على جانبي ميداني رمسيس والعتبة بوسط القاهرة أو مصطفى محمود والاستقامة بالجيزة يفترش المئات من أصحاب البشرة الإفريقية السمراء الطريق، يبيعون المنتجات الطبية والغذائية بجانب بعض المصنوعات الجلدية، يتحدثون العربية بصعوبة، لكن لغة الجسد تشير إلى أنهم يفهمون اللهجة المصرية بطلاقة.
تتنوع جنسياتهم بين النيجيرية والتشادية والصومالية، هذا بجانب جنسيات أخرى من غرب وشرق القارة، تجمع بينهم صفات عديدة، أبرزها البساطة والهدوء والابتسامة، يجلسون القرفصاء في انتظار زبائنهم الذين في الغالب ينبهرون بطريقة العرض الجيدة التي يقدمها الباعة لبضاعتهم.
وتعد مصر قبلة أساسية للمهاجرين الأفارقة لا سيما الفارين من ويلات الحروب والأنظمة الفاشية في بلادهم، فالتمايز الثقافي والمجتمعي واتساع أطرافها، بجانب عدد سكانها الكبير، ومستوياتها المعيشية الرخيصة نسبيًا مقارنة بدول أوروبا على سبيل المثال، كلها مقومات تجعل القاهرة هدفًا أساسيًا للاجئين.
3 طرق لدخول مصر
تتنوع مصادر وطرق دخول الأفارقة إلى مصر تبعًا للدوافع من وراء المجيء لشمال القارة ومدة الإقامة المتوقعة، بجانب الوجهة المستقبلية حال كانت القاهرة ترانزيت للبعض من أجل الهجرة لمكان آخر، في الغالب أوروبا، وهو ما يجعل عملية حصر عدد الجاليات الإفريقية أمرًا مرهقًا للدولة.
الطريقة الأولى: اللجوء، بشقيه السياسي والاجتماعي، فالحروب الأهلية التي تشهدها الكثير من دول القارة كانت السبب الأبرز في هروب شريحة كبيرة من مواطني تلك الدول، خاصة إن كانت تلك الحروب طويلة الأمد كما هو الحال في الصومال مثلًا والحرب الدائرة هناك بين الحكومة والحركات المسلحة وعلى رأسها “منظمة الشباب”.
هذا بخلاف ديكتاتورية أنظمة الحكم وتسلطها التي قد تكون عامل طرد قوي للشعوب، وهو الوضع في مالي وتشاد وغيرها من الدول، علاوة على الاستهداف العنصري من بعض القبائل الحاكمة لبقية الطوائف والتيارات، كالتغراي في إثيوبيا التي تمارس سطوتها ضد الأقليات الأخرى ما دفع أبناء الأخيرة للهروب.
بعض القوانين غير الإنسانية تعد عامل طرد قوي لمواطني الدول، كالوضع في إريتريا مثلًا، فبجانب القبضة الأمنية المحكمة والصراعات الأهلية والحروب المسلحة الممتدة، هناك قانون التجنيد الإجباري غير محدد المدة، الذي يلزم الشاب بالالتحاق بالخدمة العسكرية دون تحديد مدة ذلك ولا موعد الخروج، وهو ما مثل قلقًا وخوفًا كبيرًا لدى الشعب الذي اضطر – شريحة كبيرة منه – بسبب هذا القانون لمغادرة البلاد.
الطريقة الثانية: البعثات الدراسية وغالبها تكون إسلامية إلى الأزهر الشريف، إذ تحتل جامعة الأزهر مكانةً كبيرةً في نفوس شعوب القارة الإفريقية، كونها رمانة ميزان العلوم الشرعية، هذا بجانب النشاط الملحوظ للأزهر في إفريقيا، حيث افتتاح مئات المساجد وآلاف القوافل الدعوية والدينية والخيرية.
الطريقة الثالثة: الهجرة غير الشرعية.. وتنقسم إلى قسمين: الأول: الهرب من الأنظمة السياسية بطرق غير شرعية، إما لملاحقات قضائية وإما سياسية وإما مجتمعية، وهنا لا يكون الخروج بالطرق الرسمية أمرًا مباحًا، ما يضطر المواطن إلى البحث عن طرق أخرى لمغادرة البلاد.
أما القسم الثاني فيتمثل فيمن يهدفون الهجرة إلى أوروبا، ويختارون مصر محطة مؤقتة “ترانزيت” للعبور عن طريق البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا أو إلى “إسرائيل”، ورغم تعريض حياتهم للخطر (القبض عليهم أو موتهم في البحر غرقًا) في ظل هذه الطريقة، فإن شريحة كبيرة من الأفارقة يأتون إلى مصر لهذا الغرض.
تفضيل البطاقات الصفراء
لا يوجد حصر رسمي دقيق لعدد اللاجئين الأفارقة في مصر، رغم تجاوز عددهم الـ5 ملايين وفق ما ذهب إليه مسؤولون مصريون في تصريحات سابقة لهم، فيما تفتقد الأرقام المسجلة لدى مفوضية اللاجئين التابعين للأمم المتحدة للموضوعية نظرًا لأن أغلب الأفارقة المقيمين في مصر غير مسجلين بها.
معظم اللاجئين الأفارقة يحملون ما يسمى “البطاقة الصفراء” وهي عبارة عن وثيقة تمنحها المفوضية، تثبت أن هذا الشخص ملتمس للجوء لكنه غير مسجل بعد، ومن المفترض أن يتم قبوله بعد استيفاء عدة شروط وبعد مرور فترة زمنية محددة، ليحصل على “البطاقة الخضراء”، وعليه يلاحظ أن عدد المسجلين فعليًا أقل بكثير من الأعداد الفعلية.
وتميل المفوضية إلى “البطاقات الصفراء” وتتلكأ كثيرًا في منح ذات اللون الأخضر حتى إن أكملوا الأوراق واستوفوا الشروط المطلوبة، فهذه الطريقة تساعد على تهرب المفوضية من مسؤولياتها تجاه اللاجئين خاصة أن التسجيل الرسمي يعطي اللاجئين الحق في العلاج الطبي والتعليم المُدعم، بجانب توفير الحماية للاجئين حال تعرضهم لتهديدات، وهي أمور مكلفة وتكبدها الكثير من المال.
وفي الجانب الآخر فإن كثيرًا من اللاجئين يُبقون على البطاقة الصفراء دون رغبة ملحة في إنهاء الشروط المطلوبة من أجل الحصول على البطاقة الرسمية لهم كلاجئين، لأن هذا يعني أنهم لا يستطيعون الخروج من مصر ولا يقدرون على السفر لأي بلد آخر إلا للعودة لبلادهم مرة أخرى (شروط المفوضية لمنح البطاقة الخضراء) وهو ما لا يريده بعضهم، إن لم يكن أكثرهم، إذ إن البلد العربي ربما يكون بوابة أو محطة لا أكثر لبلاد أخرى مستقبلية، وعليه لا يريدون تقييد أنفسهم بالبقاء فيه طويلًا.
أوضاع اقتصادية صعبة
يحيا السواد الأعظم من الأفارقة الموجودين في مصر حياة اقتصادية صعبة، إذ يعمل أكثرهم في مجال البيع والتجارة على الأرصفة وفي الميادين العامة والمحال التجارية، هذا بجانب آخرين يعملون في المطاعم ومخازن المتاجر الكبيرة، هذا في الوقت الذي تظل فيه شريحة كبيرة منهم دون عمل.
“عمر”.. شاب نيجيري يبلغ من العمر 37 عامًا، يعمل بائعًا للمنتجات الجلدية في منطقة العتبة بوسط القاهرة، ومقيم في إحدى الغرف بالدراسة، في مكان قريب من عمله نسبيًا، يقول إنه جاء إلى مصر منذ 2010 فارًا من استهداف بعض القبائل له ولعائلته في نيجيريا، واستقر بداية الأمر مع بعض مواطني بلده في الجيزة ثم انتقل إلى مكانه الحاليّ.
تزوج الشاب النيجيري من فتاة تحمل الجنسية السودانية وأنجب منها ولدين وبنت، لكن الأجر الذي يحصل عليه من عمله ما عاد يكفي قوت يومه، فحصيلته اليومية من بيع الشنط والأحزمة الجلدية لا يتعدى 50 جنيهًا صافيًا (الربح) وهو رقم ضعيف جدًا أمام متطلبات الحياة اليومية على حد قوله.
الوضع المعيشي لعمر دفعه لقبول عمل زوجته في أحد مراكز التجميل، لتحصل هي الأخرى على راتب شهري 2500 جنيه، لكن في مقابل ذلك يبقى أولاده دون رعاية، كما أنه من الصعب الدفع بهم في دور الحضانة المصرية لأسباب مجتمعية ومادية معًا.
ويؤكد الشاب النيجيري أن نسبة كبيرة من الأفارقة لا يجدون عملًا، وأن الوضع تأزم كثيرًا بعد انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ما دفع بعضهم للزج بزوجاته وبناته للعمل خادمات في المنازل، من أجل الإنفاق على الأسرة، ورغم أن المقابل المادي زهيد خاصة إن لم تكن الفتاة تحمل أوراقًا ثبوتيةً رسميةً (ومعظمهن كذلك)، لم يكن أمامهم طريق آخر.
كما ألمح إلى دور أهل الخير وأعمال البر المجتمعية في عبورهم لوضعيتهم المعيشية الصعبة والتكيف معها، فتتكفل بعض الجمعيات الخيرية وميسوري الحال بالإنفاق على كثير منهم، سواء كان ذلك عبر نفقات شهرية ترسل لهم أم شنط غذائية بها كل ما يتطلبه المنزل طيلة الشهر.
“ليس هناك فرق بين مسلم وغير مسلم، الغالبية العظمى من اللاجئين الأفارقة في مصر ليسوا بمسلمين، ومع ذلك فإن أهل الخير لا يفرقون بينهم في المنح والمعونات، بل إنهم لا يُسألوا عن ديانتهم، رغم قلقهم بداية الأمر من هذه الجزئية، وهو أمر سهّل كثيرًا الحياة الصعبة على اللاجئين”، هكذا أنهى الشاب النيجيري حديثه.
تحديات أمنية ومجتمعية
“المشكلة الكبرى التي تواجه الجالية الإفريقية في مصر هي الملاحقات الأمنية بين الحين والآخر، فالشخص ذو البشرة السوداء في الغالب على قوائم الاستهداف والاتهام لحين إثبات براءته”، بهذه الكلمات عبر “حرسي” الشاب الصومالي الذي يدرس بالأزهر عن التحديات التي تواجه أبناء القارة في مصر.
وأضاف أن التشديد الأمني في كثير من الأحيان ربما يكون مقبولًا لا سيما أوقات الأزمات والأعمال الإرهابية، هذا إن وضعنا في الاعتبار أن الغالبية العظمى من أبناء القارة في مصر دون أوراق ثبوتية صحيحة، وهو ما يجعلهم أرضية خصبة لأعمال العنف والجريمة.
لكن في الجهة المقابلة، ليس كل الأفارقة مجرمين أو متهمين، فكثير منهم يتلقون العلم وآخرون يعملون في مهن شريفة، فيما يقبع النوع الثالث مستكينًا هربًا من أنظمة وحشية مجرمة، ومن ثم فإن الربط بين أصحاب البشرة السوداء والجريمة ربط غير موضوعي، كمن يربط بين الإسلام والإرهاب، على حد قول الشاب الصومالي.
واختتم “حرسي” حديثه بتثمين المواقف الرسمية مع الجاليات الإفريقية على مدار أكثر من 3 عقود كاملة، كانت الحكومة المصرية أكبر محتضن للاجئين والوافدين الأفارقة، رغم التوتر أحيانًا في العلاقات المصرية الإفريقية الذي كان ينعكس في بعض الأحيان على الجاليات، لكن هذا لم يدفع القاهرة للتخلي عن ثوابتها في احتواء أبناء إفريقيا ومعاملتهم معاملة جيدة، هذا بخلاف الشعب المصري المحب لكل شعوب العالم، الذي يكن كل احترام وتقدير لمختلف الجنسيات والديانات الأخرى.