تتجه الأوضاع السياسية في تونس إلى مزيد من التعقيد خاصة بعد تصريحات الرئيس قيس سعيد المثيرة للجدل واحتكاره تأويل الدستور وفق الرؤية التي تخدم توجهه بعيدًا عن مصلحة البلاد، ورد حركة النهضة – صاحبة الأغلبية النيابية – على الرئيس واتهامه بالجنوح نحو التسلط، ما يوحي بقطيعة قادمة بين النهضة والرئيس.
النهضة تصعّد الخطاب
اتهمت النهضة في بيان لها – موقع باسم راشد الغنوشي – الرئيس قيس سعيد بتهديد الديمقراطية، مؤكدة رفضها “المنزع التسلطي لرئيس الدولة”، على خلفية خطابه الأخير الذي أكد فيه أنه القائد الأعلى للقوات العسكرية والمدنية (قوات الأمن الداخلي).
ورأت حركة النهضة في بيانها أن هذا الأمر يشكل “دوسًا على الدستور وقوانين البلاد وتعديًا على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة”، وينص الفصل 17 من الدستور على أن “تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلحة، وقوات الأمن الوطني، ويكون ذلك بمقتضى القانون ولخدمة الصالح العام”.
في هذا النص نجد أن القوات المسلحة وحدها والقوات الأمنية وحدها ويتضح ذلك أيضًا في الفصل 18 و19، أي أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية، بينما يختص رئيس الحكومة بالإشراف على وزارة الداخلية وجميع الأسلاك الأمنية المنضوية تحت لوائها.
هذا البيان القوي الصادر عن حركة النهضة وتصريحات قياداتها تجاه الرئيس، رأى فيه العديد من التونسيين إعلان قطيعة تامة بين الطرفين
لم تتوقف النهضة عند رفض “منزع الرئيس التسلطي”، بل دعت أيضا القوى الديمقراطية إلى رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية، كما دعت الحركة التي تتهم سعيد بعرقلة تشكيل المحكمة الدستورية الرئيس إلى أن يتوقف عن كل مسعى لتعطيل دواليب الدولة وتفكيكها.
بدوره اعتبر رئيس مجلس الشورى في حركة النهضة عبد الكريم الهاورني أن رئيس الجمهورية قيس سعيد هو “مشروع ديكتاتور”، وأوضح الهاروني في حوار إذاعي أن هناك محاولات داخل قصر قرطاج بمساندة أقلية في البرلمان وقوى خارجية لصناعة مشروع ديكتاتور، مشددًا على أن النهضة موقفها هو الدفاع عن رئيس الدولة وليس مهاجمته.
من جانبه اعتبر الناطق باسم حركة النهضة فتحي العيادي أن ما يفعله الرئيس قيس سعيد هو “محاولة ناعمة للانقلاب على الدستور”، وأوضح العيادي خلال مشاركته في برنامج على قناة الجزيرة مباشر، أن سعيد “يسعى للدفع بالأجهزة الأمنية والعسكرية والزج بها في أتون السياسة بدلًا من السعي لجعل هذه المؤسسات تقوم بدورها المحايد المتمثل في الدفاع عن مؤسسات البلاد وحمايتها”.
القطيعة التامة
هذا البيان القوي الصادر عن حركة النهضة وتصريحات قياداتها تجاه الرئيس، رأى فيه العديد من التونسيين إعلان قطيعة تامة بين الطرفين، حيث يقول المحلل السياسي التونسي سعيد عطية، “كان واضحًا منذ مدة تدهور العلاقة بين الرئيس وحركة النهضة وتعددت “الكلاشات” من هنا وهناك”.
يضيف عطية في حديثه لنون بوست “كان قيس سعيد يصر في كل مناسبة على مهاجمة النهضة دون أن يسميها بالاسم واكتفت الحركة بردود عنيفة صادرة عن بعض قياداتها أو بعض المثقفين الذين يدورون في فلكها، لكن جاء البيان الحاد للحركة بالأمس كتطور لافت للانتباه”.
بيان: #حركة_النهضة تدعو السيد #رئيس_الدولة إلى الالتزام الجادّ بالدستور الذي انتخب على أساسه وأن يتوقّف عن كل مسعى لتعطيل دواليب #الدولة وتفكيكها??https://t.co/hLrThDPzBG
— حزب حركة النهضة (@NahdhaTunisie) April 20, 2021
هذا البيان الرسمي الأول للحركة الذي يهاجم الرئيس علانية، وفق سعيد عطية، ويتهمه ضمنيًا أنه بصدد التمهيد لتأسيس ديكتاتورية والانقلاب على النظام السياسي وعلى الدستور، ويرى عطية أن هذا البيان دليل إضافي على حالة القطيعة التامة بين الطرفين.
من جهتها أكدت الصحفية التونسية ملاك القاطري لـ “نون بوست” أنها تقرأ من بيان النهضة الأخير تغييرًا في إستراتيجية الحركة الاتصالية في علاقة بخطابات الرئيس، فخطابها الأخير ينذر بحرب كلامية لها تبعاتها على استقرار البلاد، وفق قولها.
