تمر حركة فتح والسلطة الفلسطينية بأزمات مفصلية تاريخية: تراجع سياسي مهين، وتضاؤل غير مسبوق في الموارد المالية، وتصاعد الصراع على السلطة، وملف التطبيع الذي فرض نفسه مؤخرًا على الواقع العربي وقوّض جهود الحل على أسُس عادلة من أطرافه الشرعيين بالمنطقة، نهايةً بتقدُّم عمر الرئيس محمود عباس -85 عامًا-.
كل هذه الخطوط الفاصلة تطرح أسئلة لا نهاية لها، لكن أخطر سؤال تفشل الحركة نفسها في البحث عن إجابته قبل فوات الأوان: كيف يمكن إجراء انتقال سريع للسلطة يمنع انهيارها حال وفاة الرئيس، حتى لا تفقد الحركة ما تبقى لديها من شرعية باتت تتضاءل يومًا بعد الآخر؟
أين فتح الآن؟
ترك الزمن آثاره على منظمة التحرير الفلسطينية، فأصبحت تعاني بشدة، وانعكست مشاكلها الداخلية على الانحدار غير المسبوق في الدعم العربي لها، لدرجة أن بعض الدول أصبحت على استعداد تام للتخلي عنها ودعم سعي “إسرائيل” لإعلان قيامها من جانب واحد، وإنهاء كل ما يتعلق بفلسطين المحتلة من الوجود.
تترك العودة إلى التاريخ قناعة أن حركة فتح كانت دائمًا أضعف من استيعاب تحديات كل مرحلة بتجلياتها السياسية والاجتماعية. حدث ذلك في استقبالها لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، مرورًا بطرد قادة منظمة التحرير من لبنان فيما عُرف بحصار بيروت عام 1982، والحرب الإيرانية العراقية، والحرب الباردة، وحتى الأزمة الخليجية وانحياز فتح إلى احتلال الكويت، نهاية بخروج النخب العربية القديمة من الحكم مع فوران ثورات الربيع العربي.
هشاشة المنظومة دفعت الرئيس أبو مازن نفسه إلى الاستقالة بشكل مفاجئ من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهي أعلى هيئة قيادية في منظمة التحرير الفلسطينية، وخرج معه أكثر من نصف أعضاء اللجنة، وأحدثت الاستقالات فراغًا قانونيًّا، الأمر الذي تطلّب دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد -لم ينعقد منذ عام 1996- لانتخاب قيادة جديدة للجنة التنفيذية .
كان لافتًا أن استقالة الرئيس جاءت بعد أسابيع قليلة من إعفائه ياسر عبد ربه من منصبه كأمين سر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو المنصب نفسه الذي شغله أبو مازن وأهّله بعد ذلك ليصبح رئيسًا للسلطة الفلسطينية، وعيّن بدلًا منه صائب عريقات -توفى مؤخرًا- لتأمين السلطة من المناوئين للرئيس داخل الحركة وخارجها، لا سيما محمد دحلان الخصم الأخطر لعباس والمدعوم من عواصم خليجية وأجنبية وبعض القيادات الفتحاوية المعارضة لأبو مازن.
ومعروف أن دحلان من أقوى كوادر حركة فتح في كيفية جلب وتوظيف المال السياسي، كما أن لديه شبكة اتصالات إقليمية دولية كبرى قادرة على منافسة أبو مازن، ولهذا يتبارى الطرفان في معركة كسر العظام، لكن الرئيس نجح في حسم الجولة الأولى لصالحه وطرد دحلان من الحركة في يونيو/ حزيران 2011.
تشتعل حتى الآن حمية الصراع بينهما، دحلان يتهم الرئيس ورجاله بالفساد السياسي والمالي، وأبو مازن يتهمه بالاتهامات نفسها، وزاد عليها بأوراق جديدة منها العمالة لـ”إسرائيل”، بل ألمح علانية عن مسؤولية دحلان عن اغتيال الرئيس السابق ياسر عرفات، كما شنّ حملة استئصال غير مسبوقة للشبكات الداعمة لخصمه في الضفة الغربية.
خطوة أبو مازن رغم نجاحها في تقويض فرص دحلان في المنافسة، إلا أنها زادت من شراسة مراكز القوى داخل الحركة، الأمر الذي طرح الثقة في قدرة منظمة التحرير والسلطة على تجديد بنائهما الداخلي في ظل الصراع على خلافة الرئيس الثمانيني حال غيابه بصورة مفاجئة، وعدم وضوح الإجراءات القانونية لإجراء انتقال سلس للسلطة، وتعطل المجلس التشريعي، وعدم وجود إجماع على أي مرشح محتمل داخل الحركة.
