يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين: “كانت تلك فترة حالكة، فساد على المكشوف، ومعارك ومواجهات بين الأجهزة وتقارير يرفعها كل جهاز ضد الآخر، حتى كادت فعاليتها تتآكل بشكل تام.”
بعد إزاحته من منصب ولي العهد في عام 2004، تلقى الأمير حمزة طلباً من الملك عبدالله بأن يقدم له خطة يتمكن من خلالها من أن يصبح ذا فائدة للسلالة الهاشمية. في ذلك اليوم، كما يقول شخص مطلع على الحوار الذي جرى بين الاثنين، تقدم الأمير الأرعن باقتراح جريء: توحيد جميع أجهزة الاستخبارات العسكرية في جهاز واحد يوضع تحت إدارته. رفض الملك عبدالله الاقتراح. وكما يقول الشخص الذي يروي الحكاية “من غير الوارد” أن يسلم الملك الأمير حمزة تلك الصلاحيات الهائلة، بعد أن كان قد انتزع منه ولاية العهد وسلمها لابنه هو.
منذ أن رفض الملك مقترحه، سلك الأمير حمزة – الذي يبلغ من العمر واحداً وأربعين عاماً – سبيلاً مختلفاً، إذ بدأ يسعى لإحداث اختراقات عميقة داخل القبائل المترامية والساخطة، والتي كانت قبل ما يقرب من قرن من الزمن عوناً في تأسيس ما نما ليصبح دولة الأردن الحديثة. أما وقد غدوا الآن أقلية داخل بلدهم هم، يشكو زعماء بعض هذه القبائل من أنه تم التخلي عنهم حتى بات أبناؤهم من الشباب يعانون من البطالة. وجد هؤلاء لدى الأمير آذاناً صاغية ومتعاطفة.
يقول دهام مثقال الفواز، الزعيم القبلي الذي يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً وينتمي إلى عشيرة السردي شمال البلاد قريباً من الحدود مع سوريا: “يسألنا كيف حالكم، وينصت إلي حينما أحدثه عن الحزن في وجوه الناس وعن عبوسهم بسبب الشدائد التي يتنكبونها.”
هذا التكتيك – مغازلة القبائل – نجم عنه في نهاية المطاف تفجر صدام مفتوح قبل أسبوعين بين الأمير الطموح وبقية العائلة الحاكمة، وأدى إلى وضع الأمير حمزة تحت الإقامة الجبرية وتجريده من كافة وسائل الاتصال الإلكترونية، وأخيراً حمله على توقيع تعهد بالولاء للملك عبدالله البالغ من العمر تسعة وخمسين عاماً.
وصف مسؤولون أردنيون مراسلات واتساب ورسائل أخرى تم اعتراضها بأنها ترسم نمطاً يتجاوز مجرد العمل على تنمية قاعدة نفوذ بديلة إذ يتحدثون عن تواطؤ مع باسم عوض الله
أماط هذا النزاع المعلن وغير المعتاد اللثام عن توتر طالما ظل يغلي في الخفاء داخل واحدة من أكثر السلالات الملكية وقاراً في العالم العربي. وذلك أن المملكة بفضل ما تحظى به من نخبة حاكمة أردنية ذات ثقافة غربية وأجهزة مخابرات طيعة ودرجة عالية من المصداقية غدت حليفاً مقرباً وموثوقاً لدى أقرب أصدقائها، الولايات المتحدة، التي أغدقت عليها مساعدات بمليارات الدولارات.
ما لا يقل عن ستة عشر شخصاً آخر، ممن وصفتهم الحكومة بالمشاركين في مخطط الفتنة، تم إلقاء القبض عليهم، ويخضعون حالياً لتحقيق جارف تقوده دائرة المخابرات.
في حديث مع الفاينانشال تايمز، وصف مسؤولون أردنيون مراسلات واتساب ورسائل أخرى تم اعتراضها بأنها ترسم نمطاً يتجاوز مجرد العمل على تنمية قاعدة نفوذ بديلة – إذ يتحدثون عن تواطؤ مع باسم عوض الله، الأردني الذي يعمل مستشاراً لدى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي يقال إنه يمقت العاهل الأردني. ويقال إن الرسائل تتضمن نقاشاً حول التواريخ المختلفة التي سيطلب الأمير فيها من أنصاره الانضمام إلى الاحتجاجات في الشوارع.
