في الحديث عن السلام الأهلي بمجتمعات ما بعد الصراع، هناك أهمية للتسليم أن القضية أكبر من إيقاف الحرب، بل ذاكرة وخبرة الحرب الأهلية، وتصبح تغيير الذهنية والتمسك بالحوار والقبول بالمختلف القضية الكبرى للمجتمع، وهو ما يحدث في البوسنة والهرسك الآن.. من جرائم إبادة جماعية على الدين والعرق إلى محاولات متجددة لضمان مستقبل أفضل للجميع.
البوسنة والهرسك
البوسنة والهرسك دولة في جنوب شرق أوروبا، على حدود كرواتيا وصربيا والجبل الأسود، سكنتها حضارات عديدة، وتملك تاريخًا ثريًا، ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا، إذ كانت مملكة كبرى حتى القرن الرابع عشر إلى أن تم فتحها وضمها إلى الإمبراطورية العثمانية.
استمرت البوسنة تحت الحكم العثماني من منتصف القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر، وجلب العثمانيون الإسلام إليها، لكنها ظلت موطنًا لثلاث مجموعات عرقية رئيسية، البوشناق المجموعة الكبرى والصرب في المرتبة الثانية والكروات في المركز الثالث.
أضاف الفتح الإسلامي تغييرات جذرية في الوضع السياسي والمشهد الثقافي للبلاد، إذ أصبحت الطائفة المسلمة ذات الأصول السلافية من أكبر الطوائف العرقية والدينية في البلاد نتيجة للارتفاع الكبير في عدد الذين دخلوا الإسلام، ومع ذلك يُحمد للعثمانيين حتى الآن حفاظهم على الطابع الثقافي والهوية المميزة للشعب البوسني، واستمرارها بحدود أراضيها واسمها التاريخي “سنجق” ـ تغير لاحقًا إلى البوسنة ـ ما مثل حالة فريدة بين دول البلقان التي خضعت للحكم العثماني.
الرؤية التسامحية للحكم العثماني انعكست على تفاعل البوسنيين مع الثقافة العثمانية، وصار منهم أعلام للصوفية والشعر والفكر باللغات التركية والعربية والفارسية، كما ساهموا في التاريخ السياسي للدولة العثمانية، ومنهم من وصل إلى أعلى المراتب في الخلافة، على رأسهم الصدر الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش.
خلال المئة عام اللاحقة، تفشى الطاعون في البلاد، واندلعت عدة ثورات داخل البوسنة
لكن ما عطل هذه السردية تراكم المشكلات منذ أواخر القرن السابع عشر في الخلافة، التي أصابت بعضها البوسنة فكثرت الاحتجاجات على الحكم، وفاقمت معاهدة كارلوفجة الأوضاع في المنطقة بتنازل العثمانيين بموجب اتفاق القوى الأوروبية الصاعدة بقوة آنذاك عن معظم أراضي المجر وترانسلفانيا وسلافونيا لإمبراطورية هابسبورج، كما عادت بودوليا إلى بولندا وبالتبعية تقلصت الحدود العثمانية، وصارت سنجق ـ البوسنة ـ مقاطعة على الحدود الغربية للدولة.
خلال المئة عام اللاحقة، تفشى الطاعون في البلاد، واندلعت عدة ثورات داخل البوسنة، كما أدت محاولات الباب العالي تحديث الدولة وتطويرها إلى نشوب حالة من العداء الشديد بين الأسر الارستقراطية والخلافة، فقد رفض الأعيان الإصلاحات المقترحة خوفًا من فقدان امتيازاتهم، ما أعطى للدويلات المسيحية الناشئة في شرق البلاد السبق في إشعال التمرد الشهير الذي قاده حسين كراداسفيتش سنة 1831.
نجحت الدولة العثمانية في إخماد التمرد، لكنها لم توقف نزيف التدهور، فاندلعت اضطرابات أخرى على رأسها ثورة الهرسكيين، وهي انتفاضة واسعة النطاق للفلاحين عام 1875 بسبب زيادة العبء الضريبي عليهم، واستغلتها دول البلقان والقوى العظمى لإجبار العثمانيين في نهاية المطاف على التنازل عن إدارة البوسنة إلى المملكة النمساوية ـ المجرية بموجب معاهدة برلين عام 1878.
