لطالما كانت المساجد علامة فارقة في هوية المدائن وشعلة في وجدان الشعوب، ورمزًا حضاريًا يفرض نفسه على البلد بعمرانه وصوته تكبيراته، ألا تُعرف مكة بمسجدها الحرام؟ والقدس بالأقصى ودمشق بالأموي وتونس بالزيتونة؟
وربما نتيجة هذا المكانة العالية، باتت فرنسا تتباهى كل حين بإغلاق المساجد، في حملات مستعرة تتجدد كل عام، وإن حملت هذه السنة دعوى محاربة “الانفصالية الإسلامية”، على أن الدعوات لإغلاق المساجد في أوروبا عمومًا تتزايد باضطراد مع سيادة خطاب اليمين المتطرف الذي يعتاش على الخطاب الشعبوي والعنصري والتخويف من هوية المهاجرين الفارين من الاضطهاد في بلدانهم.
وتبرز في أوروبا، التي تصل أعداد المسلمين فيها إلى 26 مليون نسمة، وهي في ازدياد مع موجات الهجرة أو بدون، الضرورة الملحة لعمارة المساجد لتلبية احتياجات السكان المسلمين (5% من السكان) الروحية والاجتماعية والثقافية، على أن تلك الحاجة تصطدم بحائط العنصرية وسط تمترس الأوروبيين خلف هوية بلادهم الغربية، ما يضطر المسلمين للصلاة في الأقبية أو الكنائس أو حتى أماكن اللهو التي يصعب تصوّر الصلاة فيها.
على أنه وخلال قرون، أمكن للمسلمين في أوروبا تشييد مساجد بقيت علامة عمرانية وحضارية وروحية بارزة في مدن أوروبية عديدة، نلقي عليها الضوء في هذا التقرير، ونحكي قصتها.
ونشير إلى أننا في “نون بوست” سبق وأن أعددنا تقارير عن أبرز المساجد في المغرب العربي، كما تحدثنا أيضًا عن أكبر المساجد وأجملها في القارة الإفريقية السمراء.
آلاف المساجد في أوروبا
تتوزع مساجد المسلمين على أغلب الدول الأوروبية، ففي ألمانيا مثلًا يوجد قرابة 3 آلاف دار عبادة بأشكال مختلفة لكن القليل منها يمكن تصنيفه كمسجد بالمفهوم التقليدي، ونحو 900 يمكن التعرف عليها من خلال أسلوبها المعماري، فهي أشبه بتحف معمارية تلفت الأنظار، ويتراوح عدد المسلمين هناك بين 4.4 و4.7 مليون مسلم.
في فرنسا أحصت السلطات أكثر من 2200 مسجد أو مصلى معترف بها في سنة 2016، تضاف إليها المساجد غير الرسمية أو نقاط التجمع للصلاة في الشارع (أغلبها دون مآذن)، بعد أن كان العدد لا يتجاوز 100 مسجد سنة 1970، وتتراوح التقديرات بشأن عدد المسلمين في فرنسا بين 4 و5 ملايين.
في بلاد الضباب بريطانيا، يوجد أكثر من 1500 مسجد، يعود أقدمها إلى أوائل القرن التاسع عشر، ويبلغ عدد المسلمين في بريطانيا أكثر من 2.7 مليون مسلم، وتشكل نسبتهم من مجموع السكان 5%، ويتمركزون في عدة مناطق ومدن بريطانية كليستر وليدز ومدينة أولدهام وبرمنغهام ولندن.
في إسبانيا بلغ عدد المساجد قرابة 1200 مسجد، عدد قليل منها يوجد فيه مآذن أما الأغلبية فهي قاعات صلاة، وتقدر العديد من الإحصاءات عدد المسلمين هناك بنحو 1.6 مليون منهم 1.1 مليون مهاجرين و513942 أصول إسبانية.