يقول المسؤولون إن الأمير حمزة سأل أعضاء المجموعة التي يجري التراسل فيما بينها، بمن فيهم عوض الله، ما إذا كان ينبغي عليه أن يلقي بثقله وراء سلسلة من الاحتجاجات المستقلة التي كان يخطط لإقامتها يوم 24 مارس / آذار، والتي دعت إليها حركة شبابية كانت من قبل قد نظمت مظاهرات استلهمتها من حراك الربيع العربي المطالب بالإصلاح.
يقال إن الأمير حمزة سأل عوض الله عما إذا كان الوقت مناسباً، وذلك في رسالة نصية وصفها مسؤول أردني لصحيفة فاينانشال تايمز زاعماً أن الأمير قال فيها: “لا أريد أن أتعجل الأمور.”
مصاعب اقتصادية
إن السعي المزعوم من قبل الأمير لكسب دعم القبائل – والذي وصفه مسؤولان أردنيان بأنه يشكل المرحلة الأولى من مسعاه للحصول على ولائهم الرسمي – يوجه ضربة في الصميم إلى شرعية حكم الملك عبدالله. في حديث لصحيفة الفاينانشال تايمز مع بعض زعماء القبائل، وصف هؤلاء الملك بأنه بعيد، ومحاط بحاشية من المستشارين الذين يقطنون المدينة، وبأنه أصم عن سماع معاناة شعبه.
تقول بسمة المومني، وهي أستاذة أردنية في العلوم السياسية في جامعة واترلو في كندا: “يتوقعون الكثير من الحكومة، وذلك انطلاقاً من العقد الاجتماعي القديم الذي أبرم عند تأسيس الدولة. لقد غدوا مع الزمن أكثر انتقاداً للواقع الذي فقدوا فيه كثيراً من نفوذهم – جزئياً بسبب تبدل التركيبة السكانية، وجزئياً بسبب أن المصاعب الاقتصادية خلال السنوات القليلة الماضية تكاد تكون غير مسبوقة … ثم جاءت جائحة كوفيد لتفاقم من شدتها.”
خلال سنوات حكم الملك حسين، وهو والد كل من عبدالله وحمزة والذي قاد البلاد في أجواء مضطربة لما يقرب من ستة وأربعين عاماً، كانت الحكومة تلجأ إلى المحسوبية سبيلاً للتهدئة – بما في ذلك الزيارات الملكية، والتجمعات الكبيرة التي كانت تستمر لساعات وكذلك اللمسات الشخصية بين الملك ورعاياه. وبدلاً من التعامل مع متطلبات الدولة الحديثة، كما يقول المحللون، عمد القصر إلى توزيع وظائف الدولة، عادة في الجيش، ومنح امتيازات تقاعد لا قبل للدولة بتحمل أعبائها.
غدا واضحاً بشكل لا لبس فيه فشل الأردن في إيجاد قاعدة اقتصادية تنبض بالحياة – حيث تكاد تنعدم الفرص الوظيفية لدى الشباب المبتدئين من ذوي الأيدي غير الماهرة
كانت الحياة مكلفة وغير مستدامة. فالأردن موارده الطبيعية متواضعة، وهذا البلد الصغير، الذي يجد نفسه محشوراً بين العراق وسوريا وإسرائيل والضفة الغربية المحتلة والمملكة العربية السعودية، نالت منه الحروب الإقليمية بما نجم عنها من تحولات سكانية بفعل نزوح الفلسطينيين هرباً من الصراع في إسرائيل في 1948 ثم في 1967، ومؤخراً بفعل تدفق ما يقرب من 600 ألف لاجئ من سوريا.
حينما استلم عبدالله مقاليد الحكم في عام 1999 كان أبناء العشائر التي ساعدت في قيام الأردن قد أصبحوا أقلية وكان اقتصاد المملكة في طريقه إلى انحدار طويل المدى مما أضعف العقد الاجتماعي الذي طالما أبقى العشائر هامدة ساكنة. نجم عن خطة الإنقاذ التي تقدم بها صندوق النقد الدولي في عام 1989، والتي تطلبت من الأردن تقليص الإنفاق الحكومي، اندلاع احتجاجات في الأماكن التي تتركز فيها العشائر، وما لبثت أن لحقتها احتجاجات أخرى في عام 1996 ثم في عام 2011 وأخيراً في عام 2018.
