احتضنت الأناضول على مر العصور العديد من الحضارات المختلفة التي أحدثت أثرًا في طريق تقدم البشرية، تاركة كنوزًا من الإرث الفني والمعماري خلفها، فأصبحت بمثابة متحف مفتوح يجتذب علماء الآثار المختصين منهم والهواة من كل مكان، وكذلك أصحاب الأطماع والمهرّبين. بحسب مجلة فكريت التركية، جرى تهريب 150 ألف قطعة أثرية بطرق غير شرعية من تركيا، إلى وجهات متفرقة ما بين دول أوروبا والبلقان والولايات المتحدة وبريطانيا.
نستعرض في هذا المقال قصة الآثار المهربة من تركيا والمعروضة في المتحف البريطاني بالعاصمة لندن، والذي يعد من أوائل المتاحف في العالم، حيث افتُتح عام 1753 ويضم داخل بنيانه ما يزيد عن ثمانية ملايين قطعة أثرية من مختلف البلاد، من بينها آثار تركية يعود تاريخها إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام.
آثار مدينة طروادة العتيقة
في الثاني والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، نظِّم معرض باسم “طروادة بين الميثولوجيا والواقع” في قاعة خاصة بالمتحف البريطاني، عرضت فيه ما يقرب من 300 قطعة أثرية مهربة من مدينة طروادة القديمة التي تعود لحضارة الهتيت -الحيثيون كما يطلق عليها بالعربية- والواقعة في غرب شمال جبل القاز بمدينة تشاناق قلعة التركية.
اكتشفَ هذه المدينة عالم الآثار الهاوي ورجل الأعمال هاينريش شليمان، مسترشدًا بـ”إلياذة” هوميروس التي تحدثت عن حرب طروادة. بدأ شليمان في إخراج هذه القطع سرًّا على ثلاثة أجزاء إلى اليونان عام 1868، ثم انتقلت بعد وفاته إلى بلده الأمّ ألمانيا. إبان الحرب العالمية الثانية، أخذ الجنود الروس بعض القطع الذهبية والمجوهرات الموجودة بين تلك الآثار وأحضروها إلى موسكو حين عودتهم. وتفرقت بقية القطع بين متحف برلين في ألمانيا، والمتحف القومي في الدنمارك، ومتحف أشموليان في إنجلترا، ثم جمعت مرة أخرى لتعرض في المتحف البريطاني. وتتنوع قطع هذه المجموعة الأثرية التي يعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام، ما بين أوانٍ خزفية وفضية وأسلحة من النحاس وتماثيل وتوابيت.
آثار كسانتوس المصنوعة من المرمر
أُسست مدينة كسانتوس الأثرية عاصمة الحضارة الليسية التي أقيمت على أرض الأناضول، والتي جرى ضمها إلى التراث العالمي لليونسكو عام 1988، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد حسب هيرودوت. وتقع تلك المدينة حاليًّا في مقاطعة قاش بمدينة أنطاليا التركية، واكتشفها عالم الآثار البريطاني تشارلز فيلوز في نهايات عام 1839، وقد استمر الحفر بتلك المنطقة حتى عام 1844.
وحسب فيلوز، فإنه أقنع السلطان عبد المجيد عام 1842 بإرسال 78 صندوقًا يحوي بعضًا من القطع الأثرية إلى المتحف البريطاني، لحمايتها في مكان آمن نظرًا إلى أهميتها، وبإصدار فرمان بخروج تلك الآثار، لكن بحسب مجلة فكريت التركية فإن إدارة أرشيف الدولة التابعة لرئاسة الوزراء التركية، نفت تلك الادعاءات بعد مراجعتها لآلاف الفرمانات التي تخص إدارة الدولة العثمانية في تلك الفترة، بل أفادت تلك الفرمانات بأن الدولة العثمانية كانت تحاول تعقب هذه الآثار التاريخية المهربة كي تعيدها.
تضم هذه الآثار العديد من القطع ذات القيمة الفنية، مثل معبد حوريات البحر الذي يتكون من اثني عشر هيكلًا، بجانب العواميد والقواعد والحوائط ذات النقوش المحيطة بها، ويعتقد أن هذا الأثر البديع يعود إلى ما بين عامي 420 و390 قبل الميلاد. كما يعد واحدًا من أهم آثار الحضارة الليسية سواء من الناحية الفنية أو القيمة التي يمثلها، فقد كان يعتقَد أنه يحمي المدينة في ذاك العصر حسب تصورات سكّانها، وهناك أيضًا تابوت بايافا الذي يعود إلى ما بين عامي 375 و362 قبل الميلاد، لكن بعض الباحثين يعتقدون أنه يعود إلى ما قبل عام 360.