الصراع الداخلي بين بارونات فتح، أدى أيضًا إلى تقليص الدعم المادي والسياسي للحركة، خاصة من دول الخليج المعنية بالتطبيع حاليًّا، والتي لا تثق في السلطة، وتعتبرها ليست أكثر من خزينة عامة تريد حلب أموالها لتنفقها على عشرات الآلاف من موظفيها، ولا شيء أكثر من ذلك.
يبرهن الحلف الخليجي المناصر للتطبيع على فشل السلطة في بناء بنية تحتية مؤسسية، وحوكمة مناسبة للدولة الفلسطينية، تستطيع من خلالها ترتيب شواغل الحكم واستئصال الفوضى والفساد.
وصل العداء الخليجي إلى حد إضافة «كاف مستحدثة» من عدد لا يستهان به من النخب والكتّاب ونشطاء التواصل الاجتماعي، وإطلاق وصف الكضية الفلسطينية للإساءة للموقف الفلسطيني الذي يبرِّر تصالح السلطة الفلسطينية مع “إسرائيل”، وينكر في الوقت نفسه على من يريد التطبيع من غير الفلسطينيين.
من #باعوا_الكضية وضيعو #الكدس ؟
عجباً الا تعرفونهم !!
هم الادنى
هل عرفتموهم يا سادة ؛هم قادة #فلسطين من عرابهم #ياسر_عرفات حتى #محمود_عباس ابو البوسات الطايرة وقادة #حماس_الاخوانيه pic.twitter.com/G1hfUkQnvw
— د.عبدالله بن سالم (@rzeenharb) August 17, 2020
بخلاف الوضع الداخلي، جاءت رياح الربيع العربي في المنطقة لتدفع بالقضية الفلسطينية للتراجع إلى أسفل جدول الأعمال على مستوى البلدان العربية -مع استثناءات قليلة-، لا سيما بعد هرولة بعض الدول إلى التطبيع الواضح والعلني والشعبي مع “إسرائيل”، على أمل إيجاد حل لأزماتها الداخلية، أو دعم البعض في زيادة نفوذه بالمنطقة على حساب دول كبرى ما زالت متمكسة بالخيارات القديمة للقضية، وعدم التسليم بتصفية الملف الفلسطيني للأبد.
الحراك الأيديولوجي
كانت حركة فتح الشريان الرئيسي للحركة الوطنية الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أن قدرتها التنظيمية والأيديولوجية كحركة شعبية ضعفت إلى حد كبير مع صعود المعارضة الإسلامية، التي اتخذت من العداء المطلق لـ”إسرائيل” شعارًا لها، وقد ساعد المعارضة المد الإسلامي وصعود نجم التيارات الدينية منذ أوائل السبعينيات.
لكن ما ضاعف أيضًا من صعوبة ضخّ أجيال جديدة في حركة فتح، الصراع الذي دار بين القيادة التاريخية للتنظيم، وقادة جيل الوسط من منفّذي الانتفاضة الأولى، على شاكلة مروان البرغوثي وحسين الشيخ وجبريل الرجوب.
كان هؤلاء القادة من أنشط العناصر الأيديولوجية في الحركة، وارتبط بنضالهم أجيال من الشباب والوسط، لكن التضييق عليهم من الوجوه التاريخية في فتح بسبب نشاطهم المعادي لـ”إسرائيل”، تسبب في حالة من الغضب ضدهم، وتحول اهتمام الكثير من الشباب إلى المعارضة الإسلامية التي قدمت نفسها للشارع العربي والإسلامي على أنها من ستواجه القوة العسكرية الإسرائيلية دون خوف أو تراجع.
ما تسبب أيضًا في تراجع شعبية الحركة وعدم قدرتها على تجديد صفوفها، الظروف المأساوية وغير الإنسانية التي يعيش فيها معظم سكان قطاع غزة المحاصر أمام صمت الحركة وضعفها الدبلوماسي والسياسي، وفقدانها كل أوراق الضغط اللازمة كسلطة مسؤولة عن رعاياها، مقابل تشدد لا تهاون فيه لحركة حماس والجماعات الإسلامية الأخرى رفضًا للانتهاكات الإسرائيلية وتعاملها معها الند بالند.
أمام كل هذه الإخفاقات، لم تنجح فتح في إنعاش القومية الفلسطينية وتجديد عناصرها، مقابل نمو المخيلة الإسلامية التي صنعتها تيارات الإسلام السياسي، ونجحت في إضافة البعد الديني إلى عناصر الروح الوطنية الفلسطينية، وأصبح الجهاد حاليًّا هو أبرز عنصر في تعريف الوطنية الفلسطينية كامتداد لا فصال فيه لتحرير الأرض الإسلامية المقدسة.