يقول البرفسور التل، والذي قضى سنين في دراسة تطور الحركة الاحتجاجية في الأردن: “قاعدة النظام – العقد الاجتماعي الذي أبقاه عائماً – لم تزل تتآكل وبشكل ملحوظ منذ بعض الوقت، وباتت الآن تواجه مشاكل خطيرة. ولم يلبث الأمير حمزة يختبر الأوضاع منذ عقود، وقطع شوطاً طويلاً في سعيه للفوز بدعم الشعب.”
والآن، وبعد عام من جائحة فيروس كورونا، والتي قضت قضاء مبرماً على قطاع السياحة الذي يعد غاية في الأهمية من حيث الوظائف وإيرادات العملة الأجنبية، بات خمسة وخمسون بالمائة من شباب الأردن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 24 عاماً عاطلين عن العمل، وكانت نسبة البطالة في صفوف هذه الشريحة قبل ذلك حوالي 35 بالمائة. وغدت المملكة، التي اعتمدت طوال فترة وجودها تقريباً على المساعدات الخارجية سواء من الولايات المتحدة أو من المؤسسات التمويلية الغربية أو من الدول الخليجية التي كانت ذات يوم سخية، مقيدة جداً في قدرتها على إعادة إنعاش الاقتصاد.
يقول جيسون توفيه، كبير الاقتصاديين المتخصص في الأسواٍق الناشئة في كابيتول إيكونوميكس: “سيكون صعباً على الأردن تحقيق أي شكل من التعافي. فلو لجأت الحكومة إلى تقليص الدعم على السلع، وتخفيض رواتب العاملين في القطاع الحكومي، فمن الممكن بسهولة أن نرى الاضطرابات تندلع من جديد.”
مغازلة العشائر
قضى الأمير حمزة سنين في بناء قاعدة موالية له في أوساط العشائر. كان يشعر بأنه واحد منهم، كما يقولون، يقود سيارته بنفسه للمشاركة في أفراحهم وأتراحهم فيحضر أعراسهم وجنائزهم، وينضم إليهم في الصيد وممارسة رياضة الصقور في النهار ويشاركهم في جلسات طويلة من النقاش السياسي في المساء.
أتاح له الشبه الكبير بينه وبين والده واستخدامه للغة العربية التقليدية بأن يملأ جبة خليفة الحسين المختار بسهولة عزت على الملك عبدالله، كما يقول زعماء العشائر. كما أن النسب من الأمور المهمة جداً في الأردن. بعض زعماء العشائر يقولون إنهم ممتعضون من تزوج الملك عبدالله بامرأة فلسطينية، الملكة رانيا، ويفضلون نقاء العرق الأردني في حمزة.
رواية الحكومة بوجود مؤامرة ضد الملك قوبلت بالريبة من البعض داخل وخارج المملكة
وطبقاً لشخص لديه اطلاع على مجريات التحقيق، قام الأمير حمزة بعد دقائق بإرسال التسجيل إلى عوض الله، مع ملاحظة مشفرة تقول: “ينبغي أن يعرف الناس أن هذا قد حصل.” تسبب نشر التسجيل من قبل محامي الأمير حمزة في حالة من الاضطراب داخل القصر استمرت لما يقرب من 48 ساعة.
عملية موازية في القصر
على الرغم من تعهده العلني بالولاء إلا أن الأمير حمزة يبقى رمزاً قوياً، وفي نفس الوقت لا توجد لدى الحكومة خيارات كثيرة لتنفيس الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بالجيل الجديد من الأردنيين لانتقاد الملك علانية
على الرغم من تعهده العلني بالولاء إلا أن الأمير حمزة يبقى رمزاً قوياً، وفي نفس الوقت لا توجد لدى الحكومة خيارات كثيرة لتنفيس الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بالجيل الجديد من الأردنيين لانتقاد الملك علانية ورفض رواية القصر عن وجود مؤامرة مدعومة من قبل أطراف خارجية.
يقول ناشط سياسي في معان طلب عدم التعريف به: “هذه فرصة أمام النظام ليعيد النظر في مدى خطورة الوضع والبحث عن سبيل للإصلاح. يمكن للأمور أن تتغير ببطء، أو قد يحدث تحول طارئ – كما كان عليه الحال في الربيع العربي. وإلى ذلك الحين يبقى حمزة أشبه بالرجل داخل القناع الحديدي.”
المصدر: ذي فاينانشال تايمز