بُني مسجد كولونيا في 2017، ودشنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
أما في إيطاليا فمن بين أكثر من 700 مكان عبادة للمسلمين، فإن عدد المساجد الرسمية لا يتعدى ستة فقط، حيث يؤدي معظم المسلمين صلاة الجماعة في أماكن مؤقتة، وتقدر الإحصاءات الرسمية عدد المسلمين هناك بمليون و613 ألفًا، يحمل 150 ألفًا منهم فقط الجنسية الإيطالية، ويتمتع الباقون بإقامات قانونية.
فضلًا عن ذلك تضم النمسا 205 مساجد مسجلة، إلى جانب المئات من المساجد غير المسجلة، ويُعتبر الإسلام في النمسا دين أكبر أقلية وثاني أكثر الأديان انتشارًا في البلاد، يؤمن به نحو 8% من إجمالي تعداد السكان، وذلك وفقًا للأكاديمية النمساوية للعلوم في 2016.
إلى جانب ذلك توجد مئات المساجد الأخرى في العديد من الدول الأوروبية، فتنفق الدول الإسلامية أموالًا طائلةً لبناء المساجد، على غرار المملكة العربية السعودية وتركيا والمغرب وقطر والجزائر إلى جانب تبرعات المسلمين.
وفي الدنمارك، يوجد نحو 1000 مكان للعبادة للمسلمين وإن كان كثير منها لا يعدو أن يكون غرفًا ومرافق مؤقتة، ويبلغ عدد المسلمين هناك نحو 4% من إجمالي السكان البالغ عددهم 5.5 مليون نسمة، وينتمي غالبية المسلمين لأصول من تركيا والمغرب العربي وكذا من جنوب آسيا.
مسجد كولونيا المركزي
يقع في كولونيا أكبر مدن مقاطعة شمال الراين وستفاليا بجنوب ألمانيا، حيث يقيم نحو 500 ألف مواطن من أصول تركية منذ فترة طويلة، انتهى بناء هذا المسجد الضخم الذي موله “الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية” المقرب من السلطات التركية في 2017، ودشنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
بدأ بناء المسجد الذي يتسع لآلاف المصلين سنة 2009، وبلغت تكلفة البناء نحو 30 مليون يورو، في حين أن تقديراتها عند الشروع في البناء كانت 15 مليون يورو. يحتوي الهيكل المعماري للمسجد على قاعة صلاة مفتوحة، ثم باحة ضخمة، علاوة على قبة مفتوحة إلى الأعلى تبدو كبرعم زهرة على طرفيها تقف أبراج مئذنتين رشيقتين شامختين في السماء بارتفاع 55 مترًا للواحدة.
تعود قصة المسجد إلى سنة 1984، حين قررت مئتا جمعية إسلامية بناء جامع في مكان يُستخدم مستودع لمصنع في المنطقة، بمرور الوقت، ضاقت مساحة الجامع القديم على مسلمي المدينة، الذين تتزايد أعدادهم بشكل كبير، خاصة لدى إقامة الفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية.
في عام 2001، تقدم الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية بطلب إلى بلدية كولونيا الكبرى لإنشاء جامع جديد مكان القديم، لكن كان عليه الانتظار حتى العام المقبل لتلقي موافقة تشترط تنظيم مسابقة لتصميم المشروع.
سنة 2005، نُظمت مسابقة دولية لتقديم مخطط يتناسب مع المظهر المعماري للمدينة والتراث الإسلامي في الوقت ذاته، ويسهم في إكساب المدينة ثراءً معماريًا، شارك فيها 111 معماريًا، وفاز بها المعماري الألماني باول بوهم، وجرت المصادقة على بنائه عام 2008.
مسجد مدريد الكبير
يسمى أيضًا بمسجد أبو بكر الصديق، يقع في العاصمة الاسبانية، وهو واحد من أكبر المساجد في أوروبا، إذ بُني على مساحة 12000متر مربع، يتكون المسجد من 4 طوابق مع مئذنة وقبة، ويضطلع بإقامة الصلوات والأعمال الخيرية والتعليمية والثقافية والاجتماعية، وقد وقّعت إدارة المسجد اتفاقية مع جامعة الأزهر لتدريب وتوفير الأئمة.
