يجلسون في صحن الأزهر في صورة حلقات متتابعة، يتلون القرآن بأصوات خافتة، يتدارسون الحديث والعلم الشرعي، زي واحد، وحقائق متشابهة، يستقبلون الوافد عليهم بابتسامة حانية، وبتحية الإسلام بصوت عال، يقبعون في أماكنهم بالساعات الطويلة، أحيانًا من صلاة الظهر حتى العشاء دون كلل أو ملل.
اقتربنا من أحدهم بينما كان يقرأ في كتاب عن قواعد اللغة العربية، تبادلنا التحية، عرّف نفسه “أنا محمد من كولالمبور” ثم ارتكنا معًا تحت أحد أعمدة الجامع الأزهر نتبادل أطراف الحديث، حياته في مصر، علاقته بالمصريين، دراسته في الأزهر، أحلامه التي يتمنى تحقيقها، وأخيرًا الصعاب التي تواجهه في المحروسة.
الجالية الماليزية في مصر.. إحدى أكبر الجاليات الآسيوية عددًا، لا سيما على مستوى الطلاب والدارسين الذين يأتون للمحروسة ليس للعلم الشرعي فقط كبقية الجاليات الأخرى، وإنما في شتى مجالات العلوم والطب والهندسة وغيرها، فيما يتوزعون على الكثير من المحافظات المصرية على عكس الآخرين الذين يتمركزون أكثر في العاصمة.
15 ألف طالب في الجامعات المصرية
تتمثل الجالية الماليزية المقيمة في المحروسة بطلاب العلم من الباحثين والدارسين في الجامعات المصرية، والبالغ عددهم 11 ألف طالب بحسب سفير ماليزيا بالقاهرة، داتو كو جعفر كو شعاري، فيما ذهب جمال متولى، سفير مصر فى ماليزيا وبروناى إلى أن العدد يتجاوز الـ 15 ألف.
يتمركز الطلاب الماليزيون في 7 جامعات مصرية (الأزهر وعين شمس والإسكندرية والقاهرة والمنصورة وطنطا والزقازيق)، وعلى عكس عادة الآسيويين فإن أكثر من 60% من طلاب ماليزيا يدرسون الطب وطب الأسنان والصيدلة، في حين أن بقية الطلاب يتابعون تعليمهم في الدراسات الإسلامية.
يسكن طلاب الدولة الآسيوية إلى جانب مدينة البعوث بمدينة نصر بالقاهرة في منطقة مخصصة لهم تتكون من 14 مبنى سكنيًا على الطراز الماليزي، طبقًا لعدد ولايات الدولة البالغ عددها 14 ولاية، فلكل ولاية مبنى خاص بها وبطلابها، وكل ذلك تحت إشراف ورعاية السفارة الماليزية في القاهرة.
ويرتبط الماليزيون بالأزهر ارتباطًا وثيقًا، فهو قبلتهم التي تشتاق الأعين لزيارتها، كما أن له مكانة كبيرة في نفوس الشعب بمختلف طبقاته، وتعود دراسة الماليزيين بالأزهر إلى عقود طويلة مضت حين كانوا يدرسون مع أبناء جنوب شرق آسيا فى رواق جاوة الذى بدأ بستة طلاب فقط قبل أن يتجاوز الآلاف اليوم.
ففي سبتمبر/أيلول 1985 زار فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق – رحمه الله – ماليزيا لافتتاح المركز الإسلامى بكوالالمبور، على هامش المشاركة فى المؤتمر الإسلامى الذي عقد في ذلك الوقت بحضور رئيس الوزراء مهاتير محمد.
ومنذ ذلك الحين تعززت البعثات العلمية الماليزية القادمة لدراسة العلوم الشرعية في الأزهر، عامًا تلو الآخر، ليصل عدد من تخرج في تلك الجامعة المصرية العالمية من أبناء ماليزيا فقط أكثر من 70 ألف خريج منذ الخمسينيات وحتى الآن، كان لهم دور محوري في دعم قاطرة النهضة العلمية في بلادهم.
بين العلوم الشرعية والدنيوية
بالقرب من مسجد الخازندار يقع معهد قراءات شبرا التابع لجامعة الأزهر، ويدرس في هذا المعهد العشرات من الطلاب الماليزيين الساعين لقراءة القرآن بقراءاته المختلفة، للعودة مرة أخرى لبلادهم لتعليمه لأبناء وطنهم من جانب أو السفر لإحدى الدول الأوروبية لتدريس فنون قراءة القرآن في أي من المراكز الإسلامية هناك.