مع النمسا
أصبحت البوسنة والهرسك جزءًا لا يتجزأ من المملكة المزدوجة للمجر ـ النمسا، وحاولت الحكومة الجديدة تحصيل شعبية بالسير عكس الإدارة السابقة وإجراء تفاهمات سريعة مع البوسنيين.
لكن التوترات في مناطق معينة من البلاد وخاصة الهرسك والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية خلال إعادة توزيع الثروة الاقتصادية والصراع الإيديولوجي الذي هيمن على الدولة اليوغوسلافية، ما بين الإقليمية الكرواتية والمركزية الصربية، أثر بشكل كبير على المجموعات العرقية الرئيسية في البوسنة وعلى رأسهم البشناق.
خلال الحرب العالمية الأولى تم تجنيد العديد من سكان البوسنة والهرسك في الجيش النمساوي المجري وإرسالهم إلى الحدود مع صربيا والجبل الأسود، وكان للبوسنة والهرسك مكانة مركزية في الخطط الحربية، لهذا جرّت الحرب ويلات كبرى على الشعب البوسني، وقتل أكثر من 300 ألف مواطن في حرب لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل، فضلًا عن انتقال ولاية البلاد للحكم اليوغسلافي بعد تفكك مملكة النمسا-المجر.
الأزمة الأهلية
عام 1990 أعلنت كل من كرواتيا وأعقبتها سلوفينيا الاستقلال عن جمهورية يوغسلافيا، ما وضع البوسنة والهرسك والشعوب الثلاث المكونة لها في موقف حرج، فحدث انقسام كبير في البلاد سرعان ما تطور إلى نزاع مسلح لحسم مسألة البقاء ضمن الاتحاد اليوغوسلافي.
أيد الصرب بشكل ساحق البقاء في الاتحاد، بينما رفع البشناق والكروات راية الاستقلال، فأشعل الحزب الصربي الديمقراطي حربًا عرقيةً، وترك نوابه البرلمان المركزي في سراييفو، وشكلوا برلمانًا أسموه المجلس الوطني لصرب البوسنة والهرسك في أكتوبر/تشرين الأول 1991.
كانت الخطوة تمردًا واضحًا على التعاون العرقي الثلاثي الذي حكم البلاد، ولجأ المجلس الجديد للتصعيد أكثر وأعلن من جانب واحد جمهورية صرب البوسنة والهرسك في يناير/كانون الثاني 1992، ثم غيّر الاسم إلى الجمهورية الصربية في أغسطس/آب 1992.
هاجمت القوات الصربية التجمعات المدنية للمسلمين في شرق البوسنة، واحتلت قراهم وبلداتهم بمساعدة أهالي القرى الصرب الذين شاركوا في نهب وإحراق منازل وممتلكات البشناق المسلمين
سارعت عرقية الكروات بالرد المنفرد أيضًا على خطوات الصرب بإنشاء ما يسمى “المجتمع الكرواتي للبوسنة والهرسك”، وأعلنت انفصالها سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، كما أعلنت إنشاء جيش خاص بها، وأمام هذا الوضع لجأ الطرفان إلى إجراء مباحثات سرية لتقسيم البوسنة بين الصرب والكروات، ليصبح المسلمون البشناق خارج حسابات الجميع، خاصة بعد تمسكهم دون غيرهم بالحكومة البوسنية الموحدة، التي لم تكن مدعومة من الخارج، وقواتها العسكرية كانت سيئة التجهيز وغير مهيأة للحرب.
رغم تعقد الصراعات وتزايد التوترات، اعترف المجتمع الدولي باستقلال البوسنة والهرسك، وزدات الضغوط الدبلوماسية لسحب الجيش الشعبي اليوغسلافي من مناطق البوسنة، وهو ما تم بشكل رسمي.
لكن هذه الخطوة أشعلت غضب أعضاء الجيش الصربي الذين استحوذوا سريعًا على مخزون الجيش اليوغسلافي في البلاد بدعم من صربيا، ودعم آخر لوجستي واستخباراتي ومالي من يوغسلافيا لضمان استحواذ الصرب على أكبر قدر ممكن من الأراضي.
