ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى سنوات اعتبر حلفاء جيرمي كوربين أن ادعاءات معاداة السامية، التي استخدمت ضد الزعيم السابق لحزب العمال وأنصاره، كانت تهدف لتقويض برنامجه الاشتراكي وإسكات كل صوت منتقد لـ”إسرائيل”.
وخلال نفس تلك الفترة، كانت المجموعات المكونة للوبي المساند لـ”إسرائيل”، إلى جانب المسؤولين اليمينيين في الحزب، يعارضون هذا الرأي بشدة. هؤلاء الأعضاء كانوا ينفون وجود استغلال ممنهج لتهمة معاداة السامية من أجل الإضرار بجيرمي كوربين، وقد وصل بهم الأمر إلى درجة اتهام كل من يخالفهم الرأي بأنه يروج بدوره لمعاداة السامية.
ولكن الآن يبدو أن ملابسات ذلك الصراع الذي عصف بوجود جيريمي كوربين في قيادة الحزب قد بدأت تتكشف شيئا فشيئا، بعد ظهور معلومات حول المغالطات التي ارتكبها أشد مناوئي كوربين، ومن بينهم مجلس النواب البريطانيين اليهود، وحركة يهود حزب العمال، ومسؤولين آخرين موالين للزعيم الجديد كير ستارمر.
وتفيد المعلومات التي ظهرت مؤخرا حول أسلوب إدارة حزب العمال، أن اتهامات معاداة السامية ضد الحزب، كانت على الأرجح تستخدم لغايات سياسية، والغرض منها هو التخلص من جيرمي كوربين.
إذ أن الممارسات التي اعتبرها ناقدو كوربين في وقت سابق دليلا على أن قيادة حزب العمال لديها مشكلة معاداة السامية، تواصلت على نفس الشاكلة تحت قيادة كير ستارمر، إلا أن هذا الرجل لم يتعرض لنفس الهجمات التي تعرض لها كوربين.
طرد مهين
هذه المعايير المزدوجة في التعامل داخل الحزب، كشفتها دعوى قضائية قام برفعها “نشطاء من أجل العدالة في حزب العمال”، وهي مجموعة من أعضاء الحزب الذين يتهمون القيادات بالفشل في اتباع إجراءات سلوكية شفافة ومنصفة، في أثناء تحقيقهم مع بعض الأعضاء، ومن بينهم ثلاثين عضوا يهوديا تم استجوابهم بشأن اتهامات معاداة السامية.
وفي الواقع فإن المئات من أعضاء الحزب تم تعليق عضويتهم أو طردهم بشكل مهين من حزب العمال، دون أن يعرفوا أصلا سبب ذلك. ولم يتم السماح لهؤلاء باستشارة محامين، وذلك استنادا إلى بنود احترام السرية التي تتضمنها قواعد السلوك في الحزب. ومن المنتظر أن تنظر المحكمة العليا البريطانية في شهر حزيران/ يونيو المقبل، في الدعوة القضائية التي ترفض الإجراءات التي اتخذها الحزب.
إلا أن جلسة استماع تمهيدية انعقدت في شباط/ فبراير، رفض خلالها القاضي طلبات القيادات الحالية لحزب العمال بغلق هذا الملف ورفض النظر فيه، وقد أدى موقف المحكمة إلى انكشاف أدلة ومعلومات مهمة كان رافعو الدعوى القضائية يبحثون عنها.
نشر مدونة السلوك التي وضعها جيرمي كوربين أصاب الكثير من اليهود بالإحباط والغضب
إذ أن لسان الدفاع عن قيادات الحزب، في معرض محاولته إثبات كون الإجراءات السلوكية لمكافحة معاداة السامية في الوقت الحالي داخل الحزب منصفة، قام بالكشف عن معلومة تخدم جيرمي كوربين والأعضاء المطرودين في وقت سابق. هذه المعلومة تفيد بأن القيادة الحالية تستخدم بشكل سري نفس المدونة السلوكية لمكافحة السامية التي تم وضعها في 2018 تحت قيادة كوربين.
هؤلاء الأعضاء المطرودين في وقت سابق لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم أو معارضة قرارات التجميد والطرد، لأن الحزب لم يكشف عن وجود مدونة سلوكية يتم تطبيقها، وعن علاقة ذلك بقضايا هؤلاء.
