منذ أن تركت الإخوان في 2005 بجسدي وانتمائي الفكري، وأنا لازلت لم أتركهم بروحي وقلبي وعاطفتي، فلا زلت أعيش في جلباب أفكارهم ناقدًا لاذعًا تارة، ومشجعًا داعمًا لهم تارة، وأحيا في منهجهم ووسائلهم مجددًا لما أراه أنا صوابًا – وقد يرونه خبثًا أراح الله جماعتهم منه -، ورغم اختلافي الشديد لسياستهم ومساراتهم – وخاصة بعد ثورة يناير – إلا أنني أقدرهم وأحترمهم وأحترم دورهم وفضلهم على كثير من أمثالي من الشباب.
تركت الإخوان ولم أترك علاقاتي بكثير من شبابها الطيب الطاهر النقي، هذا الشباب الذي يمتلك قدرات عالية وأفكار جميلة تحتاج ترشيد وتوجيه سليم من خلال قيادة ربانية راشدة تفهم الواقع الذي تعيشه وبيئة الصراع المحيطة وتخطط له استراتيجيًا جيدًا وتتعامل معه بذكاء الكبار وحماسة الشباب وثورتهم لتحبط مخطاطاته وتفشل مساراته ولا تتعامل معه بردة الفعل.
وممن أعرفهم واستمرت علاقتي الطيبة بهم أخ كريم طيب، عرفته من أهل الخير سباق فيه، صاحب عبادة وله خلوات مع ربه، له سمت الصالحين العاملين، شجاع في الحق، رجل في المعيشة والموقف والحال، مثقف الفكر، قارىء جيد، ودود، يحبه الناس ويحب الناس، وكانت تجمعني به في فترة الإخوان الأسر التربوية والكتائب الإيمانية.
وأذكر له موقف جميل؛ وقت (ورد المحاسبة) كان دائمًا المتفوق بيننا في عباداته وأذكاره وأعماله، حتى أنه في يوم من الأيام سرد لنا يومًا حافلاً من أيامه يعجز أحدنا عن القيام بخمس جدوله اليومي، فأشفقت عليه وهو يسرد لنا ورد طاعاته وعباداته وأعماله اليومي، فتحدثت معه وقلت له: لما تثقل على نفسك بذكر كل هذا؟ فقال لي: إنه ذكرها وكأنه لم يقولها، ولكن قالها لسانه، فتعجبت وكأن تعودت جوارحه على الطاعة والأعمال فجبلت عليها في طواعية له متناهية!
إنه أخي وصديقي الكريم الطيب الدكتور “علي عبد المنعم زهران” الذي وقع في قبضة الظلم والطغيان؛ فظهر له فيديو أذاعه إعلام الانقلاب، ويظهر الدكتور “علي” شاحب اللون وعليه آثار التعذيب الشديد الذي وقع عليه هو وإخوانه في سلخانة مديرية أمن المنيا بعد اختفائه القسري لمدة ثمانية أيام لا يعلم أحد مكانه، ومن شخصية مشهود لها بالصلاح والتقوى وحب الخير، تحوله داخلية الانقلاب في عشية وضحاها إلى إرهابي يصنع القنابل ويفجرها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولم تقف مأساتي عند صديقي فقط، لكن هناك من المآسي والمصائب والابتلاءات الكثير والكثير، وإليكم بيت مكلوم في ولديه الشابين الجميلين “أحمد فراج” و”محمد فراج”، وكان قبلهما أبوهما معتقل في سجون المنيا، هذان الشابان الجميلان كزهرتين يانعتين في بستان بلدتنا الصغيرة، وأثناء اعتقالهما المرة الماضية طلب والدهما الصالح الحاج “فراج” من قوات الانقلاب أن يعتقلوا واحدًا فقط ويتركوا واحدًا إلا أنهم اعتقلوا الاثنين، أحدهما طالب في نهائي طب أسنان يمتاز بقدر من النشاط والحيوية، مثقف الفكر، جميل الخلق، نقي النفس والسريرة، اُعتقل مرة بتهمة إدارة صفحة مناهضة للانقلاب والثانية بتهمة تصنيع قنابل وتفجيرها في مديريات الأمن ومحطات الكهرباء، وثانيهما طالب جميل هادىء في السنة الثانية طب بشري معتقل في سجن برج العرب بسبب بوست فيسبوكي يدّعون أنه يهدد مدير أمن الإسكندرية.
