اهتمام البنوك المركزية والبنوك التقليدية والشركات العابرة للقارات المتزايد بشراء واستعمال البتكوين والعملات الرقمية، يشكل نقطةً فارقةً وقطيعةً جديدةً مع مرحلة الشك والريبة التي طبعت العلاقة بين هذه المؤسسات البنكية والتمويلية التقليدية والفاعلين بقطاع العملات الرقمية منذ 2008.
مستقبل الذهب الرقمي
رغم الاتجاه العام لتزايد تجارة بيع وشراء العملات الرقمية عبر العالم، يبقى موقف الغالبية الساحقة من الحكومات والبنوك المركزية في العالم ملتزمًا بالحظر بشكل مباشر أو غير مباشر لكل خدمات التداول والحفظ والإصدار.
هذا الموقف الرسمي الرافض لتجارة العملات الرقمية لم يمنع انتعاش هذه السوق الواعدة، التي تعتبرها الحكومات أموالًا لا تخضع لأي آليات تنظيم أو إشراف من طرف سلطة تنظيمية مركزية، كما هو الحال بالنسبة للعملات الورقية والنقدية من طرف البنوك المركزية.
الدليل على ذلك النمو المطّرد لقيمة أهم العملات الرقمية: فالبتكوين، التي كانت تساوي عند انطلاقها في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2008 ما قيمته 0.001 دولار للعملة الواحدة، تجاوز ثمن هذه العملة الافتراضية في أبريل/نيسان 2021، سقف 60 ألف دولار، أي أن قيمة البتكوين تضاعفت بنسبة 60 مليون مرة خلال 13 سنة.
من المؤكد أيضًا أن ميدان العملات الرقمية يعتمد على المضاربة مع نسبة عالية من المخاطرة، لكن هذا لا يمنع من أن هذا السوق وصل إلى مستوى نضج ومهنية، إلى درجة أن إحدى أهم الشركات الدولية Coinbase تم إدراجها يوم 14 من أبريل/نيسان 2021 في بورصة Nasdaq بقيمة سوقية تقدّر بـ86 مليار دولار، أي أكثر من الرقم القياسي الذي كان بحوزة فيسبوك سنة 2012، الذي بلغ 81 مليار دولار.
من جهة أخرى، كبريات الشركات الأمريكية والمحافظات الاستثمارية أصبحت تستثمر بشكل كبير وعلى نطاق واسع بالعمليات الرقمية، فمثلًا شركة السيارات Tesla استثمرت بداية سنة 2021 أكثر من 1.5 مليار دولار بالبتكوين، بالإضافة إلى قبول الدفع بهذه العملة الرقمية لشراء سياراتها. وذلك قبل أن تعلق البيع “بسبب القلق بشأن تغير المناخ”.
الاهتمام نفسه عبّرت عنه شركة خدمات الدفع الإلكتروني Square وشركة البرمجيات MicroStrategy، وكذا الصندوق الاستثماري BlackRock الذي حوّل جزءًا من أصوله المالية إلى البتكوين.
كما شكل إعلان مجموعة باي بال الأمريكية العملاقة في مجال الدفع الإلكتروني في الفصل الأول من سنة 2021 أنها تقبل المدفوعات بالعملات الرقمية، مبادرة مسرّعة لقبول عمليات الدفع بهذه العملات الافتراضية، خصوصًا بتكوين وإيثريوم، ومكّن هذا القرار ملايين المشتركين في خدمات باي بال من استعمال عملات الذهب الرقمي إلى جانب وسائل دفع أخرى.
رهان الين الرقمي الصيني
رغم الموقف الحذر للبنوك المركزية من عالم العملات الرقمية، فإن البعض منها، خاصة دول سنغافورة وكوريا الجنوبية وأستراليا والولايات المتحدة، ترخّص لعمل الشركات المتخصصة في بيع وشراء هذه العملات، مثل منصات التداول Coinbase وBinance.
من جهة أخرى، بدأت بعض البنوك المركزية التفكير جديًّا في إطلاق عملة وطنية رقمية، أو ما يعرَف بـ Central Bank Digital Currency (CBDC)، كما هو الحال في الصين وليتوانيا، الهدف من هذه المبادرة هو تيسير عمليات الدفع أونلاين والتخفيف من ثقل التعامل بالعملات الورقية.
قطع مشروع العملة الرقمية الصينية Yuan Digital في مجال CBDC، أشواطًا متقدمة في مرحلته التجريبية، بحيث أُجريت أول عملية دفع دولية به مع هونغ كونغ شهر أبريل/نيسان 2021، وذلك بعد نجاح عمليات الدفع محليًّا في ثلاث مدن محلية.
