إن وصف مدينة إسطنبول حاضر في العديد من الأعمال الأدبية، من تصوّرات أورهان باموق لحي نيشان تاشي الراقي إلى كتابات جيمس بالدوين الذي غادر الولايات المتحدة واستقر في المدينة بحثا عن ملاذ من العنصرية. بالنسبة لهؤلاء المؤلفين وغيرهم، تعدّ إسطنبول “من إحدى المدن” التي تحتضن العديد من الثقافات وتعرف بحسن ضيافتها، وتضم العديد من الشعوب والهوّيات.
إن إسطنبول التي يعرفونها مدينة مليئة بالمقاهي وعيون المياه والنوادي الليلية، وتثير فيهم التأملات عند التحديق في البوسفور أو القرن الذهبي. في هذه الروايات المتجذرة بقوة في حقبة ما بعد الجمهورية العثمانية التي تصوّر إسطنبول، تلعب مساجد المدينة دورًا داعمًا وملزمًا، وتمثل بقايا ماض كان يسوده التسلّط والطغيان في أسوأ الأحوال.
يصف باموق في روايته بعنوان “إسطنبول: الذكريات والمدينة”، المصابيح “المحترقة” التي تنقل رسائل مقدسة بين مآذن المساجد والملصقات “المسودّة” التي تغطي جدرانها. وعندما قرر باموق – الحائز على جائزة نوبل – أن يرسم لوحة، اختار شارعا خلفيا في بيوغلو أو تارلاباشي أو جيهانغير، حيث يوجد “عدد قليل جدا من المساجد أو المآذن”، ليشير باموق لاحقا إلى “أنها بالفعل مدينة تسعى للتشبّه بالغرب”.
المدينة الإسلامية
عندما تقرأ كتابات باموق، من السهل أن تنسى أن المساجد كانت ذات يوم تلعب دورًا أكثر مركزية في هوية المدينة. لم تكن مساجد إسطنبول مجرد أماكن عبادة، بل كانت محاور للتفاعل الاجتماعي انجذب إليها العلماء والطلاب والتجار ورجال السياسة. لقد كانت إسطنبول ذات يوم مدينة رومانية شرقية، ثم مركز الدولة العثمانية، لتتحول إلى المدينة السلطانية والمدينة الإسلامية التي اشتهرت فيما بعد باحتوائها آلاف المساجد.
غزا الأتراك بقيادة السلطان محمد الثاني القسطنطينية واستولوا عليها من البيزنطيين في سنة 1453.
عندما غزا السلطان محمد الفاتح القسطنطينية في سنة 1453، كان يقود حملة طموحة لأسلمة المدينة وتغيير ماضيها الروماني الشرقي، خاصة من خلال تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد. فيما بعد، بات بناء أماكن العبادة المزخرفة وسيلة لترسيخ الإرث الإسلامي العثماني لتغطية ملامح المدينة التي تَعَاقَبَ عليها السلاطين. في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)، لم تكن إسطنبول مجرد مدينة إسلامية بل المدينة الإسلامية الخاصة بالعالم الإسلامي، ومدينة الخلافة العثمانية التي تضمّ 400 عام من التقاليد العثمانية.
خلال القرن التاسع عشر، كان العثمانيون يميلون بشكل متزايد إلى الاستعانة بمركز الخلافة لتعزيز سلطتهم الإسلامية في وجه التيارات القومية المتصاعدة. وفي هذا السياق، اتخذت مساجد المدينة رمزية متجددة متسامية، حيث سعت الدولة العثمانية لتأكيد سيادتها بقوة جديدة. في الماضي، كانت المساجد مثل آيا صوفيا والسلطان أحمد والفاتح والسليمانية أكثر بكثير من مجرد أماكن للعبادة والتجمع، بل كانت ترمز للحكم والقوة العثمانية.
تمثّلت أهمية هذه الإنجازات المعمارية العظيمة في حقيقة أنها أعطت اسمها للمناطق التي كانت موجودة فيها وليس العكس، كما هو الحال في المناطق الراقية مثل تشويقيّة وجيهانغير التي سميت كلاهما على اسم مساجد. ولكن في حين أن هذه المعالم الأثرية تتميّز بتاريخها الفريد وهي مناطق سياحيّة تجذب السياح والسكان المحليين على حد سواء، فإن آخر مسجد سلطاني بني في إسطنبول يعدّ غائبا إلى حد كبير عن المخيلة الجماعية. لقد كان من المفترض أن يمهد مسجد السلطان عبد الحميد الثاني، مسجد الحميدية يلدز، الطريق أمام عهد جديد للعثمانيين.