هاجمت القوات الصربية التجمعات المدنية للمسلمين في شرق البوسنة واحتلت قراهم وبلداتهم بمساعدة أهالي القرى الصرب الذين شاركوا في نهب وإحراق منازل وممتلكات البشناق المسلمين بصورة منهجية بجانب التعذيب والقتل الجماعي والاغتصاب، ما أدى إلى تهجير ما يقرب من 2.2 مليون بوسني عن أراضيهم في أسوأ نموذج ممكن لارتكاب جرائم حرب بكل صورها وأشكالها.
على الناحية الأخرى سارع مجلس الدفاع الكرواتي لاستغلال الوضع، وأنهى التحالف الكرواتي البشناقي، وشن عمليات تطهير ضد غير الكروات، ورحلّ المسلمين قسريًا من منازلهم التي تقع داخل مناطق الأغلبية العرقية الكرواتية.
إبادة جماعية
سيطرت أجواء الإبادة الجماعية على البلاد، فقتل نحو 200 ألف بوسني مسلم على أيدي الصرب، لتتدخل القوى الدولية فضلًا عن تحالف المسلمين من الكروات والبشناق بعد أن تمكن الصرب من الاستحواذ على 70% من الأراضي.
اتحاد المسلمين البشناق والكروات، نجح في استرداد أراضي جمهورية كروات البوسنة، كما نجح في تحرير مقاطعة غرب البوسنة ذاتية الحكم، وواكب ذلك تحرك موازٍ من الأمم المتحدة بقيادة الأمين العام المصري آنذاك بطرس بطرس غالي.
أصدر مجلس الأمن القرار 743 في 21 من فبراير/شباط 1992 بإنشاء قوة حماية تابعة للأمم المتحدة، لإنقاذ حياة السكان وتقديم المساعدات الإنسانية للاجئين حتى انتهاء الحرب.
حصن المجلس قراره بحظر الطيران فوق البوسنة، لكن تم انتهاك الحظر فضلًا عن ارتكاب مذابح أخرى من الصرب، وهنا تدخل الناتو بطلب دولي وشن عملية “القوة المتعمدة” بمشاركة 15 دولة بداية من أغسطس/آب 1995.
ضربت 400 طائرة و5 آلاف فرد بقيادة الأدميرال لايتون دبليو سميث جونيور 338 هدفًا لصرب البوسنة، فدمرت الضربات مواقع المدفعية وقذائف الهاون في سراييفو وما حولها، وكانت مسؤولة بشكل مباشر عن الهجمات ضد المدنيين العزل.
أجُبر الصرب البوسنيون على تعليق عملياتهم الإجرامية، وسحب الأسلحة الثقيلة من سراييفو، وبعد ضربات موجعة امتثلوا للشروط التي حددتها الأمم المتحدة لإنهاء الضربة العسكرية للناتو وأسفرت الجهود الدبلوماسية الدولية عن توقيع اتفاقية دايتون في نوفمبر/تشرين الثاني 1995.
العدالة الانتقالية
بمجرد انتهاء غبار الحرب، بدأ كل مكون يحصي خسائره، فظهر في الأفق الكثير من المثقفين المحسوبين على كل الاتجاهات يقدمون قراءتهم للتجربة المريرة وخلصوا إلى أن الاتجاهات الاستبدادية وتضخم الشعور القومي هو السبب الأساسي فيما حدث.
أكد الجميع ضرورة الإيمان بأنهم مجرد نوع من قبيلة البلقان التي سادت بينها كراهية عمرها قرون من الزمان، والاعتراف دون مواربة أن المظالم الكبيرة التي ترتبت على الصراع خلفها محاولة دمقرطة العنف الذي خرج في النهاية عن سيطرتهم وانسكب في كل مكان.
ترسخت في المجتمع قناعة أن إضفاء الطابع الديمقراطي على العنف يؤدي مع الوقت إلى فقدان الدولة احتكارها للقوة ويتم إعادة تعريف العدالة من الجميع، سواء أصحاب الحق أم الجماعات الإجرامية على حد سواء، وكان ذلك الغذاء الأساسي للفوضى التي ألغت التمييز الرئيسي بين الأنشطة الرسمية وغير الرسمية، والخاصة والعامة، والأنشطة القانونية وغير القانونية.