(صورة أحمد فراج من اليمين ومحمد فراج من اليسار)
ولا شك عندي أن من يخطفون الوطن نحو مستقبله المجهول ويسرقون أحلام الشباب وأعمارهم بالرصاص أو الانتحار أو الاعتقال ومستقبلهم المضىء، إنما يصنعون بأيديهم الإرهاب المزعوم والتطرف البغيض وينبتون في جسد الأمة دواعش الفكر والسلوك، ولا عجب في ذلك فهم لايقدرون للوطن قيمة ولا لمستقبله حساب، وهكذا العسكر في كل الأحوال والأزمان.
وبعد هذه الأحداث وغيرها تولد لديّ تخوف رهيب من انتشار الفكر الداعشي في مصر عامة وبين أبناء التيار الإسلامي – الذي كان يوصف بالوسطي – خاصة وذلك لتوافر بيئة خصبة وتربة ملائمة لنمو هذا التيار الداعشي، وتظهر بوادر هذا التخوف وملامحه في الآتي:
(1) الانقلاب العسكري المجرم على أول تجربة ديمقراطية وليدة في مصر؛ أطاح برئيس جمهورية منتخب وعصف بأحلام وطموحات جيل كامل في بناء أمة ناهضة قوية.
(2) انتشار الظلم والطغيان وسفك الدماء وانتهاك الحرمات واعتقال الشرفاء مع عدم القصاص من قتلة الثوار ومغتصبي النساء.
(3) الإحساس المنتشر بين أبناء التيار الوسطي بخيبة الأمل واليأس ممزوجًا بالمظلومية وحالة الكربلائية وارتداء ثوب الضحية المستضعفة وإجادتها على طول الخط.
(4) الدور المخابراتي الداخلي والخارجي في خنق الحالة الثورية وتأزيمها وتوجيهها نحو المشهد السوري.
(5) الدور الدولي والإقليمي في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط وترسيم حدوده وتقسيم المقسم فيه.
(6) كثرة أعداد المصريين المنضويين داخل تنظيم داعش في سوريا والعراق وأغلبهم من الشباب المتعلم المثقف والذي كان يحيا حياة طبيعية ليس بها منغصات معيشية وشوائب حياتية.
(7) المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي والراصد لحركة الثوار واتجاهاتهم يجد ترحيب كبير واستقبال شرس لأخبار داعش ونوادرهم وإظهار محاسن مواقفهم مع حاضنتهم الشعبية وترويجها وفرحهم بداعش وبما يفعلونه في الأنظمة المستبدة.
(8) استمرار سفك الدماء وقتل الأبرياء واعتقال الشرفاء وسرقة الأحلام والأمنيات والأوطان.
(9) انسداد الأفق السياسي والحلول الثورية مع غياب الرؤية وعجز القيادة وجلد الظالم وفجره.
ثم يبقى سؤالي الأخير .. لمصلحة من يتم الدفع وبقوة في اتجاه دعشنة الإخوان؟
والدفع في اتجاه دعشنة الإخوان إنما هو يخدم أعداء مصر والأمة ولا يخدم الوطن ومستقبله، فالإخوان فصيل وطني قوي ومتماسك وحضوره في نسيج المجتمع راسخ، ووجوده في المعترك السياسي لازم وضروري، وإقصائه يضر بمصر والأمة، بل يعصف بخريطة الإسلام الوسطي في المنطقة والعالم، حيث تعد جماعة الإخوان صمام أمان الأمة من الغلو والتطرف والدعشنة في عصرنا الحديث.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.