في رمضان من كل العالم، وقبل بداية الموسم الدرامي، يتخلف، عادةً، عددٌ من الأعمال الدرامية عن العرض والمشاركة فيما بات يعرف بـ”السباق الرمضاني”، لأسباب فنية تتعلق بعدم اكتمال أحد عناصر العمل.
ولكن، وفي غمرة مسلسلات “الاستخبارات” التي تغلب على الدراما المصرية لهذا العام، تخلف أحد الأعمال الدرامية، وكان من المفترض عرضه هذا الموسم، لأسباب كشفت سيطرة الإدارة الأمنية والسياسية على هذا القطاع الترفيهي الحيوي، والحديث هنا عن مسلسل “الملك”.
في هذا التقرير الذي يناقش التضييق على بعض المسلسلات الدرامية، لسبب أو لآخر، مقابل الاحتفاء الرسمي بأعمال أخرى، نسلط الضوء على مسلسل “الملك” الذي كان من المفترض أن يقدم قصة الملك الفرعوني أحمس، قبل أن تقرر شركة الإنتاج المقربة من المخابرات إيقافه قبل ساعات من بدء السباق الرمضاني.
كيف تمَّ المنع؟
كالعادة وقبل بداية شهر رمضان، بدأت شركات الإنتاج والتوزيع الفني تعرض “بوسترات” ومقتطفات ترويجية من أعمالها التي ستذاع في غضون أيام، وكان مسلسل “الملك” واحدًا من هذه الأعمال التي بُثت مقتطفات ترويجية منها.
على غير المتوقع، قوبلت المواد التشويقية التي بثها صنّاع مسلسل “الملك” بسخرية شديدة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، على خلفية ارتداء فنانين من العمل المفترض، مثل ريم مصطفى، ملابس لا تنتمي إلى العصر الفرعوني، وإنما أقرب إلى الملابس النسائية الشعبية في الوقت المعاصر، بالإضافة إلى احتفاظ بطل العمل الذي يجسد شخصية أحمس، الفنان عمرو يوسف، بلحيته كما اعتاد الظهور، بالمخالفة لما هو معروف عن الفراعنة.
في الفترة بين بث المقطع التشويقي وقبل اتخاذ قرار بإيقاف العمل على المسلسل، كان هناك حدث ضخم في القاهرة، نال إشادة كبيرة من المهتمين بالعلاقات العامة والعاملين في مجال السياحة، وهو موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بميدان التحرير إلى متحف الحضارة الجديد بالقاهرة القديمة.
أثار القرار المفاجئ من شركة الإنتاج بإيقاف تصوير المسلسل عاصفة من ردّات الفعل المتباينة، ما بين مؤيد للقرار ومعارض له، وفريق ثالث يرى أن دخول هذه المعركة ليس مطلوبًا في ظل هيمنة المخابرات على هذا القطاع.
ساعات من اكتمال مشهد نقل موكب المومياوات الملكية، وقد قررت الشركة المنتجة “سينرجي” (تامر مرسي) إيقاف تصوير المسلسل، وانتداب لجنة متخصصة من خبراء التاريخ والآثار والاجتماع لبحث الأخطاء الواردة في المسلسل، واتخاذ قرار بشأن مصيره، حتى لو كان هذا القرار منعه نهائيًّا من العرض.
ثلاثة آراء
أثار القرار المفاجئ من شركة الإنتاج بإيقاف تصوير المسلسل عاصفة من ردّات الفعل المتباينة، ما بين مؤيد للقرار ومعارض له، وفريق ثالث يرى أن دخول هذه المعركة ليس مطلوبًا في ظل هيمنة المخابرات على هذا القطاع بشكل شبه كامل في السنوات الأخيرة.
خلافًا للمتوقع، فقد كان معظم مؤيدي القرار من أنصار الدولة في مصر، حيث رأوا، على حد قولهم، أن العروض المتنوعة، والتنظيم المبهر الذي نجحت مصر في إبرازه خلال موكب نقل المومياوات الملكية، قد رفع سقف مستوى المعايير الفنية المطلوبة لتقديم أعمال تتناول الحضارة الفرعونية.