خطوة منتظرة
تصعيد النهضة ضد الرئيس لم يأت من فراغ وفق الإعلامي مختار غميض، فقيس سعيد يتنصل من المؤسسات وحتى من وعوده في حملته الانتخابية وهذا بات جليًا خاصة منذ رفضه أداء القسم على التعديل الحكومي الذي أجري على تشكيلة المشيشي.
يضيف غميض في حديث لنون بوست “سعيد بات يتنصل من كل التزاماته، وأصبح رهين حلقة ضيقة في القصر الرئاسي وربما ضغوط دولية يمكن فهمها خاصة بعد عودته مؤخرًا من زيارة مطولة لديكتاتور مصر ثم حديثه بخطاب التهديد والوعيد باحتكار كل المناصب العسكرية والمدنية”.
هذا الأمر سيعمق خوف التونسي من المستقبل، فكل شي أصبح متوقعًا وربما يعود الشارع للتحرك
“هذه الممارسات غير المطمئنة”، وفق تعبير الإعلامي التونسي، بثت مخاوف كبيرة في قلوب التونسيين فقد أصبحوا غير مطمئنين على مؤسساتهم دولتهم التي أصبحت مخترقة، بما فيها المؤسسة القضائية، على حد قوله.
#قيس_سعيد يمثل خطرا على الدولة وعلى الثورة والحرية ليس على النهضة أو إئتلاف الكرامة.
— الرادار التونسي ???? (@tunisian_rd) April 19, 2021
ومنذ توليه الحكم، عرفت سياسة الرئيس سعيد انحرافًا كبيرًا وفق العديد من التونسيين داخليًا وخارجيًا، فقد عمل على تعطيل التعديل الوزاري الذي قام به المشيشي وتعطيل إرساء المحكمة الدستورية والتعدي على الدستور وزج الجيش والأمن في الصراعات السياسية وزج تونس أيضًا في تحالفات إقليمية معادية للثورة واتباع سياسة الكرسي الشاغر في المحافل الدولية.
تعميق الأزمة السياسية
هذه القطيعة بين النهضة والرئيس، ستعمق الأزمة بين الرئاسات الثلاثة، وفق ملاك القاطري، الأمر الذي سيهدد استقرار تونس وسيعطل الإصلاحات الكبرى المنتظرة ومشاغل التونسيين خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيش على وقعها البلاد منذ فترة.
بدوره يرى سعيد عطية أن بيان النهضة مع تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة قد ينسف مبادرة اتحاد الشغل للحوار من أساسها، وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد عرض في ديسمبر/كانون الأول الماضي على قيس سعيد مبادرة تنص على إطلاق حوار وطني يضم كل الجهات الوطنية والسياسية “لإيجاد حلول سياسية واقتصادية واجتماعية للوضع الراهن في بلادنا”، إلا أن الرئيس لم يحسم أمره بخصوصها بعد.
كم خيّب #قيس_سعيد_ارحل أملنا. جسّد فوزه انتصار الربيع العربي على الثروة المضادة، لكن شعبويته تكاد تودي بالاستثناء التونسي، تهديده بالانقلاب إلى درجة الحديث عن الاستشهاد لا يدل على شجاعة فالرجل حافظ على صمته وجبنه أيام الدكتاتورية. اليوم يستأسد على المؤسسات التي يفترض أن يحميها.
— ياسر أبوهلالة (@abuhilalah) April 19, 2021
في نفس السياق يقول مختار غميض: “كنا نعتقد أن الرئيس سعيد سيكون جيدًا لحلحلة الأوضاع وتسهيل تمرير القوانين، لكن يبدو أنه مصر على كسر وحدة المؤسسات، والأخطر من ذلك أن الرئيس ظل يحارب طواحين الهواء دون أن يقدم خريطة طريق واضحة يمكن تقييمها أو دراسة جدواها”.
هذا الأمر سيعمق وفق غميض خوف التونسي من المستقبل، فكل شيء أصبح متوقعًا وربما يعود الشارع للتحرك وهو أمر خطير جدًا يجب التنبيه إليه، ذلك أنه قد يدفع نحو منزلقات غير مطمئنة، ما يدفع مختار غميض إلى التنبيه من خطورة الوضع وفق قوله، هو رفض الرئيس للحوار والمشاركة فيه رغم ظهور بوادر جدية من حركة النهضة واتحاد الشغل لذلك.
في مقابل ذلك يؤكد سعيد عطية أنه من الصعب التنبؤ بالمستقبل خاصة أن الساحة السياسية التونسية كثيرًا ما توصلت لتسويات بدت في البداية مستحيلة، لكن المؤكد وفق عطية أن البلد قادم على عواصف سياسية، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار شخصية رئيس الجمهورية ومحيطه الحاليّ في هذه الحالة فإن ما يسمى “بالتوافق التونسي” يبدو صعب المنال.