بعد ترشح فيلم “الهدية” للمخرجة الفلسطينية البريطانية فرح النابلسي، ضمن القائمة القصيرة للأفلام الروائية القصيرة المتنافسة على الأوسكار لهذا العام، تم الإعلان عن فوز الفيلم بجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام “بافتا” لأفضل فيلم بريطاني قصير، ضمن حفل افتراضي جرت أحداثه في Royal Albert Hall في لندن يوم السبت 10 أبريل/ نيسان.
نقطة تحول فرح النابلسي إلى السينما
لأبوين فلسطينيين، ولدت فرح النابلسي في المملكة المتحدة عام 1978. كبرت ودرست في لندن وبدأت حياتها المهنية في العمل البنكي. بهدف تتبع جذور عائلتها الفلسطينية وبعد زيارات متعددة في طفولتها إلى فلسطين، عادت النابلسي لتزورها مرة أخرى في عام 2013. تأثرت المخرجة بتلك التجربة التي غيرت حياتها كليًّا بحسب وصفها في مقابلة لها مع موقع الجزيرة الإنجليزية. فلقد استطاعت أن تتعرّف إلى الواقع الحقيقي والمعاناة اليومية التي يتكبدها الفلسطيني تحت ظلم الاحتلال، وأدركت مثل كثيرين ممن يزورون فلسطين أن قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام الوثائقية ومتابعة الأخبار ليست كافية لمعرفة حقيقة الواقع هناك، وأنه لا بديل عن الذهاب ومشاهدة حياة الفلسطينيين عن قرب لفهم الحقيقة.
تلك الرحلات إلى فلسطين جعلت النابلسي تدرك أن التعاطف مع القضية الفلسطينية وتقديم التبرعات ليسا كافيَين لإحداث تغيير جذري، ولذلك أسّست شركة Native Liberty غير الربحية لإنتاج الأفلام، إيمانًا منها بأن الفن يخاطب القلب ويلعب دورًا جوهريًّا في إحداث التغيير في العالم، وأن السينما تسبق جميع الفنون في كونها قادرة على دفع العالم إلى التغيير الحقيقي، فهي تمنح صوتًا لمن تم إسكاتهم بحسب رأيها، وبالتالي تساعد على خلق التعاطف والتفاهم اللازمَين لإحداث التغيير.
وهكذا وجدت فرح النابلسي نفسها في عالم السينما كمخرجة ومنتجة. فإلى جانب فيلم “الهدية”، عبّرت النابلسي عن معاناة الإنسان الفلسطيني من خلال ثلاثة أفلام قصيرة أخرى، هي “كابوس في غزة”، “اليوم أخذوا ابني” و”محيطات من الظلم”. وتعمل المخرجة حاليًّا على فيلمها الطويل الأول.
فيلم من الحياة اليومية في فلسطين
يروي الفيلم حكاية يوسف (يقوم بالدور صالح بكري) الذي ينطلق في أحد الأيام بصحبة ابنته ياسمين (مريم كنج)، لشراء هدية لزوجته نور (مريم باشا) في الذكرى السنوية لزواجهما. في أربع وعشرين دقيقة، يأخذ الفيلم المُشاهد إلى قلب حياة الفلسطيني اليومية في الضفة الغربية المحتلة، وما يعانيه أمام نقاط التفتيش والحواجز العسكرية الإسرائيلية حتى لو أن هدف تنقله بسيط، وهو مجرد شراء هدية. يسلط الفيلم الضوء على حرمان الفلسطيني من حقه الطبيعي في التنقل، ما يجعل مهام حياته اليومية معقدة.
استلهمت المخرجة الفيلم من تجربتها الشخصية في فلسطين، حيث جربت الانتظار على نقاط التفتيش وراقبت حياة الفلسطينيين اليومية بين الحواجز والمعابر، وأدركت بنفسها التأثير الكبير لمثل هذه المعوقات على الإنسان الفلسطيني، ليس فقط على مستوى تعطيل أمور حياته اليومية بل أيضًا على مستوى ما تخلفه هذه التضييقات اليومية من آثار نفسية واجتماعية.
وفي حديثها عن موضوع الفيلم الأساسي حول حرمان الفلسطيني من حقه الشرعي في التنقل بحرية، تقول النابلسي في مقابلة لها مع القدس العربي: “حق الحركة هو واحد من حقوق الإنسان الأساسية، التي يعتبرها معظم الناس في جميع أنحاء العالم أمرًا بديهيًّا – ربما حتى وقت قريب، بسبب قيود الحركة التي فرضتها جائحة كوفيد-19، ولكن عادة ما يكون الحق في التحرك كما نشاء في حياتنا اليومية، أمرًا لا يفكر فيه معظم الناس لأنه مفروغ منه، ولكن بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن هناك أكثر من 150 نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية، ونحو 100 نقطة تفتيش أخرى متجولة (يمكن أن تظهر في أي وقت وفي أي مكان). في فلسطين طرق منفصلة والتفافية، حظر تجول، حصار، جدار الفصل العنصري وما إلى ذلك”.