ووفقًا لأنصار هذا الرأي، فإن القائمين على العمل، والمفترض أنهم يروجون للحضارة الفرعونية التي أوشكت أن تتحول “أيديولوجيا” للنظام المصري، عند إبرازها كمقابل تقدمي للثقافة الإسلامية المحافظة، تأثروا بأعمال ملحمية غير مصرية، مثل “قيامة أرطغرل” و”Game of Thrones”، وهو ما يخصم من العمل ولا يضيف إليه.
أمّا الرافضون لمبدأ المنع، ومنهم المخرج المعروف عمرو سلامة، فقد رأوا أن من حق المبدع أن يخلّ بالحقيقة التاريخية لموضوع العمل لأغراض فنية وإبداعية، وفي الوقت نفسه يحقّ للجمهور أن يقيّم العمل سلبًا أو إيجابًا، شريطة ألا يحجر على العمل، وأن يترك للمبدعين الحرية في تقديم رؤاهم الفنية، أما ما حدث فقد أعاد مصر إلى “حقبة العصور الوسطى”، على حدّ قول سلامة.
التيار الثالث الذي رأى عدم جدوى، وضرورةِ، الاشتباك مع هذا الجدل، فقد استند في هذا الرأي، كما يصف أحمد سامي، ناقد فني، إلى كون العاملين في دورة الإنتاج الفني في مصر قد ارتضوا منذ البداية هيمنة الشركات المقربة من الجهات الأمنية على صناعة الفن، في حين أنهم، هؤلاء العاملين نفسهم، كانوا أشد ما يمكن في معارضة التأثير الديني على الصناعة إبان حكم الإخوان بناءً على محض مخاوف وهواجس، ومن ثم فإنه من الأفضل عدم الاشتباك مع أصحاب قرار منع المسلسل، بالنظر إلى الموافقة الضمنية المسبقة لجميع الأطراف على سياسة الهيمنة الأمنية تلك.
هيمنة شركات المخابرات
أبرزت هذه الأزمة من جديد موضوع استحواذ الشركات الفنية المقربة من أجهزة الأمن المصرية على سوق الإنتاج الدرامي، فقد علّقَ الصحافي الاستقصائيّ حسام بهجت على الأزمة، موضحًا أنّ دورة الإنتاج بالكامل باتت تحت سيطرة شركات تابعة أو مقربة من الأجهزة الأمنية.
استحوذت الشركة المنتجة للمسلسل على عدة محطات ومجموعات فضائية خلال الأعوام الأخيرة.
تبدأ هذه الدورة، كما شرح بهجت، من إنتاج العمل وضخ التكاليف اللازمة في المواقع وللفنانين وفرق التجهيز والكتابة والإخراج قبل ظهور العمل، ثم تصل إلى نقطة وسيطة عند بيع العمل إلى محطات البث الفضائية، التي باتت هي الأخرى مملوكة بشكل كامل أو جزئي من شركات مقربة من المخابرات، وصولًا إلى توزيع المحتوى رقميًّا عبر منصات احتكارية مثل Watch It، وحتى الشركات التي تمتلك حقوق الإعلان عن هذه الأعمال في الشوارع.
بعيدًا عن كلام حسام بهجت، فإن الشركة التي أنتجت مسلسل “الملك”، “سينرجي” (تامر مرسي)، كانت قد شرعت في إنتاجه بشراكة ثنائية مع شركة أخرى هي “أروما” (تامر مرتضى)، ولكنها استحوذت على حصة “أروما” التي تعثرت ماليًّا قبل شهر من إيقاف العمل، ويقدّر بعض الخبراء التكلفة الإجمالية التي تحملتها الشركة المنتجة بعد إيقاف العمل نحو 60 مليون جنيه، وهو ما يفتح الباب أمام السؤال عن مصدر تمويل هذه العمل الضخم، في ظل إيقاف إنتاجه وتوزيعه، أي دون الحصول على عوائد من البث والإعلانات كما كان متوقعًا.