والآن يأمل المسؤولون الحاليون في الحزب أنهم من خلال هذا الكشف المتأخر عن مدونة السلوك، سيتمكنون من تقديم حجة قانونية للدفاع عن الإجراءات التي تم اتخاذها، وتجنب صدور قرار من المحكمة العليا ضد حزبهم. إلا أن إقدامهم على كشف مدونة السلوك مثل خطوة لا تصب في صالحهم، إذ أنهم عن غير قصد كشفوا عن خللين عميقين يدحضان الادعاءات السابقة التي روجت لها المجموعات اليهودية وأصدقاء كير ستارمر، من أن حزب العمال تحت قيادة جيرمي كوربين كان يعاني من مشكلة معاداة السامية، وأن تلك المشكلة تم حلها بعد رحيله.
مدونة سلوك سرية
أول هذين الخطأين هو أن مدونة السلوك يعود تاريخها إلى فترة زعامة جيرمي كوربين. وقد تم وضعها لتفسير وتوضيح التعريف المثير للجدل لمعاداة السامية، الذي تم فرضه على حزب العمال بطرق ملتوية، من طرف أطراف مثل هيئة النواب وحركة يهود حزب العمال وحملة مكافحة معاداة السامية، إلى جانب جماعات أخرى.
وكان تعريف معاداة السامية الذي وضعه “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” قد اعتبره مسؤولو حزب العمال غير دقيق، خاصة وأنه تضمن 11 مثال عمليا، كانت في الواقع تركز على انتقاد “إسرائيل” أكثر من تركيزها على كراهية اليهود، وتتغاضى عن التفاصيل المتعلقة بالسياق. هذا التعريف شكل تهديدا للعديد من الأعضاء اليمينيين في حزب العمال، ومن بينهم يهود يدعمون كوربين، باتوا مهددين بالتجميد والطرد بسبب مواقفهم السياسية المعارضة لـ”إسرائيل”.
يبدو أن هذا كان الهدف الذي تسعى وراءه هيئة النواب والعديد من الجماعات الأخرى. حيث أنهم استشاطوا غضبا عندما نشر الحزب مدونة قواعد السلوك في صيف 2018، مدعين أن كوربين يسعى للتلاعب بالمعايير التي وضعها التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست، حتى يبقى الأعضاء المعادين للسامية داخل حزب العمال.
وتحت عنوان “مدونة قواعد السلوك حول معاداة السامية داخل حزب العمال تكشف عن مشكل في حزب جيرمي كوربين”، كتب دايف ريتش مدير قسم السياسيات في “صندوق أمن المجتمع”، وهو منظمة تسعى لحماية البريطانيين اليهود، كتب في مقال له في الغارديان: “إن قيادة حزب العمال لا ترغب في استخدام تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية، لأن هذا التعريف يفضح المواقف المعادية للسامية التي كانت لسنوات رائجة ومقبولة داخل الأوساط اليسارية التي قضى فيها كوربين وحلفاؤه حياتهم السياسية.”
هذا الرأي حظي بدعم واسع في الإعلام البريطاني، الذي ركز على تغطية الأخبار حول قيام ثلاث من أكبر الصحف اليهودية في بريطانيا بتخصيص الصفحة الأولى للتحذير من أن حكومة يقودها كوربين “ستشكل تهديدا وجوديا للحياة اليهودية في البلاد”.
كما أن جوناثان فريدلاند كاتب العمود في الغارديان، أشار إلى أن “نشر مدونة السلوك التي وضعها جيرمي كوربين أصاب الكثير من اليهود بالإحباط والغضب”. هذا المقال الذي كتبه فريدلاند جاء تحت عنوان: “نعم اليهود غاضبون لأن حزب العمال لم يستمع لهم أو يظهر أي تعاطف.”
حماية “إسرائيل”
بعد كل ذلك انكتشف الآن أن نفس مدونة السلوك يستخدمها كير ستارمر. فأين ذهب كل ذلك الغضب وتلك المخاوف؟ ألا يعد استماع ستارمر لليهود بنفس أهمية مطالبة كوربين بالاستماع لهم؟ ألا يعد اعتماد ستارمر على نفس مدونة السلوك دليلا على تواصل وجود مشكلة معاداة السامية في قلب حزب العمال؟ لماذا لا يتم اعتبار حكومة يقودها ستارمر أيضا تهديدا وجوديا لليهود؟
رغم أن مدونة السلوك خلفت حالة غضب عندما نشرها كوربين، ما اضطره لإخفائها من أجل تجنب شحن المزيد من الادعاءات حول وجود أزمة معاداة سامية في الحزب، فإن الكشف على اعتماد ستارمر على نفس هذه المدونة لم يقابل بأية احتجاجات من نفس هذه الجماعات. إذ أن هيئة النواب، والمنظمة المدافعة عن يهود بريطانيا، ومجلس القيادة اليهودية، وحركة يهود حزب العمال، اكتفوا بتجاهل المعلومات التي ظهرت حول تواصل استخدام مدونة السلوك. وقد قام ميدل إيست آي بالتواصل مع كل هؤلاء للإدلاء بتعليق، إلا أنهم لم يستجيبوا إلى حدود نشر هذا المقال.