“الهدية” للنابلسي هو هديتها إلى الشعب الفلسطيني
رغم أن “الهدية” هو باكورة أعمال النابلسي في مجال الإخراج، إلا أن الفيلم بقصته وإمكاناته البسيطة حصد عدة جوائز (26 جائزة بحسب موقع IMDb) كان آخرها جائزة “بافتا” البريطانية التي تمنحها الأكاديمية البريطانية للأفلام. وفي أول عرض عالمي له، حصل الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان كليرمون فيرون الدولي للأفلام القصيرة لعام 2020. كما نال جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم قصير في مهرجان كليفلاند السينمائي الدولي في أميركا الشمالية، وجائزة في مهرجان بروكلين السينمائي، ومهرجان الفيلم العربي (AFF)، والعديد من الجوائز الأخرى. والفيلم مرشح للدورة الـ 93 للأوسكار عن فئة Live Action Short Film، الذي سيقام في الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان الجاري.
وفي تعليقها على فوز فيلمها بجائزة “بافتا”، شكرت النابلسي طاقم العمل وعائلتها وأصدقاءها، وأكدت على إهدائها هذا الفيلم إلى الفلسطينيين: “لأي شخص قد شاهد الفيلم، سوف تعرف لماذا أهدي هذه الجائزة إلى الشعب الفلسطيني الذي طال انتظاره للحرية والمساواة”.
من الجدير بالذكر أن الفيلم من إنتاج شركة Philistine Films، وقد شاركت في كتابته إلى جانب النابلسي الكاتبة وصانعة الأفلام الفلسطينية هند شوفاني. ويعرض الفيلم منذ مارس/ آذار للعام الحالي على المنصة العالمية نتفلكس.
دور السينما في إعادة تشكيل صورة حقيقية لفلسطين
لم يكن “الهدية” هو الفيلم الفلسطيني الأول الذي يترشح ويفوز بعدة جوائز عربية وعالمية في الآونة الأخيرة، فقد أشاد النقّاد السينمائيون والجمهور بالفيلم الفلسطيني “200 متر” للمخرج الفلسطيني أمين نايفة، الذي فاز بعدة جوائز نذكر منها جائزة الجمهور في مهرجان فنيسيا السينمائي لعام 2020، وخمس جوائز في مهرجان الجونة السينمائي في مصر.
وحتى عامنا هذا، قدمت فلسطين ثلاثة عشر فيلمًا لجائزة الأوسكار، نال اثنان منها ترشيحًا ضمن فئة أفضل فيلم أجنبي، وهما فيلما “الجنة الآن” عام 2006 و”عمر” عام 2013 للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد.
المشاركات الفلسطينية في مثل هذه المناسبات الدولية هي فرصة كبيرة لكشف الوجه الحقيقي لفلسطين. فإن صورتها المطبوعة في أذهان الكثير من الشعوب ليست عن الأماكن، السياحة، المواهب، السينما، الفن، الأدب، الناس، الاستثمار أو الأعمال مثل بقية البلدان، بل هي صورة فلسطين التي تنزف أو فلسطين التي تقاتل سواء ظالمة أو مظلومة. هذه الصورة النمطية عن فلسطين لا تعبّر بشكل كامل عن حقيقة هذا البلد وقصته، بل تسيء إليه أحيانًا بطريقة ما.
إن الشعوب العربية والعالمية لديها فضول كبير تجاه فلسطين والحياة فيها، يتوقون إلى معرفة تفاصيل الحياة اليومية هناك، ويتطلعون إلى معرفة كيف يعيش الناس هناك، ما هي أحلامهم؟ ما هي مخاوفهم وتطلعاتهم؟ هل يذهبون إلى المدارس والجامعات؟ هل لديهم أصلًا جامعات؟ كيف يلبسون؟ هل لديهم مطاعم؟ هل يعيشون الحب؟ والكثير من التفاصيل الأخرى التي لا يجدون لها جوابًا لا في الإعلام ولا في الأعمال الفنية.
لكن يبدو أن القائمين على الأفلام الفلسطينية بدأوا يدركون أن دور السينما في السياق الفلسطيني، لا يجب أن ينحصر فقط في سرد المعاناة وتصوير الفلسطيني كضحية، بل لا بد من تصوير مقاطع من الحياة اليومية بشكل فني يلائم الجمهور العالمي، فنجد أن الأفلام الفلسطينية في السنوات الأخيرة ورغم ما تحمله بين مشاهدها من معاناة الفلسطيني، إلا أنها بدأت تعبّر عن “الإنسان” في فلسطين، الإنسان الذي يأكل ويلبس ويتعلم ويعمل ويبدع ويحب مثل جميع البشر.
فلسطين اليوم بحاجة ملحّة إلى توظيف السينما وجميع الفنون الأخرى لرواية حكايتها من وجهة نظر فلسطينية، من أجل دحض جميع الصور النمطية السلبية والتشويهية، ومن أجل إعادة تشكيل صورة صادقة لها أكثر إيجابية.