مسجد يلدز، رمز لخيال جديد
في ظلّ مواجهة الخسائر الإقليمية وتدارك تفوّق نظرائها الغربيين عليها في الثروة والتكنولوجيا إلى جانب التعامل مع الحركات القومية الصاعدة بين الرعايا غير الأتراك، سعت السلطات العثمانية في القرن التاسع عشر إلى تجديد الإمبراطورية من خلال إيديولوجية موحدة جديدة: إيديولوجية متجذرة في الإسلام تقبل الحداثة وتنوع الإمبراطورية وترسخ السلطة العثمانية بصورة مطلقة. بلغت هذه الجهود ذروتها خلال الفترة الحميدية، التي سميت على اسم عبد الحميد الثاني، حيث كانت الأفكار الحداثية متقاربة مع التقاليد الإسلامية العثمانية.
يقع مسجد يلدز على تل في حي بشكتاش في إسطنبول.
ترسّخت هذه القيم في نسيج إسطنبول العثمانية القديمة ولا شيء يرمز إلى فترة ذروتها أكثر من مسجد يلدز. مثّل هذا المسجد امتدادًا للمحاولات العثمانية لإنشاء أسلوب معماري أصلي ابتداءً من سنة 1873، يُعرف باسم أصول العمارة العثمانية، وكان متجذرا ظاهريا في التقاليد العثمانية والإسلامية الكلاسيكية، ولكنه تأثر بنفس القدر بالأساليب الفنية الاستشراقية الشعبية من أوروبا الغربية.
كان سركيس باليان من عائلة بليان الأرمنية كبير المعماريين الرسميين في الدولة العثمانية أثناء تشييد مسجد يلدز.
بُنيت مجموعة من المباني والمساجد في جميع أنحاء المدينة للاحتفاء بهذا التحول الجديد تحت إشراف عائلة باليان الأرمنية. ولا تمثّل بعض المساجد مثل مسجد أورطة كوي، ومسجد السلطانة الأم برتونهال في أكسراي، ومسجد تشويقيّة في منطقة نيشان تاشي، سوى بعض المعالم التي بنيت خلال تلك الفترة؛ ويمكن القول إن مسجد يلدز كان ذروة هذه الحركة.
العظمة والهيبة
اكتمل بناء مسجد يلدز، المعروف رسميا باسم مسجد الحميدية، في سنة 1886 واستغرقت أشغال بنائه سنتين. سُلّم أمر بناء هذه القطعة المعمارية المبتكرة إلى كبير معماريي الدولة، سركيس باليان، الذي عيّن المهندس المعماري الأرمني ديكران كلفا لمساعدته.
لا يتميّز المسجد بأسلوب واحد محدد، إذ أن التصميم الخارجي تضمّن واجهة قوطية جديدة فريدة من نوعها طغى عليها الطابع العثماني، واستخدم التصميم الداخلي أنماطا مغاربية متأثرة بالأندلس، التي أصبحت شائعة لدى النخب العثمانية المسلمة في ذلك الوقت وشوهدت في العديد من التصاميم الداخلية القديمة الأخرى. شمل ديكور المسجد الداخلي رسومًا جميلة وتوج بثريّا كبيرة أرسلها القيصر فيلهلم الثاني كهدية. كانت القبّة زرقاء لامعة من الداخل ومزينة بنجوم ذهبية ونقوش قرآنية من سورة الإخلاص رسمها أبو الضيا توفيق.
زُيّن المسجد بمجموعة من أنماط الخط التي تميّزه عن غيره من المساجد العثمانية. وعلى طول الجدار العلوي للمسجد، خُطت آيات من سورة الملك بالخط الكوفي الذي ظهر في العراق بيد الخطاط الشهير عبد اللطيف أفندي.
يتمتّع المسجد بميزة أخرى فريدة وهي المشربية الخشبية المصنوعة من خشب الأرز التي صنعها السلطان عبد الحميد بنفسه، المعروف بكونه نجارا ماهرا. لقد استُلهمت هذه العناصر من تصميم قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، بالإضافة إلى المنبر الذي صنعه أيضًا السلطان العثماني.
من نواحٍ عديدة، يمكن اعتبار المسجد مرآة عكست الطريقة التي صوّرت بها الدولة الحميدية نفسها على نطاق عالمي: أي دولة امتدت عبر ثلاث قارات (أوروبا وآسيا وأفريقيا)، ورأت نفسها دولة حديثة بصدد تغيير التقاليد، ولكن الأهم من ذلك، قوة عالمية.