ساهمت هذه الحوارات المجتمعية والاعترافات المتبادلة في تضمين اتفاقية دايتون كل ما يضمن وضع أسس للسلام النهائي في البوسنة والهرسك، ويوقف الحرب العرقية الدائرة والصراع المسلح الذي استمر لمدة ثلاثة أعوام في منطقة البلقان.
ترأس الوفود المشاركة كل من سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس جمهورية صربيا ورئيس كرواتيا فرانجو توزمان، وعن البوسنة والهرسك الزعيم علي عزت بيغوفيتش مع وزير خارجيته محمد صقربيغ.
نصت الاتفاقية بموافقة الجميع على إقامة دولة واحدة ذات سيادة تعرف باسم البوسنة والهرسك، تتكون من جزأين: جمهورية صربسكا التي يسكنها الصرب إلى حد كبير، وفيدرالية البوسنة والهرسك المأهولة بالسكان الكروات والبوسنيين، بجانب منطقة برتشكو الواقعة في الشمال الشرقي من البلاد، وهي منطقة متعددة الأعراق، وجرى الاتفاق على تناوب مكتب الرئاسة بين الرئيس البوسني والكرواتي والصربي على المنطقة كل ثمانية أشهر.
وضعت اتفاقية دايتون أسسًا إستراتيجيةً وخطةً شاملةً لمكافحة الإفلات من العقاب وتوفير الإنصاف وإثبات الحقائق عن الماضي واستعادة ثقة المواطنين تجاه المؤسسات وردع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل.
تعاملت المصالحة مع الحقائق بواقعية شديدة، فالجماعات العرقية في البوسنة والهرسك ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالديانات الثلاثة الرئيسية الموجودة في البلاد، لهذا جرى الاستعانة خلال تنفيذ مشاريع المصالحة بالمؤسسات الدينية باعتبارها الجهات الفاعلة الرئيسية.
ورغم اختلاف البعض على الخطوة حتى لا تتجذر العرقية والطائفية في البلاد إذا دُفع بقادة الأديان لحسم خلافات سياسية وعرقية، فإن تدخلهم ساهم في دفع الأفراد إلى فهم أفضل لحقيقة الصراع على الأرض، وأثبتت خطوة الاستعانة بجهود المؤسسات الدينية أنه لا سلام في هذه الأرض دون الدين.
وقف الحرب أم استمرارها؟
وُلدت أجيال جديدة من الشباب في البوسنة والهرسك على أصداء الفاجعة وتفاصيلها الخشنة، وما زالوا يعيشون الآن في بيئة تحيا على حقيقة الانتماءات الإثنية، ما يعكس مناخ من عدم الثقة بين المجموعات ويغذي ذلك النظام السياسي المشوش فاقد الإستراتيجية طويلة المدى، بسبب فرضية التناوب على الحكم التي قد تهدم الاستقرار وتقوضه إلى درجة كبيرة.
مع ذلك أدت التجربة إلى تراكم خبرة هائلة لجميع الأجيال في أهمية الحوار ووقف الحرب بين مكونات المجتمع الواحد، وتجذير مفهوم المصالحة، فضلًا عن أهمية قول حقيقة ما حدث، وهو أمر له بالغ الأثر في إقامة علاقات أوثق بين الجميع، لإقامة أي مجتمع حديث خالٍ من التوترات والصراعات المذهبية والعرقية.
أثبتت المصالحة الاقتصادية نجاحها داخل المجتمع البوسني وإن تعثرت حتى الآن عمليات تطوير المصالحة السياسية، فمصالح الجميع باختلاف انتماءاتهم سمحت بإيجاد توافقات تبيح لهم التفاعل مع الجماعات العرقية المتقابلة اقتصاديًا، ومع الوقت تتبدل الأولويات وتبتعد عن المصالح العرقية، ما يدفع لاحقًا في اتجاه ترسيخ وتجذير المصالحة الاجتماعية.