التمويل
بعكس حركة حماس التي استطاعت تنويع مصادر تمويلها ودعمها على جميع المستويات، ولم تتوقف أمام خياراتها الأيديولوجية، وابتعدت عن فلك الدوائر العربية، ولجأت منذ التسعينيات إلى إيران، ثم تركيا خلال العقدَين الماضيَين بعد وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المعروف بجذوره وميوله الإسلامية لمساعدتها في اكتساب المال والخبرة العسكرية، كانت فتح تترنح بشدة.
استندت فتح على الدعم العربي والغربي المشروط لها، والأخير قطع ترامب جزءًا كبيرًا منه في محاولة لإذلال السلطة للموافقة صاغرة على أجندته الصهيونية للقضية، وعندما عاد التمويل مع جو بايدن، لم يغير من الأوضاع شيئًا، ولم يرمِّم التدمير الذي أصاب السلطة من إرث ترامب.
مستقبل الحركة
لا توضّح الرئاسة الفلسطينية الحالة الدقيقة للوضع الصحي للرئيس محمود عباس أبو مازن، بل إن الناطق الرسمي نفى مرضه بالأساس، رغم تضارب الأنباء حول صحة مرضه وانتشار كمّ كبير من الشائعات حول خضوعه للعلاج في الرعاية المركزة وتدهور حالته الصحية على أقل تقدير، خصوصًا بعد مغادرته فلسطين المحتلة إلى ألمانيا لإجراء فحوص طبية دقيقة.
هذه المعطيات تأخذنا إلى البحث في الداخل الفلسطيني، ونوعية الترتيبات التي تجري داخل الغرف المغلقة لدراسة الأمر، والسيناريو الذي تم تجهيزه حتى يلبي تحديات المرحلة ويحظى بالقبول داخليًّا وخارجيًّا، وينقذ المنصب والحركة نفسها قبل فوات الأوان.
بحسب الدستور، حال رحيل الرئيس بشكل مفاجئ، يتولى رئيس المجلس التشريعي المنصب لحين انتخاب رئيس جديد، لكن هنا الإشكالية الفلسطينية التي لن تنتهي حال غياب الرئيس بطريقة مفاجئة، فالمآخذ الكثيرة على المجلس المطعون في شرعيته من بعض الأطياف، فضلًا عن انتهاء مدته الدستورية ورئيسه عبد العزيز دويك -قيادي في حماس- وعدم استعداد فتح للتنازل عن المنصب ولو يومًا واحدًا لأي طرف فلسطيني آخر، وكذلك الجهات الدولية الفاعلة عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
يحدث ذلك مع غموض إجراء الانتخابات العامة بسبب حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، فضلًا عن التشرذم داخل فتح، والصراع العلني على خلافة عباس بين أقطاب السلطة، ورفض “إسرائيل” من ناحية أخرى إجراء الانتخابات في القدس عاصمة دولة فلسطين.
وهذا يعني حال إتمام الانتخابات سيتم الاعتراف بالأمر الواقع والسيادة الإسرائيلية على القدس، وحال التراجع عنها سيعني استمرار الحال كما هو عليه، بعد أن ظلت الانتخابات على جميع المستويات معطلة منذ 16 عامًا.
في وسط هذه الأحداث يبرز اسم مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، الذي يحظى بدعم عربي وأميركي، وهو الأقوى حتى الآن، لكن هناك ثغرة قد تطيح بأحلامه من القوى الأخرى بخلاف عدم الاتفاق عليه، وهي عدم عضويته في قيادة الحركة ومن ثم منظمة التحرير، التي تعتبر الممر الرسمي للوصول إلى المنصب.
يمكن القول إن الجميع يستعد لكل السيناريوهات الصعبة لمستقبل السلطة الفلسطينية: الغرب، الدول العربية الكبرى، “إسرائيل”، الخليج العربي. وربما من مصلحة الجميع عدم إسقاط فتح لأي سبب كان، حال وفاة الرئيس أبو مازن دون ترتيبات طويلة الأمد على السلطة.
لكن السؤال الأخطر الذي ليس له إجابة حتى الآن: حتى لو تم إجراء ترتيبات مؤقتة للسلطة، من يضمن مستقبل الحركة، وماذا ستكون عواقب الصراع الشرس على إرث عباس داخل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية على حد سواء؟