تبرّع الإمبراطور الألماني القيصر فيلهلم الثاني بالثريا الموجودة في المسجد.
يرمز مسجد يلدز لرؤية السلطان عبد الحميد للدولة العثمانية العظيمة والمهيبة باعتبارها الخلافة الإمبراطورية الحديثة. في الواقع، أُقيم نصب تذكاري للمسجد الشهير في ساحة المرجة بدمشق، حيث حاولت الدولة الحميدية تعزيز فكرة الوحدة بين رعاياها العرب والمركز الإمبراطوري. لذلك، كان المقصود من مسجد يلدز، بحكم تأثيراته الفنية والمعمارية المتنوعة، أن يكون بمثابة إقرار بمبادئ الإسلام الذي يدعو للأخوة بين الشعوب المختلفة.
الأُبّهة والمراسم
منذ افتتاحه، صُنّف المسجد كمسجد سلطاني، حيث كانت فخامته تتماشى مع معالم الإمبراطورية وأهميّتها. ونادرا ما كان الشعب يُشاهد السلطان وهو يعبر السلاملك من أجل أداء صلاة الجمعة أثناء زياراته الأسبوعية إلى يلدز. ووصف كبار الشخصيات الأجنبية الذين حضروا المراسم مشهد وصول السلطان بالمُهيب، مع انتظار الحشود بحماس وترقب لتحيّي الحاكم.
صورة ملوّنة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني (الذي يجلس في المقعد الخلفي للعربة)، حيث وصل لأداء صلاة الجمعة في مسجد يلدز.
كانت هذه المناسبة تحظى بأهمية تتجاوز الاحتفال بالنظام الإمبراطوري، حيث كان لصلاة الجمعة دور مميّز في تعزيز صورة السلطان في أعين المسلمين في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى ذلك، كان إلقاء خطبة الجمعة باسم السلطان جزءًا من طقوس ترسيخ شرعية عبد الحميد الثاني والعثمانيّين خلفاء جميع المسلمين. وبينما كان السلاطين العثمانيون في الماضي يؤدّون صلاة الجمعة في آيا صوفيا أو السليمانية أو جامع السلطان أحمد، أصبحوا يؤدونها خلال الفترة الحميدية في مسجد يلدز.
في المقابل، لا تقتصر أهمية تاريخ المسجد على صلاة الجمعة الخاصة بالسلطان. فمنذ قديم الزمان، كان المبنى موقعا لأكثر الأحداث المأساوية والمشينة في عهد عبد الحميد، ألا وهي محاولة اغتيال السلطان من قبل ثوار أرمن ينتمون إلى منظمة الطاشناق في 21 تموز/ يوليو سنة 1905.
نجا عبد الحميد من محاولة الاغتيال، مقابل قتل وجرح العشرات.
خلال محاولة الاغتيال، التي شارك فيها عدد من المتآمرين، وُضعت كبسولة محملة بالمتفجرات تحت العربة التي كان يمتطيها السلطان للذهاب إلى المسجد. كان كل شيء يسير وفقا لخطة المتآمرين. في المقابل، حالت الأمور دون مقتل السلطان الذي تأخر في الخروج من المسجد بعد أن اختار قضاء بعض الوقت في التحدث إلى شيخ الإسلام، أكبر فقيه في الدولة العثمانية، بعد الصلاة، حيث تسببت هذه المحادثة في إنقاذ حياته. وتجدر الإشارة إلى أن 26 شخصا لقي حتفه بسبب التفجير وأصيب العشرات بجروح، فضلا عن الأضرار الجسيمة التي حلت على القسم الخارجي من المسجد وبرج ساعته.
نجا المسجد من الإطاحة بعبد الحميد على يد الأتراك الصغار في سنة 1909، كما بقي المسجد السلطاني الرئيسي في المدينة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أقام كل من السلطان محمد رشاد (محمد الخامس) والسلطان وحيد الدين (محمد السادس) صلاة الجمعة هناك. وأصبح المسجد يجسّد ما كان يأمل عبد الحميد أن يرمز إليه: هيكل تمسك بالتقاليد السلطانية، وكان رمزا مرئيا للدولة العثمانية. وفي فترة قصيرة، أصبح مسجد يلدز من بين أكثر المساجد شهرة في إسطنبول قبل انهيار الإمبراطورية.
