ماذا لو كانت فرنسا تحسب أيامها الأخيرة في المتوسط؟ سؤال يتعمد خلط الأماني بالتوقعات، فالكاتب ضحية الاستعمار الفرنسي وقد عاش يحلم بالحرية ويعرف عدوه بوضوح، فحيث ما التفت وجد أثر فرنسا كما يجد أثر الطاعون. المعلومات الاستراتيجية ضنينة حول المرحلة، والمصادر تتضارب، لكن مؤشرات كثيرة تترادف لتكشف الوضع الدقيق للهيمنة الفرنسية على البحر المتوسط وعلى بلدان شرق المتوسط منه خاصة. ويود الكاتب أن يدفع أفق التفاؤل إلى حد القول إن الثورة التونسية الصغيرة في البلد الصغير قد قوضت أقدام فرنسا في المتوسط. لنتحلَّ بالصبر ونراقب التطورات، ولكن في الأثناء سنجمع المؤشرات ونؤولها في أفق تحرر وطني من الهيمنة الفرنسية.
موجة حرية أعادت كشف القوة الاستعمارية الفرنسية
يذكر التونسيون أيام ثورتهم ويتذكرون أن فرنسا ظلت تحمي بن علي حتى اللحظات الأخيرة، عارضة عليه المساعدة اللوجستية والبشرية، لكن بن علي سقط وانتشرت نار الثورة في هشيم الاستعمار وأذنابه من جبل الشعانبي (القصرين) حتى جبال اليمن السعيد. في موجة الردة على الثورة يتذكر العرب أن فرنسا كانت فاعلًا أساسيًّا في تونس وفي جوارها، لهدم الآمال التي بنتها شعوب المنطقة في الانعتاق وبناء دولهم العربية المستقلة موحدة ومتكاملة. لقد وجد العرب أن فرنسا تقف لهم بالمرصاد، فهي مموِّل الثورة المضادة بالخبرات والسلاح والتخابر والاغتيالات السياسية. ففي تونس يقين ثابت أن فرنسا بأذنابها من بدأت الاغتيال السياسي وشرّعت له ولديها المزيد. لقد ملك رئيس فرنسا السابق ما يكفي من الوقاحة ليعلن أمره بتنفيذ أربعة اغتيالات سياسية في تونس، ويعرف التونسيون شهداءهم.
يعرف الليبيون بالجوار وجوه الخبراء الفرنسيين الذين نظموا جيش حفتر المرتد، ويحفظون لفرنسا مواقفها في تخريب ثورتهم، فقد كان خبراؤها يهربون عائدين عبر تونس التي يتواطأ حاكمها الصنيعة الفرنسية (الباجي قائد السبسي) على تهريبهم بزعم أنهم صيادون أو خبراء نفط. ويعرف الجزائريون بالجوار أيضًا قوة فرنسا في بلادهم وسعيها الحثيث لإبقاء الجزائر الدولة الإفريقية الأكبر والأقوى تحت هيمنتها، باصطناع نخبة متفرنسة كان للجزائريين شرف تسميتها منذ التسعينيات بحزب فرنسا. في بلدان شمال إفريقيا حزب فرنسا واحد ويقاوم الثورة المتقدمة في هشيمه، وتمده فرنسا بقصبة أخيرة للتنفس لكن الرياح في ما يبدو تغيرت، حيث دخل لاعبون جدد في المتوسط ويرون فرنسا الاستعمارية ويسحبون البساط من تحتها، فيجعلون سقوطها وشيكًا.
نرجح أن وراء التفاهمات الاقتصادية المعلنة تفاهمات عسكرية لا تقل أهمية، وإن لم تعلن للعموم
من ليبيا يأتي حلٌّ جديد
لم تخضع ليبيا لهيمنة الثقافة الفرنسية، والفاشيون الإيطاليون لم يدخلوا عقل الفرد الليبي لذلك لم يتركوا أثرًا ثقافيًّا سوى حقد دفين على الاستعمار وتوق متجدد للحرية، على خلاف ما فعلت فرنسا في تونس والجزائر والمغرب وبقية مستعمراتها في العالم. ليبيا في ما يبدو لي حسمت أمرها وطردت فرنسا أو تكاد، ولن يكون لها في السوق الليبية في مرحلة إعادة الإعمار نصيب يذكَر، وستراقب الغنيمة في أفواه الأتراك والإنجليز والإيطاليين دون أن تملأ سفنها من النفط الليبي النظيف. الحل الليبي رسالة إلى غيرها وخاصة جيرانها، أنه توجد بدائل اقتصادية غير الخضوع لفرنسا بصفتها قدرًا على شعوب المنطقة.
سفر رئيس حكومة ليبيا إلى تركيا في أبريل/ نيسان 2021، وإبرام تفاهمات اقتصادية مع الأتراك ليس حلًّا ليبيًّا فقط، بل هو دعوة لتجاوز القدر الفرنسي الغاشم. هناك اقتصادات أخرى قادرة على التعاون دون إخضاع ثقافي. التركي لاعب جديد ومقتدر في المتوسط، وسمعة سلاحه تحولت من الدفاع إلى الردع، وهو يتحرك في المتوسط متحديًا، ما يذكر بعصر عروج وخير الدين بربروس قرصانَي المتوسط اللذين تذكرهما البحرية الإمبراطورية الفرنسية جيدًا.