واجهة المسجد مغطاة بمادة المرمر الأبيض والبناء الداخلي مستوحى من قصر الحمراء في غرناطة، صممه المهندس المعماري الإسباني خوان مورا، وافتتح سنة 1988، وكان بذلك أول مسجد في العاصمة الإسبانية منذ غزاها القشتاليون بقيادة ألفونسو السادس سنة 1085.
شارك في تمويل بنائه 18 دولة إسلامية، فقد وقعوا سنة 1976 اتفاقية من أجل تشييد مسجد في مدريد، إلا أن المساهمة الأكبر كانت للسعودية، إذ ساهم العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز بمبلغ قدره 12 مليون يورو ما سرع إنجازه.
تتسع قاعة صلاة الرجال لـ500 شخص، وتوجد قاعة أخرى أصغر للنساء (في الطابق العلوي)، ويمكن أن يتضاعف عدد المصلين في الأعياد وصلاة الجمعة، وتتميز غرفة الصلاة الكبيرة بقبتها التي يتدلى منها مصباح ضخم من البرونز، ونوافذها التي تضيء الصحن المركزي.
مسجد باريس الكبير
يقع مسجد باريس الكبير في قلب العاصمة الفرنسية، تحديدًا في الدائرة الخامسة التي توجد فيها مؤسسات علمية وسياسية مثل جامعة السوربون ومعهد العالم العربي ومجلس الشيوخ الغرفة الثانية للبرلمان الفرنسي.
يعد من أقدم وأكبر المساجد بفرنسا، إذ أسس على مساحة 7500 متر مربع. أنشئ تخليدًا للجنود المسلمين الذين دافعوا عن فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، وأسهموا في تحريرها من النازية وقتل منهم 100 ألف في هذه المعارك.
فتح المسجد أبوابه للمصلين في 15 من يوليو/تموز 1926، بحضور السلطان المغربي مولاي يوسف بن الحسن الأول، ومدير المسجد الجزائري قدور بن غبريط، والرئيس الفرنسي آنذاك دومارغ، وقد كان العالم أحمد بن الحاج العياشي سكيرج، وهو أحد أقطاب الطريقة الصوفية التيجانية بالمغرب، أول من خطب وصلى بالناس في أول جمعة في هذا المسجد.
هندسة المسجد تمت على النمط المغربي، فيحتوي على باحة تتوسطها النوافير مستحضرة جوامع الأندلس وقصورها وحدائقها من ناحية الزخارف والنقوش التي تغطي جدران المسجد ومن ناحية الألوان أيضًا التي يطغى عليها الأزرق الفيروزي، أما المئذنة التي ترتفع إلى 33 مترًا فمستوحاة من مسجد الزيتونة في تونس على الطراز الموحدي.
تعود فكرة إنشاء المسجد إلى سنة 1842، لكن الفكرة تبلورت أكثر بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تحمس لها مفكرون وسياسيون فرنسيون، وفي يوليو/تموز 1920 صادق البرلمان الفرنسي على مشروع بناء المسجد بأغلبية ساحقة ورصدت ميزانية 500 ألف فرنك للبناء، كما تبرعت بلدية باريس بالمكان.
مسجد ريجنت بارك
يُعرف أيضًا باسم مسجد لندن المركزي، يتسع لـ5000 مصلٍ، وبه مصلى خاص للسيدات يطل على شرفة القاعة الرئيسية في المسجد، صممه المهندس الإنجليزي السير فريدريك جيبيرد بعد أن فاز بمسابقة دولية مفتوحة لتصميم المبنى بشكل يعكس التراث الإسلامي.
تعلو المسجد قبة ذهبية بارزة مزخرفة من الداخل بأشكال هندسية جميلة، ويرتفع فوق القبة الهلال الإسلامي شامخًا على عمود من النحاس فيه 3 كرات نحاسية متتابعة، وأما سقف القبة من الداخل فقد زُيّن بالفسيفساء التركي، كما عهد بأعمال الزخرفة على الجدران والأخشاب إلى متخصصين من المغرب والجزائر وتونس.