كما استحوذت الشركة المنتجة للمسلسل على عدة محطات ومجموعات فضائية خلال الأعوام الأخيرة، مثل المجموعة المالكة لقنوات “دي إم سي”، ومجموعة “إعلام المصريين” المهيمنة على قنوات “الحياة” التي كان يملكها رجل الأعمال السيد البدوي، و”أون تي في” التي كان يملكها رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس، بالإضافة إلى امتلاك حصة حاكمة في مجموعة قنوات “سي بي سي” التي كان يمتلكها رجل الأعمال محمد الأمين، إلى جانب إنتاجها عدد من الأعمال الفنية شبه الرسمية، مثل مسلسل “الاختيار” ذائع الصيت، بجزئيه الأول والثاني الذي يعرض في رمضان الحالي ويثير جدلًا واسعًا بعد تقديمه سردية لفضّ اعتصام رابعة العدوية، تحمِّل المعتصمين مسؤولية العنف الذي وقع، وتبرِّئ ساحة عناصر النظام من أي مسؤولية أخلاقية وقانونية عن التجاوزات التي وقعت في الفض.
مشروعية المنع
بعيدًا عن الجانب السياسي وعلاقات الهيمنة في صناعة الإنتاج الدرامي، فقد حاول صنّاع العمل الدفاع عما عُرض في المقتطفات التشويقية من منطلق تاريخي، فقالوا إن المسلسل يجسد شخصية أحمس المقاتل وليس أحمس الذي حكم مصر لمدة 25 عامًا بعد طرد الهكسوس.
وكون تربية اللحية محرّمًا في الثقافة الفرعونية، إلّا على الملوك في حفلات التكريم الرسمية، وكانت لحيةً مستعارة، فقد سمح صنّاع العمل بإطلاق البطل للّحية في المسلسل تماشيًا مع كونه مقاتلًا متفرغًا لقتال الأعداء، ولا وقت لديه لتشذيبها أو العناية بها مثل البشر الطبيعيين، على النحو الذي دافع به المُراجع التاريخي للعمل عن مظهر عمرو يوسف في المسلسل.
المسؤولية الكاملة، من الناحية الفنية، تقع على عاتق المخرج وليس من صمّموا الأزياء.
أما زاهي حواس، وزير الآثار المصري الأسبق، فقد أبدى تفهمًا لفكرة عدم اتساق الأعمال الفنية التي تتناول قضايا تاريخية مع صحيح التاريخ، خاصة أن مسلسل “الملك” مبني على رواية أدبية تاريخية للأديب العالمي نجيب محفوظ (كفاح طيبة) وليس على جهد تاريخي بحت.
ومع ذلك، فقد رأى حواس أنّ ما عرض في “البرومو” من ملابس وهيئة للممثلين كان “بشعًا”، فالفراعنة لم يطلقوا لحاهم قط، وهذا خطأ مركزي، كما أن المسلسل يفتقد إلى الاتساق مع مقتضيات العصر الذي يمثله، خاصة في الملابس التي يُنتدب خبراء متخصصون في “هوليوود” من أجل انتقائها بشكل ملائم في الأعمال المماثلة.
ووفقًا لخبراء فنّيين تحدثوا إلى موقع “المنصة” المحجوب في مصر، فإن المسؤولية الكاملة، من الناحية الفنية، تقع على عاتق المخرج وليس من صمّموا الأزياء (ستايسلت)، لأن مسؤولية اختيار الملابس في العرف الفني تقع ضمن اختصاصات المخرجين، ولو أن المخرج كان قد اهتم بهذه التفصيلة، لتجنب المشاركون في العمل خسارة ملايين الجنيهات بهذه الطريقة.