ربما لم يكن هذا ما توقعه مسؤولو الحزب. ومن المؤكد أنهم يشعرون بالارتياح الآن. وخلال إجراءات المحكمة، ادعى محامو الحزب أن تلك المدونة بقيت سرية لأن المسألة برمتها شديدة الحساسية السياسية.
ولكن التغيير الحقيقي الوحيد في التعامل مع معاداة السامية منذ 2018، هو أن كوربين لم يعد على رأس الحزب، وهو الذي لطالما انتقد “إسرائيل” على انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين وانتقد بريطانيا على دعمها وتسليحها لـ”إسرائيل”.
وعلى عكس كوربين، فإن ستارمر وصف نفسه علانية بأنه صهيوني، كما أنه وقع على الانضمام إلى إعلان يسمى “التعهدات العشرة” أصدرته هيئة النواب، يمنح المجموعات المساندة لـ”إسرائيل” حق الفيتو في تعامل الحزب مع قضايا معاداة السامية. كما أن ستارتمر سارع إلى القضاء على كل الأصوات المنتقدة لـ”إسرائيل” داخل الحزب.
وربما تكون المجموعات المساندة لـ”إسرائيل” سعيدة الآن بمدونة السلوك، بما أن ستارمر على عكس كوربين، يبدو كشخص موثوق في التعامل مع المسائل المتعلقة بإسرائيل. وبعبارات أوضح، فإن أزمة معاداة السامية داخل حزب العمال لم تكن تتعلق بحماية اليهود، بل كانت كما وصفها الكثيرون من أنصار كوربين في ذلك موجهة الوقت لحماية “إسرائيل”.
معايير مزدوجة
إلا أن ازدواجية المعايير وعمليات الخداع لا تقتصر على هذه الجماعات اليهودية، فالاعتراف بأن مدونة السلوك لا تزال مستخدمة يشير إلى كون الجناح اليميني داخل الحزب يستخدم هو أيضا معاداة السامية لغايات سياسية.
إذ أن هذا الجناح سيطر على البيروقراطية وعلى العمل البرلماني داخل حزب العمال منذ أن أصبح توني بلير زعيما. وقد أظهر تقرير داخلي تم تسريبه قبل عام واحد، أن مسؤولي الحزب سعوا لتشويه صورة جيرمي كوربين، وحتى تعمد خسارة انتخابات 2017 للتخلص منه.
ويواصل أنصار الجناح اليميني الادعاء بأن حزبهم تحت قيادة كوربين فشل في التعامل بجدية مع مشكلة معاداة السامية، معتبرين أن ذلك يؤشر على تساهل الحزب مع معاداة السامية قبل أن يتولى ستارمر القيادة ويعالج هذا المشكل.
إلا أن المسؤولين التابعين لستارمر حاليا اعتمدوا أمام المحكمة على نفس مدونة السلوك التي وضعها جيرمي كوربين، كدليل على أنهم يعتمدون مقاربة شفافة ومنصفة في التعامل مع معاداة السامية.
وعندما نشرت لجنة المساواة وحقوق الإنسان تقريرها المليء بالأخطاء خلال العام الماضي، حول حزب العمال ومعاداة السامية، تضمن التقرير انتقادا لمكتب كوربن حول “التدخل السياسي في التعامل مع القضايا السلوكية المتعلقة بمعاداة السامية”.
ومن المثير للانتباه أن هذه الإشارة للتدخل السياسي لم يتم توضيحها في ذلك التقرير، وكان الهدف منها هو تسريع إقصاء الأعضاء المتهمين بمعاداة السامية وليس مساعدتهم، وهو ما يعني أن هذا الموقف كان الهدف منه إرضاء ناقدي كوربين. ذلك التقرير دليل على أن أعضاء الحزب المتهمين بمعاداة السامية تعرضوا لمعاملة غير عادلة.
