في الساعات الأخيرة، انتشرت أنباء كثيرة عن تعرض موقع مفاعل ديمونا النووي في “إسرائيل” إلى هجوم صاروخي مجهول دون وقوع أضرار مادية، ونظرًا إلى خطورة الموقع وجدّة الهجوم، فإن التحليلات والتصريحات اختلفت كثيرًا في تحديد هوية الفاعل، وملابسات الواقعة، وطريقة الرد المناسبة والمتوقعة على هذا الهجوم.. فماذا حدث؟
المتهم الأول
في البداية، قالت مصادر مقربة من جيش الاحتلال الإسرائيلي وموقع واي نت العبري، إن هذا الصاروخ انطلق من قطاع غزة المحاصر، عبر إحدى فصائل المقاومة التي تمتلك صواريخ “أرض – أرض” متقدمة، في سياق محاولة الفصائل بين الحين والآخر كسر الهدنة القائمة بينها وبين الاحتلال، بسبب تقاعس الأخير عن منح سكان القطاع التسهيلات الحياتية اللازمة، لا سيما في ظل أزمة كورونا.
استند هذا التحليل الأولي على عدة شواهد، من بينها حدوث تصعيد خلال الأيام القليلة الماضية، قامت الفصائل خلاله بقصف المستوطنات الجنوبية للاحتلال، وقام سلاح الجو الإسرائيلي خلاله بقصف لمواقع قال إنها تابعة للفصائل المسلحة من القطاع.
المراسلون العسكريون المختصون في تغطية الشؤون الإسرائيلية، قد اعتادوا على أنّ التصعيد الصاروخي، عادةً، يكون قادمًا من الجنوب بقطاع غزة المحاصر.
من بين الشواهد التي رجحت اضطلاع الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة المحاصر بهذا الهجوم الصاروخي على ديمونا وفقًا للمعطيات التحليلية الأولية، هو وضع الفصائل الفلسطينية، خاصة ما يعرف بغرفة العمليات المشتركة، فإنّ هذا الموقع، إضافة إلى مواقع أخرى مثل منصات الغاز في البحر المتوسط، ضمن ما يعرف بـ”بنك الأهداف الاستراتيجية” الذي يفتح لردع العدو عن ضرب المواقع المدنية والاستراتيجية في القطاع.
من زاوية أخرى، إن المراسلين العسكريين المختصين في تغطية الشؤون الإسرائيلية، قد اعتادوا على أن التصعيد الصاروخي، عادةً، يكون قادمًا من الجنوب بقطاع غزة المحاصر، خاصة أن الهدف (ديمونا) يقع جنوب الأراضي المحتلة، وذلك في ظل هدنة ممتدة منذ عام 2006 مع حزب الله اللبناني، باستثناء تصعيدات عارضة لا يستخدم فيها الحزب سلاح الصواريخ، إلى جانب احتفاظ الجانب السوري بـ”حق الرد” على الهجمات الإسرائيلية في أراضيه، ما عزز احتمالية أن يكون القصف قادمًا من قطاع غزة المحاصر، لا غيره.
استبعاد غزة
بعد وقت قليل من الحادث، بدأ المراسلون العسكريون في المواقع العبرية المتخصصة، مثل مراسل القناة 13 العبرية في الجنوب، يستبعدون فرضية انخراط قطاع غزة المحاصر في هذا التصعيد، بناءً على “معلومات ميدانية” سربها عناصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى هذه المصادر.
طرح هذا النفي سؤالًا جديدًا: إذا لم يكن قطاع غزة المحاصر، فمن أين انطلق الصاروخ؟ وفقًا للرواية الرسمية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، على لسان متحدثه العبري، فإن الصاروخ الذي وقع في محيط ديمونا والتجمعات البدوية هناك، وأدى إلى هلع كبير بامتداد الأراضي المحتلة وصولًا إلى القدس المحتل، كان صاروخًا سوريًّا “أرض – جو” من طراز سام – 5، النسخة الروسية العتيقة.
وفقًا للمصادر، فإن هذا الصاروخ السوري انطلق ردًّا على غارات جوية شنها سلاح الجو الإسرائيلي على أهداف داخل الأراضي السورية، في الجولان المحتل تحديدًا، وضلَّ طريقه نحو الأراضي “الإسرائيلية”، ما دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى فتح نيرانه نحو البطاريات الأرضية السورية بكثافة، ردًّا على هذا “الاعتداء”.