نرجح أن وراء التفاهمات الاقتصادية المعلنة تفاهمات عسكرية لا تقل أهمية، وإن لم تعلن للعموم. فليبيا تذكر دور الأتراك في رد العدوان على عاصمتها والجزاء من جنس المساعدة، فالحوار التركي الليبي مستمر منذ سنوات الثورة وسيبنى عليه ما يقطع أرجل فرنسا من السوق الليبية، في السلاح والنفط والموقف الدبلوماسي الدولي.
توجد في تونس حالة تملُّل ضد فرنسا في أوساط سياسية وشعبية واسعة. لقد تجرأ التونسيون أخيرًا على النظر في عين العدو، وسمّوه بالاسم ويشرعون للتحرك ضده، وقد توسعت حالة الوعي لديهم نتيجة ما انكشف لهم من دور فرنسي في إيصال قيس سعيد بالخديعة والمكر إلى سدة الحكم، ثم توظيفه لاحقًا لتخريب الثورة ومنع الانتقال الديمقراطي، حيث تعرف فرنسا قبل غيرها أن حزبها في تونس يخسر كلما ترسخت أقدام الثورة وتقدمت الديمقراطية. لقد اتضحت المعركة أخيرًا، الثورة قامت ضد فرنسا أولًا وكانت حركة تحرر وطني. لقد كانت هذه حدوس الأيام الأولى من الثورة، وتاه الشباب في لعبة تتقنها المخابرات المدربة والثورة تتعقل وتعود بشكل متزن وواعٍ، يبتعد عن جَيَشان الثورة إلى هدوء السياسة واتزان فعلها.
يمكننا قول الشيء نفسه عما ينطق به الحراك الجزائري العائد، رغم فيروس كورونا المتفشي. الشعار الآن في شرق المتوسط: “فرنسا هي الطاعون والطاعون هو فرنسا”. يكفي أن يكون حليفها في هذه المرحلة المتوترة العسكري المصري الانقلابي وقادة الردة في الخليج حلفاء الصهاينة لتكون طاعونًا يوجب القضاء عليه، وقد أُعلنت الحرب في طرابلس وفلول فرنسا في تونس يحاربون متراجعين وأضعف أسلحتهم هو قيس سعيد، الصنيعة الأخيرة التي لم تجد أفضل منها لتديم وجودها في تونس، ولكن هيهات لقد مرت مياه تحت جسور كثيرة منطلقة من معين صافٍ هو الثورة التونسية.
لن تغادر فرنسا غدًا صباحًا، فالمعركة بدأت لكن فرنسا قطعت العشب تحت قدميها لأنها رغبت في الكل ولم تشأ القسمة
تغيُّر الحلفاء في المتوسط
دخلت تركيا لاعبًا أساسيًّا في المنطقة بما ملكته من قوة الاقتصاد وقوة السلاح الذي يربك القوى التقليدية، بما فيها القوة العالمية الأولى التي نراها تغير تحالفاتها لتكون تركيا قوة متحركة. دخول الصين إلى إفريقيا صار كابوسًا أميركيًّا خاصًّا تعمل على الحد من نفوذه في القارة السمراء، وتبدو بلدان شمال إفريقيا مرتكزًا جيدًا لبدء التصدي الأميركي للصين. والتحالف مع هذه البلدان يبدأ من ليبيا ويمر عبر البوابة التركية التي سبقت الجميع إلى وضع قدم في ليبيا لا يمكن زحزحتها. لا نتحدث هنا عن تحالف أنداد نظراء، بل عن تحالف مصالح يراعي موازين القوة تاريخيًّا. وتجد مستعمرات فرنسا فرجًا كبيرًا في اختلاف التعامل مع الأميركي مقارنة مع الفرنسي مخرّب العقول قبل الاقتصاد. ويبحث الأميركي في ذلك عن سبيل لقطع اليد الروسية التي تحاول الامتداد إلى المياه الدافئة، عبر التحالف الروسي الفرنسي الصيني الذي يحاول عبر البوابة المصرية.
فإذا أضفنا إلى هؤلاء الطموح الإنجليزي في بناء اقتصاد خارج الحلف الأوروبي، فإن المتوسط سيصير بحيرة أميركية تركية إنجليزية ربما يجد فيها الإيطالي نصيبًا لم يكن ليناله في ظل هيمنة فرنسا عليه.
لن تغادر فرنسا غدًا صباحًا، فالمعركة بدأت لكن فرنسا قطعت العشب تحت قدميها لأنها رغبت في الكل ولم تشأ القسمة. والوعي بالتاريخ يتغير بفعل الثورة التونسية وأخواتها في كل قطر بما في ذلك مصر، والوقت في تقديرنا يعمل ضد الفرنسيين. وعندما نرى حلفاءها المتبقين نوقن أنها راهنت على الخاسرين وعادت الثورات الواعدة بالاستقلال. وهي التي زعمت دومًا قيادة ثورة العالم نحو الحرية.
الكذبة الفرنسية انتهت ومعها يتقلص النفوذ السياسي والثقافي، ونحن نقرأ الرعب في عيون أنصارها (حزب فرنسا في المغرب العربي خاصة). إننا نشهد تحقق بشارات عمر المختار عن الأجيال التي تحارب جيلًا بعد جيل حتى اكتمال بناء الحرية. ونجزم أنه سيكون للأجيال القادمة مواضيع حديث شيقة مليئة بالسخرية من الديك الفرنسي الذي يملأ الدنيا صراخًا وقدماه غارقتان في المزابل. تلك مفاعيل صرخة المظلومين منذ قرون (الشعب يريد…) التي كنست فرنسا من المغرب العربي، ولو وسع الشعار لكنسها من البحر الأبيض المتوسط لما كان جانب الصواب.