هذه المرحلة المفصلية تشير إلى إرادة الصين تسريع وتيرة استعمال عملتها الرقمية كشكل جديد، لتجاوز احتكار الدولار الأمريكي في المعاملات الدولية، والدليل على ذلك انطلاق مشروع تعاون في هذا المجال مع العديد من البنوك المركزية، خاصة تايلاند والإمارات العربية المتحدة، وذلك لاستعمال هذه العملة الرقمية كوسيلة دفع في المعاملات التجارية الدولية.
هذه المبادرات الخاصة والعمومية للتعامل الحذر مع العملات الرقمية، تبرز مدى التطور في المواقف الذي انتقل من المنع والتشكيك إلى بداية الاهتمام قبل الوصول إلى الاعتراف الكلي، كما هو الحال لدى المشروع الأمريكي الذي سمح منذ يوليو/تموز 2020 للمؤسسات البنكية بشراء العملات الرقمية وحفظها لفائدة عملائها بشكل قانوني، الشيء الذي رفع سقف الثقة لدى المستثمرين للجوء إلى شراء العملات الرقمية، التي كانت حتى وقت قريب حكرًا على نخبة مالية وتقنية ضيقة تفضّل دائمًا البقاء في الخفاء.
عمليًّا، أصبح بإمكان عملاء هذه البنوك طلب حفظ المفاتيح المشفرة لحسابات البتكوين والعملات الرقمية، كنشاط جديد للمؤسسات البنكية المكلّفة بالمحافظ الاستثمارية، ودور البنك سيكون مفصليًّا لحماية العملاء كي لا يفقدوا هذه المفاتيح المشفرة الضرورية للتصرف في ادخاراتهم من العملات الرقمية.
حذر البنوك لم يمنع تزايد اللجوء المطّرد إلى شراء العملات الرقمية، خاصة بسبب تداعيات جائحة كورونا وأثرها في اضطراب الاقتصاد العالمي، التي شكلت عاملًا غير مباشر في تسريع وتيرة الثقة بالعملات الرقمية أو ما أصبح يعرف بالذهب الرقمي، والدليل على ذلك ارتفاع قيمة البتكوين المطّرد منذ شهر مارس/آذار 2020، مستفيدًا من تراجع قيمة الدولار واستقرار أسعار الذهب.
من جهة أخرى، استمرار تجديد قرارات الحجر الصحي ومنع التجول في العديد من دول العالم، بسبب توالي موجات تحوُّر فيروس كورونا، دفع المواطنين والمستثمرين إلى اللجوء لعملات الذهب الرقمي، خاصة في الدول التي عرفت عملاتها الوطنية تدهورًا ملحوظًا أمام الدولار واليورو، بسبب تزايد القيود على شراء العملات الأجنبية، خاصة الدولار، كما أصبح اللجوء إلى العملات الرقمية خيارًا أسهل وأرخص لتجاوز القرارات التضييقية للبنوك المركزية في هذا المجال.
مسار التغيير في التعامل مع البتكوين والعملات الرقمية يبقى متفاوت السرعة، خاصة أن غالبية الدول، ومن ضمنها الدول العربية، تطبّق عقوبات مالية أو السجن على كل تعامل بهذه العملات الرقمية، بحجّة خطر القرصنة والسرقة أونلاين، أو باعتبارها وسيلة لتهريب الأموال خارج هذه الدول عبر عمليات غسل أموال أو تمويل حركات إرهابية.
هذا المنع العمومي الصريح للذهب الرقمي يضاف إليه موقف العديد من الهيئات الدينية ومراكز الإفتاء، التي في غالبيتها تعتبر التعامل بهذه العملات غير موثوق وغير متوافق مع مبادئ المالية الإسلامية بسبب خطر السرقة والغبن.
على كل حال، المقاربة البراغماتية للمشروع الأمريكي والبنك المركزي الصيني، تفسر أن الرهان الآن ليس المنع والتحريم بقدر ما هو إيجاد منظومة حماية للمتداولين بهذه السوق، والتقليل من مخاطر اللجوء إلى العملات الرقمية كوسيلة سهلة من أجل غسل الأموال وتمويل الحركات الإرهابية، إضافة إلى توفير ضمانات من طرف المنصات الإلكترونية المتخصصة بإنشاء العملات الرقمية على مدى تحكمها في كل المخاطر التقنية والمالية المرتبطة بنشاطاتها.
سيكون لديناميكية السوق الأمريكية والصينية لا محالة أثر على اتساع الاعتراف بالعملات الرقمية عبر العالم، والدليل على ذلك تنامي إطلاق مشاريع خاصة وعمومية في العديد من الدول لاستعمال تقنية الـ”بلوك تشين” (Blockchain)، التي تشكل البنية التقنية لمختلف عملات الذهب الرقمي.