مارس/آذار 2019، قبل ترشحه رسميًا لخوض غمار الانتخابات الرئاسية قال قيس سعيد: “السلطة هم وغم وابتلاء”، إلا أن وصوله قصر قرطاج غير فكرته عن السلطة – أو لعله كان يظهر غير ما يُسر ويُبطن – فها هو يعض عليها بالنواجذ ويسعى جاهدًا للسيطرة على حكم تونس متجاوزًا الدستور الذي أوصله لسدة الحكم، ما اعتبره كثير من التونسيين محاولة انقلاب على السلطة ومؤسسات الدولة.
أنا القائد الأعلى
محاولات الرئيس قيس سعيد للاستحواذ على كل الصلاحيات في البلاد ظهرت منذ أول يوم جلس فيه على كرسي الحكم، فلا يفوت فرصة إلا ويؤكد أنه قائد كل شيء والماسك بزمام الأمور في البلاد على عكس ما يضبطه الدستور.
في آخر إطلالة له، كان على العهد مع توجهه، فبلهجة حادة ظهر خلالها تشنج الرئيس، قال سعيد – مستغلًا الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي -: “أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية وللقوات المسلحة المدنية (الأمنية) ولكل أسلاكها”.
واستدرك بالقول “لا أميل لأن احتكر هذه القوات، لكن النص واضح، ومن لم يتضح له سنة 2014 فليكن هذا واضح منذ اليوم”، وكان من بين الحضور كل من رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.
محاولة قيس سعيد السيطرة على الأسلاك الأمنية، لا تظهر فقط في تأويله الفردي للدستور بل أيضًا في الرتب التي قلدها أمس القيادات الأمنية
قراءة للدستور، قال عنها رئيس الحكومة إنها قراءة فردية وشاذة وخارج السياق، ويُفهم من ذلك أن المشيشي غير راضٍ على تأويل الرئيس للدستور وفق الرؤية التي تناسبه، فقد استدل سعيد بتأويله لنص الدستور عبر مقارنته بين ما جاء في دستور البلاد لسنة 1959 ودستور 2014، مشددًا على أن الدستور القديم ورد فيه أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات العسكرية، بينما لم يحدد دستور 2014 ماهية القوات المسلحة التي يتولى قياداتها رئيس الجمهورية.
أطل علينا قيس سعيد مجددا منفلت الأعصاب، منتفخ الاوداج، جاحظ العينين، ليصرخ في وجوهنا: أنا الرئيس المطلق، أنا الواحد الأوحد وكل ما على هذه الأرض ملك يميني!
نهم مرضي للسلطة وتعطش عجيب للاستفراد والاستحواذ على كل شيء. الرجل يريد أن يجمع السلطات المدنية والعسكرية، والدنيوية . pic.twitter.com/PpW7HdY25U
— Lutfy Murabet (@LutfyMurabet) April 18, 2021
صحيح أن الفصل 77 من الدستور الذي استدل به سعيد لم يفصل ماهية القوات المسلحة، لكن الدستور يُقرأ منسجم، وبالعودة إلى الفصل 17 من نفس الدستور نجده يقول: “تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلحة، وقوات الأمن الوطني، ويكون ذلك بمقتضى القانون ولخدمة الصالح العام”.
هناك تجد أن القوات المسلحة وحدها والقوات الأمنية وحدها ويتضح ذلك أيضًا في الفصل 18 و19، أي أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية، بينما يختص رئيس الحكومة بالإشراف على وزارة الداخلية وجميع الأسلاك الأمنية المنضوية تحت لوائها.
استمالة قيادات أمنية
محاولة قيس سعيد السيطرة على الأسلاك الأمنية، لا تظهر فقط في تأويله الفردي للدستور بل أيضًا في الرتب التي قلدها أمس القيادات الأمنية، ذلك أننا رأيناه يقلد قيادات عليا في وزارة الداخلية برتب “فوق الرتبة”، منها المدير العام للأمن الوطني ونظيره في إدارة الحرس برتبة، يقول الصحفي التونسي حليم الجريري إنها غير موجودة ونادرًا ما بلغتها إطارات أمنية في تاريخ البلاد.
يقول الجريري في حديثه لنون بوست: “الإطار الأمني الذي يحمل زيًا نظاميًا لا يتعدى رتبة العميد، لكن الذي فاجأنا اليوم هو تقليد آمر الحرس ومدير الأمن بنجمة تزيد على الشعار والسيفَين، ليبلغا رتبة آمرَي لواء، وقد درجت العادة منذ تأسست الجمهورية التونسية أن آمر اللواء لا يكون إلا عسكريًا تابعًا للجيش الوطني يعود بالنظر إلى وزارة الدفاع لا الداخلية”.
ذكر الجريري أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بدأ اللحظة النوفمبرية بانقلاب استعمل فيه مدير الأمن وآمر الحرس ومدير الأمن الرئاسي، أي نفس العناصر التي تقرب منها الرئيس زُلفى صباح يوم أمس”، وفق تعبيره.
ويستبعد محدثنا أن يكون تكريم مدير الأمن الرئاسي عبر توسيمه بنيشان الجمهورية للاستحقاق من فراغ، فقد رجعت إلى مخيلتنا صورة رجال خلوا من قبل هؤلاء كانوا أدوات لبن علي لكي يفتتح عهدًا يعلمه الجميع وليس هذا المجال مجال تذكير به”، ولا يستبعد الصحفي التونسي أيضًا أن “يطل على التونسيين بن علي بقرنيه مرة أخرى بعد هذه القفزات والتحركات التي يقوم بها الرئيس التي تحرك فينا أكثر من سؤال بلا إجابة”، وفق قوله.