ومع ذلك، فقد تعرضت هذه الرواية الإسرائيلية إلى انتقادات فنية، من خبراء عرب وعبريين في الشأن الإسرائيلي، استنادًا إلى عدة شواهد ترتبط بالسياق العام لأحداث التصعيد في المنطقة، وذلك في إشارة إلى ضلوع طرف ثالث في هذا الهجوم، غير الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر والنظام السوري.
أصابع الاتهام
عدة أسباب تقف خلف التشكيك في رواية جيش الاحتلال الإسرائيلي حول الفاعل الحقيقي خلف إطلاق الصاروخ تجاه المقر النووي، السبب الأول -وفق مراقبين- استدلالي يقوم على التساؤل: إذا كانت المصادر المقربة من جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أخطأت في تقدير مصدر الصاروخ في البداية، مرجحةً أنه انطلق من قطاع غزة المحاصر، فلمَ لا تكون التقديرات التي تقول إن مصدره النظام السوري غير دقيقة أيضًا؟
السبب الثاني، إن النظام السوري منذ دخول الأطراف الإقليمية إلى ساحة الصراع في بلاده، لم يكن معنيًّا بالتصعيد ضد الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا إلى تهاوي الردع الاستراتيجي بينه وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد تخليه عن الأسلحة الكيميائية وخسارة أعداد كبيرة من جيشه في الحرب الداخلية.
قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يلعب اللعبة نفسها التي لعبها سابقًا مع حزب الله، وهي ألا يبالغ في تقدير حجم الضربة التي تعرض لها، بحيث لا يلزم نفسه برد عاجل يوازي قدر الاعتداء.
كما أن الفترة الأخيرة تشهد انحدارًا كبيرًا في مسيرة الاقتصاد السوري بسبب العقوبات والحصار الخارجي، ما يعني أنه ليس وقتًا مناسبًا للتصعيد كما كرّس بشار الأسد في إجاباته الدائمة عن سؤال: متى تفتح جبهة الجولان المحتل؟ بالإضافة إلى حاجته للاستقرار في ظل ترتيبات الانتخابات الرئاسية القادمة، ودخوله في مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال لتبادل مطلوبين، مقابل حصول تل أبيب على رفات عميلها المعدوم في سوريا، إيلي كوهين، وذلك بعد استعادة رفات الجندي زخاريا مومل من سوريا قبل ذلك.
ولم يسبق لقوات الدفاع الجوي السورية أن أطلقت صاروخًا روسيًّا عتيقًا “أرض – جو” خلال عشرات الغارات الإسرائيلية على أهداف النظام وحلفائه في السنوات الأخيرة، تمكن من قطع مسافة تقدر بنحو 300 كيلومتر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كما تروج الرواية الإسرائيلية الرسمية عن هذا الهجوم هذه المرة.
في المقابل، يرجح خبراء في الشأن الإسرائيلي مثل خالد أبو عامر أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قرر أن يلعب اللعبة نفسها التي لعبها سابقًا مع حزب الله، وهي ألا يبالغ في تقدير حجم الضربة التي تعرض لها، بحيث لا يلزم نفسه برد عاجل يوازي قدر الاعتداء، قبل التشاور مع الدوائر السياسية في البلاد، واستيعاب الصدمة الميدانية ممثلةً في عبور صاروخ “أرض – أرض” إيراني، تم إطلاقه من سوريا، كافة منظومات الدفاع الجوي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
وخلافًا لكون إيران قد اعتادت على الرد على الهجمات التي تتعرض لها من الخارج، كما حدث في احتجازها السفينة البريطانية من قبل ردًّا على احتجاز سفينة إيرانية، واستهدافها سفينة إسرائيلية بالقرب من المياة الإماراتية مؤخراً ردًّا على استهداف سفينة إيرانية بنيران إسرائيلية في البحر الأحمر؛ فإنّ الصحافة الإيرانية تحدثت منذ أسبوع على لسان محمد سعد زراعي في صحيفة كيهان، عن ضرورة استهداف مفاعل ديمونا ردًّا على استهداف مفاعل نطنز الإيراني بعبوة ناسفة داخلية أدت إلى إرجاء المشروع النووي الإيراني نسبيًّا، وهو ما يرجح ضلوع إيران في إطلاق صاروخ “أرض – أرض” من الجولان المحتل إلى ديمونا، ردًّا على ضرب منشأة نطنز مؤخراً.