رُصفت أرضية المسجد بالرخام الأبيض ويزداد المنظر جمالًا عندما تقف في وسط الصحن لتشاهد قاعة الصلاة حيث تفصل بينهما أروقة تحاكي بجمالها المساجد القديمة، وعندما تدخل إلى قاعة الصلاة تسحر نظرك المنارة بثريات ضخمة، كما زُينت نوافذه بسواتر خشبية محفورة بزخارف إسلامية نفيسة.
بدأت أعمال بناء المسجد مطلع عام 1974، واكتمل العمل في شهر يوليو/تموز 1977، لكن جهود البناء كانت قبل ذلك بكثير وتعود إلى بداية القرن العشرين، فقد وُضعت خطط لبناء مسجد في لندن لكن المحاولات فشلت في أكثر من مرة لأسباب متعددة.
مسجد روما الكبير
يقع في الجزء الشمالي من مدينة روما، في منطقة البريولي، تزيد مساحته على 30.000 متر مربع، ويمكن أن يستوعب آلاف المصلين، تطلب البناء مدة تزيد على عقدين من الزمن، إذ منحت الأرض من بلدية مدينة روما بطلب من العاهل السعودي الملك فيصل عام 1974، إلا أن حجر الأساس وضع في وقت لاحق عام 1984، وكان الافتتاح الرسمي في 21 من يونيو/حزيران 1995.
يتكون المسجد من قاعة صلاة مستطيلة الشكل تضم باتجاه متعامد مع القبلة طابقين عرضهما يساوي عرض القاعة المغطاة بقبة مركزية ضخمة محاطة بـ16 قبة صغيرة، يدخل الضوء الطبيعي للقاعة من سلسلة الفتحات الموجودة في القبة المركزية.
كما يوجد شلال مائي صغير يمتد على طول ضلع مبنى الخدمات ويصل هذا الشلال بين بركتين إحداهما في الجهة الشمالية والأخرى في محور المركز، وهناك نافورة ماء مركزية محاطة بـ16 نافورة صغيرة، رتبت كلها لتعكس ترتيب القباب التي تغطي سقف قاعة الصلاة.
تم مراعاة استخدام أساليب الفن التقليدي المغاربي في التصميم الداخلي للمسجد، حيث تغطي الجزء السفلي للأعمدة وجدران قاعة الصلاة والمحراب، مجموعة من الكتابات الملونة المحفورة في قوالب من الجص وفي أعلاها سلسلة من الأشكال الهندسية المنتظمة.
مسجد فيينا
يعتبر أكبر مساجد النمسا وأجملها، إذ صُمم على طريقة العمارة الإسلامية القديمة، ويتميز بتصميمه الداخلي الأنيق ومنارته التي يصل ارتفاعها لـ32 مترًا، بينما ترتفع القبة 16 مترًا ويصل عرض محيطها إلى 20 مترًا.
سنة 1969 اشترى المجتمع الإسلامي في فيينا قطعة أرض من المدينة لبناء مسجد، لكن موعد البناء شهد عدة تأجيلات بسبب الصعوبات المالية، وقد افتتح المسجد عام 1978 بحضور رئيس جمهورية النمسا آنذاك رودولف كيرخشليغر.
مسجد خير البرية في الدنمارك
افتتح هذا المسجد في يونيو/حزيران 2014 بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن ليكون بذلك أول مسجد بمئذنة في البلاد، وشُيد ضمن مركز ثقافي إسلامي يحمل اسم ممول إنشائه وهو أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
تقف مئذنة المسجد الجديد في كوبنهاجن عالية في سماء حي “نوريبرو” بقلب المدينة، وإن كانت لن تشهد أذانًا يُرفع منها، فالأذان ممنوع في الدنمارك على غرار أغلب دول أوروبا، ويعتبر هذا المسجد الأكبر في منطقة الدول الإسكندنافية، كما يعد أيضًا المسجد الأول في الدنمارك الذي يبنى بشكل رسمي لاستقبال المصلين من الأقلية المسلمة في البلاد.