يختتم الجريري حديثه بالقول: “بعد زيارة الرئيس سعيد الغريبة والمريبة للرئيس المصري قائد أبشع انقلاب عرفته المنطقة العربية عاد وفي جعبته شيء من الإرادات المبطنة التي جعلت كل متابعي الشأن السياسي الداخلي يصلون بالتحليل إلى أنه يدبر شيئًا بليل”.
الاقتداء بالسيسي
بدوره يرى الناشط في المجتمع المدني سليم الهمامي أن زيارة قيس سعيد الأخيرة إلى مصر ولقائه قائد الانقلاب على مؤسسات الدولة المصرية عبد الفتاح السيسي وقاتل شعبه، بدأت تتضح نتائجها جليًا أمام التونسيين.
وبيّن الهمامي في حديثه لنون بوست، أن الحكم العسكري أثار إعجاب سعيد بتلك الإنجازات الوهمية التي يروج لها، على الرغم من المجازر والجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية وتصفيته مؤيديه من المدنيين قبل معارضيه.
#قيس_سعيد : رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية وكل الأسلاك الواردة في القانون
الزيارة لمصر بدأت تبدي مفعولها ?? pic.twitter.com/dI3WgdCt3d
— الرادار التونسي ???? (@tunisian_rd) April 18, 2021
هذه الزيارة دفعت سعيد وفق قول الهمامي إلى مغازلة قوات الأمن الداخلي في عيدهم الخامس والستين، خاصة في ظل تيقنه من حياد المؤسسة العسكرية التونسية وولائها الكامل للوطن وابتعادها عن السياسة منذ الثورة إلى الآن.
يعد الجيش التونسي ذو العقيدة الجمهورية الاستثناء العربي الوحيد، بانحيازه لإرادة الشعب والتزامه الثكنات وتعففه عن السلطة
تظهر المغازلة في حديثه عن مشروع قانون زجر الاعتداء على الأمنيين واتهامه البرلمان بتعطيل تمريره، وبتأويله الضيق والأحادي لنص دستور الجمهورية الثانية بتنصيب نفسه قائدًا لكل القوات الحاملة والمخول لها حمل السلاح.
يؤكد محدثنا أن الرئيس التونسي بدا في خطابه أمس طامعًا في السلطة ومستأثرًا بها، زاهدًا في الثورة التونسية وما أفرزته بدءًا بدستور 2014 وهذا ما ظهر عندما غيب اسم من وقع عليه في حين ذكر من وقع على مسودة دستور 1959 ومن وقع على نسخته النهائية.
أضغاث أحلام
يستدرك سليم الهمامي بالقول “إرادة استنساخ التجربة المصرية وإسقاطها في تونس لن تكون إلا أضغاث أحلام، خصوصًا أنه في تونس لا وجود لنفس الأرضية الشعبية ولا العسكرية رغم تشابه الفاعلين في الساحة السياسية، ولعل أحسن الأدلة على ذلك ردود فعل يساريين معروفين ومستقلين يشهد لهم بالحياد على كلمته وضيق تأويله للنص الدستوري”.
لا يبدو أن الرئيس – الذي أقسم على الحفاظ على وحدة تونس واحترام الدستور والسهر على حماية مصالحها يوم تقلد السلطة – سينجح في مسعاه للانقلاب على السلطة، رغم محاولاته المتكررة لفرض رؤيته الأحادية بطرق شتى وفي أماكن عدة اختار التونسيون في السابق أن تبقى مستقلة بعيدة عن التجاذبات الحزبية.
فقبل أن يتوجه للقوات الأمنية، توجه سعيد إلى الجيش الوطني، وعمل على الاستقواء بالمؤسسة العسكرية والزج بها في معارك السياسة، محاولًا مدحها مقابل الإمعان في ترذيل الأحزاب السياسية والتشكيك في نزاهتها وجدوى وجودها في ظل تواصل الأزمات التي تعرفها تونس منذ سنوات عدة، وهو ما لم يفعله أي رئيس تونسي ورئيس حكومة منذ سقوط نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011.
حاول سعيد استمالة الجيش وفشل في ذلك، فالجيش التونسي الذي لم يعمل سابقًا في السياسة وبقي محايدًا عكس باقي الجيوش في المنطقة العربية كمصر وسوريا، لن يُغامر بالتدخل في الشأن السياسي وسيظل وفيًا لعقيدته العسكرية التي تُحجر عليه التدخل في العمل السياسي وتفرض عليه واجب الحياد.
يعد الجيش التونسي ذو العقيدة الجمهورية الاستثناء العربي الوحيد، بانحيازه لإرادة الشعب والتزامه الثكنات وتعففه عن السلطة عكس بعض الجيوش العربية التي اختارت الانقلاب على إرادة شعوبها عوض حمايتها والذود عنها.
منذ توليه رئاسة البلاد يحاول قيس سعيد جاهدًا التأكيد أنه يحكم البلاد بالجيش والأمن كما كان عليه الوضع زمن بن علي وبورقيبة، ولا أحد له أن يعترض ذلك، وما على الجميع إلا الطاعة، وهو ما لاقى رفضًا كبيرًا من غالبية التونسيين، فهم يرفضون أن تُمس مؤسسات بلادهم وتُضرب ديمقراطيتهم التي ضحى من أجلها مئات التونسيين بأرواحهم.