عبد الله.. طالب من مدينة “كلانج” الماليزية (غرب) قدم إلى الدراسة بالمعهد رفقة شقيقه منذ عامين، يسكنان في المباني المخصصة لهم والتابعة للسفارة الماليزية، ويقطعان يوميًا تلك المسافة الطويلة من مدينة نصر إلى شبرا بالقليوبية من أجل تلقي الدروس.
يقول الطالب الماليزي: “يحتل الأزهر لدينا مكانة كبيرة، والدراسة به شرف عظيم يتمناه أي طالب مسلم، لذا كان هو الاختيار الأول لتلقي ودراسة ألسنة القرآن السبعة”، وتابع “هذا بجانب أن الشعب المصري من أكثر الشعوب المصرية امتصاصًا للوافدين من كل الدول، فلا تشعر أنك في بلد غريب عنك”.
وأضاف أن الدراسة رغم ما بها من صعوبات لا سيما التعليم باللغة العربية العامة من بعض العلماء، فإنها دراسة ممتعة وشيقة على حد قوله، منوهًا أن كل أفراد أسرته البالغ عددهم 7 أفراد تلقوا العلم في مصر، 4 منهم في الأزهر و3 في جامعتي القاهرة وعين شمس لدراسة الطب والصيدلة.
ويشير شقيقه زاهي، الطالب بكلية الطب، جامعة القاهرة، إلى أن القصر العيني في مصر من أقدم كليات الطب في العالم، وله شهرة واسعة في آسيا تحديدًا، هذا بجانب أنه يمتلك كل التخصصات ولديه نخبة متميزة من الأساتذة والاستشاريين.
ويوضح الطالب الماليزي أنه كان يتمنى الالتحاق بكلية الطب جامعة الأزهر لكن شرط إجادة اللغة العربية من أجل الانضمام للجامعة حال دون ذلك، ما دفعه لتقديم أوراقه بكلية طب القصر العيني، وعلى مدار العامين الماضيين أتقن زاهي اللغة العربية جيدًا، حتى العامية منها.
الوطن.. الغائب الحاضر
يحرص الماليزيون في المحروسة على الإبقاء على تراث وطنهم حيًا في حياتهم، فهو باعث الدفء الأكبر ومنبع الصبر على الغربة بحسب بعضهم، لذا تحول بيت الطلبة الماليزيين الموجود في حي العباسية بالقاهرة إلى ساحة لممارسة الطقوس والعادات المالزيية بأريحية كاملة.
حزمة من الأنشطة الترفيهية والاجتماعية والثقافية، بجانب إقامة المؤتمرات بشتى أنواعها، يشهدها هذا الكيان، علاوة على تحوله وقت الأعياد والمناسبات الوطنية إلى ساحة كبيرة لتجمع الجالية الماليزية وتبادل الآراء والمقترحات بشأن كل القضايا والملفات التي تخص أعضاءها.
البيت كذلك هو حلقة الوصل بين السفارة والطلاب والسلطات المصرية، في محاولة لحل أي مشكلات من الممكن أن تواجه الدراسين الماليزيين، لا سيما تلك المتعلقة بالأوراق الثبوتية والتقارير الأمنية وتصاريح الإقامة، التي تمثل عقبةً كبيرةً وصداعًا مزمنًا في رأس آلاف الطلاب.
السفارة الماليزية الواقعة بمنطقة الوايلي بالقاهرة تحاول هي الأخرى عبر العديد من الأنشطة الثقافية والمجتمعية أن تنقل التراث الوطني لبلادها للمصريين، هذا بخلاف المعارض الثقافية والفنية التي تقيمها ويكون لها صدى كبير، خاصة في ظل التقارب المجتمعي بين المصريين والماليزيين.
أوضاع معيشية صعبة
رغم الحالة الاقتصادية الجيدة نسبيًا للدولة الماليزية، وإن تراجعت معدلات النمو خلال الآونة الأخيرة، فإن الجالية الماليزية في مصر تعاني من أوضاع معيشية صعبة للغاية، الأمر الذي يصعب عليهم إقامتهم في الغربة، بخلاف أن عدم امتلاك قيمة تذكرة الطيران يحول دون عودة الكثير منهم لبلاده لعدة سنوات.
الطلاب تحديدًا يحصلون على إعانات ومساعدات من السفارة – تحت بند أموال الزكاة – تقدر بنحو 1500 جنيه مصري شهريًا (95 دولارًا)، هذا بجانب إعفائهم من رسوم الدراسة بجامعة الأزهر وفق بروتوكول موقع بين الجامعة المصرية والحكومة الماليزية بألا يتحمل الطلاب إلا أعباء المصاريف المعيشية وإيجار السكن.
ارتفاع الأسعار منذ 2016 عقب قرار التعويم كان له تأثيره الكبير على الوضع المعيشي للجاليات الأجنبية في مصر عمومًا، فقد ارتفعت الإيجارات بصورة كبيرة، بخلاف أسعار السلع والخدمات التي قفزت بنسب تزيد على 200% أحيانًا، فيما ظلت المساعدات المقدمة من السفارة كما هي دون زيادة تناسب الأسعار.
“منذ 3 أعوام لم أتمكن من السفر لزيارة الأسرة في كولالمبور إلا مرة واحدة فقط، بسبب ارتفاع أسعار تذكرة الطيران التي قفزت بصورة كبيرة، حيث تجاوزت 10 آلاف جنيه ذهاب وعودة”، هكذا علق يسري الطالب بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر على الوضع المعيشي له في مصر.
وأضاف أن حلمه أن يعود لبلاده وهو حامل شهادة التخرج الأزهرية، التي لها تقدير كبير لدى وزارة التعليم الماليزية، ومن ثم يكون لخريجي الأزهر الأولوية في التعيينات الحكومية هناك، هذا بجانب فرص العمل الأخرى التي تفتح أمامهم في مراكز تعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية في ماليزيا.
العنصرية وتراخيص الإقامة.. أبرز التحديات
يواجه الوافد الآسيوي عمومًا في مصر عددًا من الصعاب أبرزها العنصرية التي قد يتعرض لها من بعض المصريين، ورغم أنهم قلة، فإن وقع ممارساتهم سلبيًا جدًا على نفوس الوافدين الأجانب في المحروسة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال شهادات بعضهم.
“ربما جسدي النحيل نسبيًا، أو التزامي حال دون التماشي مع الضجيج والصخب المنتشر في الشارع المصري، هذا بجانب قصر القامة الذي يتميز به أبناء دول جنوب شرق أسيا على رأس أسباب الممارسات العنصرية التي نتعرض لها”، بهذه الكلمات عبر توفيق عن حالة الضجر التي يعاني منها بين الحين والآخر خلال إقامته في مصر.
ويضيف “رغم أن معظم الشعب المصري مضياف وكريم ويتعامل معنا كأننا أبناء هذا الوطن ولسنا وافدين عليهم، فإن شرذمة منهم هي من تشوه الصورة”، وتابع “أحيانًا كنا نتوجه لمراكز الشرطة لتقديم بلاغات ضد بعض المتنمرين وكان يتم التعامل معها بجدية فيما كان يقدم لنا المسؤولون اعتذارات متتالية، لكن في الغالب نتجنب هذا الأمر خشية التعرض لأي انتقام منهم بعد ذلك”.
ومن أكثر العراقيل صعوبة، استخراج تراخيص الإقامات وتجديدها، وهو أمر شاق للغاية بالنسبة لأبناء الجاليات عمومًا، في ظل ما تعاني منه المنظومة من بيروقراطية موروثة منذ عقود طويلة، ورغم التطورات التكنولوجية التي لحقت بهذا القطاع (قطاع التراخيص والإقامات)، فإنها لم تكن على المستوى المأمول.
هذا بخلاف التضييقات الأمنية أحيانًا التي تنشط أوقات التوتر والأزمات، لكنها في المجمل وفق ما ذهب الكثير من الماليزيين “تضييقات مقبولة” ويمكن تفهمها في إطار حالة القلق التي تحياها الدولة المصرية خلال السنوات الماضية، لكن هذا لا ينفي تجاوز البعض معهم وتعقيد الأمور إلى الحد الذي قد يصل إلى شهور دون الحصول على إقامة رغم استيفاء كل الشروط.
وفي الأخير.. فإن الأجواء الدافئة التي يشعر بها الماليزيون في مصر، بجانب حالة التلاحم بين أبناء الوطن، والتمسك بطقوس وعادات مجتمعاتهم، كان لها دور كبير في التقليل من مشاعر الغربة التي ربما يشعر بها غيرهم في بلدان أخرى، وهو ما يجعل مصر قبلةً دائمةً لهم مهما كانت الصعاب التي تواجههم.