ويخص هذا التابوت أحد ملوك الليسيين الذي حمل لقب بايافا، ويبلغ طول التابوت سبعة أمتار، وعرضه ثلاثة أمتار ونصف. وتكمن أهمية هذا التابوت في غرابته، فلم يجد الباحثون أي معلومات عن هذا الحاكم إلا اسمه، كما أن النقوش المرسومة على التابوت استخدمت في الحضارتين اليونانية والفارسية.
وإلى جانب العديد من التوابيت والقطع الأثرية، هناك أيضًا هيكل مخلوق الهاربي الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو نصف امرأة ونصف طائر، ووفقًا لبعض الأساطير فإن الهاربيز هي رسل العالم السفلي التي تسرق الأطفال وأرواح الناس. وتشير التقارير إلى أن بعض هذه القطع قد خرج سليمًا وبعضها تم تفكيكه للتمكن من نقله.
آثار مدينة كنيدوس
على بحر إيجة جنوب غرب تركيا، بدأ عالم الآثار الإنجليزي تشارلز نيوتن بين عامي 1856 و1857 بأعمال الحفر في المنطقة الواقعة حاليًّا ضمن مقاطعة داتشا التابعة لمدينة موغلا، والتي كانت تسمى في تلك الأثناء هاليكارناس. وهناك عثر على مدينة كنيدوس القديمة التي تعود إلى 2500 سنة قبل الميلاد، حيث كانت تشكل موقعًا استراتيجيًّا يضم مينائين، ساعد على وجودهما التقاء البحر المتوسط وبحر إيجة، ما جعلها واحدة من أهم المدن القديمة من الناحية التجارية والاقتصادية والعلمية والفنية، لتحتوي على واحدة من أقدم كليات الطب في العالم، ولذلك وجد بها تشارلز وفريقه العديد من الآثار المهمة التي عززت من أطماعهم في نقلها إلى إنجلترا، ومن أهمها المقبرة ذات هيكل الأسد التي تزيّن مدخل المتحف البريطاني بالإضافة إلى عدد من المعابد والمسارح.
وقد أشرف نيوتن على أعمال التنقيب في جميع أنحاء المنطقة حتى اكتشف مقبرة الملك موسولوس، والتي تعد إحدى عجائب الدنيا السبع، واستولى منها على التماثيل والنقوش التي تعود إلى المقبرة. إلى جانب ذلك هناك العشرات من التماثيل والأفاريز والنقوش ولوحات الفسيفساء التي تعود لمدينة زويجما، نقلها نيوتن وفريقه إلى بريطانيا قبل مئتي عام. وقد شارك السفير الإنجليزي في إسطنبول في ذلك الوقت، لورد إلجين، في عملية بيع ما يقرب من مئتي صندوق من تلك الآثار للبرلمان الإنجليزي، وتعرَض اليوم في المتحف البريطاني مع بعض التماثيل الذهبية والرخامية التي تعود لحضارتَي الحيثيين والهلنستية التي أقيمت على أرض الأناضول.
قصة طويلة وقديمة بدأها علماء الآثار من جميع أنحاء العالم، بحثًا عن أثر تلك الحضارات التي عاشت على الأراضي التركية على مدار آلاف السنين، حيث سمحت الدولة العثمانية منذ بداية القرن التاسع عشر لأولئك المهتمين بالتنقيب في تلك المناطق التي لم يحاول أحد في السابق فك شيفرة من سكنوها، لكن تلك الفترة التي بدأ معها خفوت سيطرة الدولة العثمانية، سمحت للكثيرين من هؤلاء باستغلال هذه الآثار لمنافع شخصية، في ظل عدم وجود قوانين تنظم عملية التنقيب هذه.
لكن منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، تحاول اللجان والمؤسسات التركية بذل أقصى جهدها لتعقب هذه الآثار واستعادتها، وقد نتج عن ذلك استعادة أكثر من 4500 قطعة أثرية من أوروبا وأميركا ما بين عامي 2004 والعام الماضي 2020.