وبالتالي إذا كان فريق كوربين قد تدخل سياسيا لتسريع تجميد وطرد الأعضاء، ونفذ نفس مدونة قواعد السلوك التي يعتمدها خلفه كير ستارمر الآن، فبأي منطق يمكن اعتبار أن حزب العمال تحت قيادة كوربين عانى من مشكلة معاداة السامية وأن هذه المشكلة انتهت مع قدوم ستارمر؟
في الواقع فإن محاولة كوربين لإيضاح هذا الأمر هي التي جعلت ستارمر يطرده من الكتلة البرلمانية للحزب. واليوم بعد اعتراف مسؤولي ستارمر بأنهم لا يزالون يستخدمون نفس مدونة السلوك، هذا يعني أن حجج كوربين في ذلك الوقت كانت صحيحة
الدفع نحو نوبة خوف
أولا وقبل كل شيء، لم يكن حزب العمال سواء تحت قيادة كوربين أو ستارمر، يعاني من وجود معاداة السامية بشكل يفوق مستويات هذه الظاهرة في المجتمع البريطاني بشكل عام.
ومن الواضح أنه تم اعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع كوربين. وخلال هذا الشهر نشرت مجلة “ذي جويش كرونيكل” استطلاعا للرأي يظهر أن 70 بالمائة من أعضاء حزب العمال يتفقون مع كوربين على أن مشكلة معاداة السامية في الحزب تم تضخيمها.
وتعتبر هذه الصحيفة اليهودية أن هذه النتائج دليل على أن حزب العمال لا يزال يعاني من معاداة السامية، ويتمسك أعضاؤه بإنكار هذا الأمر. ورغم ذلك فإنها لا تلوم ستارمر على هذا الأمر، رغم كونها في السابق كانت تهاجم كوربين باستمرار وبنفس التهمة. وعوضا عن ذلك تكتفي الصحيفة اليهودية بتحذير ستارمر من أن أمامه مهمة شاقة، مع دعوته لمضاعفة جهوده لتطهير الحزب.
وهنالك مشكل آخر واضح يتعلق بناقدي كوربين ومخاوفهم بشأن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، إذ أن مسؤولي الحزب وضعوا مدونة السلوك في 2018 لأنهم اعتبروا ذلك التعريف الذي يركز على انتقاد “إسرائيل” أكثر من معاداة السامية، هو في الواقع تعريف غير عملي ولا يصلح كمعيار للنظر في قضايا معاداة السامية.
هذا أمر أقر به ستارمر وأنصاره، الذين واصلوا العمل بنفس مدونة السلوك وبشكل سري، فيما تلازم الجماعات اليهودية حاليا الصمت إزاء هذه المعلومة.
هذا يقودنا إلى استنتاجات أخرى أكثر غرابة. إذ أن هيئة النواب وحركة يهود حزب العمال، بمعية صحف مثل “ذي جويش كرونيكل”، دفعوا بيهود بريطانيا نحو نوبة من الخوف حول وجود تهديد وجودي يمثله كوربين.
والآن يجب أن نخلص إلى أن هؤلاء خادعوا الرأي العام حول حزب العمال تحت قيادة كوربين، أو أنهم غير مكترثون بتواصل وجود الخطر الذي يمثله حزب العمال مع ستارمر على الأقلية اليهودية التي يدعون أنهم يمثلونها. وفي كلتا الحالتين فإن هذا التصرف لا يغتفر.
وعلى الأرجح فإن هذه المنظمات اليهودية تعمدت تحويل معاداة السامية إلى كرة قدم سياسية، يتم ركلها نحو كوربين من أجل الإضرار به بما أنه ناقد لـ”إسرائيل”، ثم يتم وضعها جانبا بكل هدوء عندما يتزعم الحزب رجل يقف إلى جانب “إسرائيل”.
إذا كانت هذه هي الحال، فإن أنصار كوربين الذين لطالما أكدوا أن تهمة معاداة السامية تستخدم كسلاح ضده، كانوا على حق في كل ما صرحوا به. وأولئك الذين مارسوا السياسة باستخدام معاداة السامية تماما مثل الراعي الذي كان يستغيث كذبا ويدعي أن ذئبا هاجمه، تسببوا بتقويض معنى معاداة السامية، وتشتيت الانتباه عن التهديد الحقيقي الذي يواجهه اليهود من طرف المتعصبين في اليمين وأقصى اليمين.
المصدر: ميدل إيست آي