الجمهورية التركية وإهمال التراث السلطاني
خلال السنوات التي أعقبت قيام الجمهورية التركية سنة 1924، شهدت إسطنبول تراجعا في ثرواتها حيث وقع نقل عاصمة دولة تركيا الجديدة إلى أنقرة. وأُهملت العديد من مساجد المدينة، بما في ذلك مسجد يلدز، لاسيما وأن حكام الدولة الجديدة سعوْا إلى إعطاء الأولوية للتحديث على طول الخطوط الغربية على حساب الماضي الإسلامي في ظل العثمانيين. علاوة على ذلك، هُدمت العديد من المعالم الأثرية العثمانية بغية إفساح المجال لمشاريع التنمية الجديدة أو بدواعي هشاشة المباني الناجم عن نقص الصيانة.
لا تزال بعض القرارات المُتّخذة خلال هذه الفترة محل خلاف بين الأتراك إلى اليوم. وتشمل هذه الخلافات تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وهو قرار وقع التراجع عنه في سنة 2020. علاوة على ذلك، هناك تقارير تفيد بأن المسؤولين كانوا يناقشون تحويل مسجد السلطان أحمد (المعروف أيضا باسم المسجد الأزرق) إلى معرض فني. بالنسبة إلى مسجد يلدز، كان العصر الجديد بمثابة فترة الانهيار، حيث خضعت الكثير من الأحياء المحيطة به للتجديد الحضري.
خط قرآني داخل مسجد يلدز مكتوب على الطراز الكوفي.
منذ سنة 1924، وُكّل المصمم الحضري الفرنسي، هنري بروست، بمهمّة المساعدة في إعادة تصميم إسطنبول. وشرع المهندس المعماري، الذي عمل سابقا مع الفرنسيين في الجزائر، في حملة طموحة ومثيرة للجدل لإعادة التطوير. وتقرّر إنشاء طرق وشوارع كبيرة وإفساح المجال لإزالة المنازل والمساجد العثمانية. ووقع تغيير منطقة بشكتاش حيث يقع مسجد يلدز، بشكل كبير، وأصبح المسجد فعليّا منعزلا على قمة التل.
لم تُدرك حكومة عدنان مندريس أن إسطنبول بحاجة للاستثمار إثر الإهمال الذي حل بمعالمها الأثرية إلا خلال فترة حكم الحزبين بعد الحرب العالمية الثانية. من جانبه، حاول مندريس خلال السنوات التي قضاها في السلطة تهدئة مشاعر المسلمين من خلال السماح مرة أخرى بتلاوة الآذان باللغة العربية، التي كانت محظورة حتى ذلك الحين. فضلا عن ذلك، جدّد زعيم الحزب الديمقراطي العديد من المساجد، وشيّد أول مسجد في إسطنبول بعد يلدز، في شيشلي سنة 1949، أي بعد مرور 63 سنة. عموما، شُيّد هذا المسجد الجديد وفقا لتقليد الطراز العثماني في القرنين السادس عشر والسابع عشر، متجاوزا اتجاه “أصول المعمار العثماني” الذي وقع تأسيسه في سنة 1870.
على الرغم من تدمير التراث العثماني لتركيا والدافع الأيديولوجي الأقل وضوحا من أسلافه، إلا أن سياسات التحول الحضري استمرت في عهد مندريس في إنكار قيمة المساجد على غرار مسجد يلدز. كان التطور هو شعار العصر، واستمرت مشاريع التنمية على غرار التحديث الغربي بالتزامن مع مرور مدينة إسطنبول بتحول كبير.
في الواقع، لم يتغير الوضع سوى مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت التحركات لترميم العديد من مساجد إسطنبول من أولويات الدولة. مع ذلك، حتى خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، كانت هناك توترات مستمرة بين الدافع لتطوير الأحياء والحفاظ على المعالم التاريخية. وفي نظر دعاة الحفاظ على البيئة، لا يزال شبح التنمية الحضرية الذي وضعه بروست يشوّه شكل المدينة التي كانت ذات يوم إمبراطورية.
في سنة 2017، أي بعد أربع سنوات من التجديد، وقع افتتاح مسجد يلدز للعامّة في حلّته الجديدة. ومنذ ذلك الحين، بُنيت العديد من المساجد الأخرى في جميع أنحاء المدينة، على الرغم من عدم وجود شيء يضاهي مكانة وفخامة مسجد يلدز. وما كان من المأمول أن يبشر بعصر جديد للثقافة العثمانية، تحوّل إلى شذوذ معماري تاريخي. وحُذفت ملامح المسجد الحميدي من المخيلة الجماعية للمصلين اليوم. ويبقى لتاريخ الدولة طريقة فريدة لتسيير ما ينبغي تذكّره ونسيانه، حيث تُعدّ ذكرى مسجد يلدز خير دليل على ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي