساء المعتقلات أو الناجيات، حتى يمنع في أغلب الأحوال توكيل محامٍ، خصوصًا في مرحلة التحقيق”.
وشدد الموسى في ختام حديثه، على أن الاعتقال الذي تمارسه سلطات النظام السوري والإخفاء القسري للمعتقلين والمعتقلات يعد جريمة إرهاب دولة منظمة وممنهجة، ترقى إلى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية.