استبشر اللبنانيون خيرًا عندما اكتشفوا أن سواحلهم ومياههم الإقليمية في البحر الأبيض المتوسط تختزن كميات هائلة من النفط والغاز، ووجدوا في ذلك فرصة جدية وحقيقية قد تشكل بالنسبة لهم بداية الخروج من الأزمة الاقتصادية التي كانت وما زالت تعصف ببلدهم، غير أنه “يا فرحة ما تمت”.
فقبل شروع الدولة في التنقيب عن النفط والغاز، وقبل إلزام شركات أجنبية بهذه المهمة، لأنه لا يوجد شركة وطنية يمكن أن تؤدي هذه الوظيفة، وفي ظل انقسام سياسي داخلي حاد على أغلب العناوين الداخلية والخارجية المطروحة أو الساخنة، اصطدمت الآمال اللبنانية بجشع إسرائيلي لقضم جزء من الحقوق المائية والنفطية من ناحية حدود لبنان مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يعرف بـ”البلوك رقم 9″، وبطمع من نظام الرئيس بشار الأسد بالاستيلاء على جزء من تلك الحقوق لناحية حدود لبنان البحرية مع سوريا في شمال لبنان وهو ما يُعرف بـ”البلوك رقم 1″، وهذا ما آخر ويؤخر إلى الآن، إضافة إلى مشكلات أخرى، عملية التلزيم والتنقيب والاستخراج.
مشكلة الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة
تعود جذور مشكلة الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة أو ما يُعرف بـ”البلوك النفطي رقم 9″ الغني بالنفط والغاز وفقًا للدراسات التي أُعدت للمنطقة البحرية المحاذية للبنان وفلسطين المحتلة إلى العام 2002 عندما كلفت الحكومة اللبنانية آنذاك مركز ساوثمسون لعلوم المحيطات بالتعاون مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني، بإعداد دراسة لترسيم حدود مياه لبنان الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وذلك بغية إجراء عملية مسح جيولوجي للتنقيب عن النفط والغاز في هذه المنطقة، وقد واجه المركز في حينه عدة صعوبات بسبب عدم توافر خرائط بحرية دقيقة وواضحة لمنطقة جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، وبذلك كان الترسيم غير دقيق.
وفي عام 2006 عادت الحكومة اللبنانية وكلفت المكتب الهيدروغرافي البريطاني بإجراء دراسة جديدة لترسيم الحدود البحرية للدولة اللبنانية، وكانت هذه الدراسة عبارة عن تحديث لتلك التي سبقتها.
وفي يناير/كانون الثاني 2007، وقع لبنان مع قبرص اتفاقية لتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، وبذلك تم تحديد المنطقة الخالصة بين لبنان وقبرص على أساس خط الوسط.
لكن الدولة اللبنانية، وفق موقع الجيش اللبناني، لم تبرم الاتفاقية مع قبرص التي وقعت اتفاقية أخرى مع “إسرائيل” عام 2011 لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، متجاهلة ما تم الاتفاق عليه مع لبنان، ما أدى إلى خسارة بيروت مساحة مائية تزيد على 860 كيلومترًا مربعًا من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية التي تضم كميات كبيرة من النفط والغاز.
كانت هذه هي الخسارة الأولى والشرارة الأولى كذلك لمشكلة بحرية ما زالت تتفاقم إلى اليوم، وسببها الرئيسي نقطة الانطلاق من البر، وقد دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الوساطة بين لبنان وحكومة الاحتلال الإسرائيلي لحل الخلاف البحري اعتبارًا من العام 2012 عندما أرسل موفدها فريدريك هوف مقترحًا يقضي بتقاسم المنطقة المتنازع عليها، برسم خط عرف في حينه بخط “هوف”، يعطي لبنان نحو 500 كيلومتر مربع و”إسرائيل” نحو 360 كيلومترًا مربعًا من أصل كامل مساحة الـ860 كيلومترًا مربعًا المختلف عليها، ورفض لبنان في حينه هذا الاقتراح على اعتبار أن المساحة الكاملة (360 كيلومترًا) من حقه.
ثم وبعد وساطات أمريكية متعددة تولاها دبلوماسيون أمريكيون وتضمنت لقاءات مع مسؤولين لبنانيين أبرزهم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، تم الإعلان في 1 من أكتوبر/تشرين الأول 2020 عن التوصل إلى اتفاق إطار بين لبنان وحكومة الاحتلال الإسرائيلي بخصوص المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية، وقد عُقدت عدة جولات غير مباشرة في بلدة الناقورة الحدودية بين الجانبين غير أنها لم تتوصل إلى أي حل لمشكلة البلوك رقم 9.
عدم التوصل إلى اتفاق دفع لبنان إلى إعادة النظر بحدود المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة له، وأعلن وزير الأشغال العامة في حكومة تصريف الأعمال في مطلع أبريل/نيسان الحاليّ عن توسيع حدود هذه المنطقة، وقد وقع على هذا المرسوم كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزراء مختصون، غير أن رئيس الجمهورية ميشال عون رفض التوقيع وربط الموضوع بقرار يصدر عن مجلس الوزراء مجتمعًا.
وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية إلى إرسال مساعد وزير الخارجية ديفيد هيل إلى بيروت لمتابعة مسألة ترسيم الحدود وإعادة المفاوضات بين الجانبين، وقد التقى هيل المسؤولين اللبنانيين وأبدى استعداد واشنطن إعادة تفعيل المفاوضات بعدما سمع من رئيس الجمهورية مطلبًا يقضي بالعودة إلى خبراء دوليين لتحديد المناطق المتنازع عليها.
تجدر الإشارة إلى أن الحكومة اللبنانية تسعى لتقديم شكوى أمام المحاكم الدولية المختصة، لمنع شركة النفط اليونانية “إنرجيان” العاملة في حقل “كاريش” الإسرائيلي من استكمال عملها، خاصة أن جزءًا كبيرًا من حقل كاريش يقع ضمن الحدود البحرية اللبنانية بحسب المرسوم اللبناني المعدل.
وفي مقابل ذلك قال وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتز، الذي يقود المفاوضات مع لبنان بشأن ترسيم الحدود البحرية: “يبدو أن لبنان يفضل نسف المحادثات بدلًا من محاولة التوصل إلى حلول متفق عليها”، مشيرًا إلى أن خطوات لبنانية أحادية الجانب ستقابل بخطوات إسرائيلية موازية دون أن يكشف طبيعة تلك الخطوات.
مشكلة الحدود البحرية مع سوريا
أما فيما يتعلق بالحدود البحرية الشمالية للبنان مع سوريا فقد عادت إلى الواجهة إثر إعلان الحكومة السورية في 9 من مارس/آذار الماضي، توقيع عقد مع شركة “كابيتال” الروسية للمسح والتنقيب عن النفط، وتبين أن الحدود البحرية التي رسمها الجانب السوري، بخاصة في البلوك رقم 1، متداخلة بشكل كبير مع البلوك رقم 1 و2 من الجانب اللبناني.
تعود جذور الخلاف بين لبنان وسوريا بخصوص ترسيم الحدود البحرية إلى العام 2011 عندما أقدم لبنان على ترسيم حدوده البحرية مع سوريا، مستندًا إلى القانون الدولي والقواعد المعمول بها عالميًا لرسم الحدود البحرية، وأودع المرسوم الرئاسي لترسيم حدوده لدى الأمم المتحدة.
في المقابل، تعاملت الحكومة السورية في حينه مع الترسيم الذي حصل كأنه لا يعنيها، ورسمت خطها الخاص منطلقةً من الشاطئ أفقيًا نحو الغرب، واعترضت في العام ذاته لدى مجلس الأمن، وسجلت اعتراضها لدى الأمين العام للأمم المتحدة، معتبرًا أن “المرسوم اللبناني لا أثر قانونيًا له ملزم تجاه الدول الأخرى ويبقى مجرد إخطار تعترض عليه الجمهورية العربية السورية”.
وفي العام 2014 قدمت الحكومة السورية شكوى لدى مجلس الأمن على مسألة الحدود ورد عليها لبنان برسالة توضح أنه استند في الترسيم إلى القانون الدولي والقواعد المعمول بها، وبقي الموضوع طيلة الفترة الماضية طي الكتمان حتى فوجئ المسؤولون اللبنانيون بالاتفاق بين الحكومة السورية والشركة الروسية على أعمال التنقيب التي تشمل المنطقة الاقتصادية اللبنانية الشمالية.
الجدير ذكره أن ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا لم يُنجز حتى اليوم لاعتبارات كثيرة يتداخل فيها السياسي بالأمني بالاقتصادي بالعقائدي بغيرها من الأمور، ولعل في مسألة مزارع شبعا التي ما زالت “إسرائيل” تحتلها إلى اليوم ما يوضح ذلك، إذ يعتبر لبنان أنها لبنانية، وهي كذلك، وترى “إسرائيل” أن المزارع سورية، في حين لم تقدم سوريا أي دليل يثبت لبنانيتها أو سوريتها لتظل “مسمار جحا” أو فتيل تفجير في أي وقت.
خلاصة القول: لبنان يواجه اليوم ما يعتبره تعديًا على حقوقه البحرية من الناحية الجنوبية عبر الاحتلال الإسرائيلي الذي يريد قضم مساحة تساوي قرابة 1000 كيلومتر مربع وتحوي كميات كبيرة من النفظ والغاز، وتعديًا على حقوقه البحرية من الناحية الشمالية عبر حكومة النظام السوري التي تريد قضم ما يقارب 1000 كيلومتر مربع أخرى هي أيضًا غنية بالنفظ والغاز، في وقت يعيش البلد في ظل عجز اقتصادي وأزمة معيشية وانقسام سياسي كرسته طبقة فاسدة لا هم لها إلا مصالحها الخاصة والضيقة، ووسط انسداد أفق الحل السياسي الذي يستفيد منه في مثل هذه الحالة أولئك الذين يطمعون بنفط لبنان وغازه.