تعرِّف الأمم المتحدة العنف ضد المرأة على أنه “السلوك الممارس ضد المرأة والمدفوع بالعصبية الجنسية، ما يؤدي إلى معاناة وأذى يلحق المرأة في الجوانب الجسدية والنفسية والجنسية، ما يشمل أنماطًا شائعة من العنف مثل القتل والضرب والإساءة اللفظية والتحرش الجنسي واللفظي والاغتصاب والزواج القسري والابتزاز الإلكتروني”.
ولكن هناك أيضًا نوع من أنواع العنف الموجه ضد النساء حصرًا، وهو العنف ضد المرأة أثناء الولادة، والذي يعتبر الحديث عنه غير شائع أو متداول على نحو كبير، لأن النساء يواجهن صعوبة في الحديث عنه أو عن الحوادث التي تعرضن لها، بسبب بعض المحاذير المجتمعية والقيود المفروضة عليهن من قبل عائلاتهن، التي تمنعهن من النشر أو التوثيق أو التبليغ عما تعرضن له بسبب الخوف من نظرة المجتمع إليهن، أو اتهامهن بالمبالغة أو تسطيح معاناتهن في هذا الإطار.
قبل أيام معدودة، أثيرت قضية العنف ضد النساء أثناء الولادة على منصات التواصل الاجتماعي، وشاركت النساء تجاربهن حول هذه القضية، ما لفت الأنظار إلى مآسٍ خطيرة تتعرض لها المرأة في أروقة مستشفيات الولادة دون مساءلة ومحاسبة للمتسببين بها، إذ كانت المشاركات صادمة ومؤسفة سواء من حيث الأعداد الهائلة للنساء اللاتي تعرضن لهذا النوع من العنف، أو لنوعية العنف نفسه.
أجمعت غالبية النساء اللاتي شاركن تجاربهن في المستشفيات الحكومية، على عدم وجود خصوصية داخل غرف الولادة، إذ كنّ جميعًا في غرفة واحدة من دون ستائر أو حواجز.
وبالنظر إلى تلك الإفادات أو حتى التجارب التي سمعناها يومًا من الصديقات أو الأقارب، فمن الممكن تلخيص أبرز أنواع العنف والانتهاكات التي تتعرض لها النساء أثناء الولادة على النحو الآتي:
الحرمان من الخصوصية
“كنت على سرير الولادة شبه عارية، وكانت غرفة الولادة مكتظة بعشرات النساء الموزعات على أسرّة الولادة في الوضعية نفسها. كنت أشعر بالخجل الشديد ولم توافق الممرضات على إغلاق الستارة المحاذية لسريري”. بهذه الكلمات وصفت السيدة “أمل. م” معاناتها أثناء الولادة، حين طرحتُ عليها سؤالًا عن أصعب شعور رافقها أثناء الولادة.
ما حدث مع أمل ليس غريبًا أو صادمًا، فقد أجمعت غالبية النساء اللاتي شاركن تجاربهن في المستشفيات الحكومية، على عدم وجود خصوصية داخل غرف الولادة، إذ كنّ جميعًا في غرفة واحدة من دون ستائر أو حواجز.
ليس هذا فحسب، بل في بعض الحالات كان الدخول للغرفة متاحًا لعمال النظافة أيضًا دون مراعاة لمشاعر المريضات اللاتي لا يوافقن على كشف أجسادهن أثناء الولادة، سواء لنساء أخريات داخل الغرفة أو لعاملين من خارج الفريق الطبي المختص بالتوليد داخل المستشفى.
إجبار النساء على تلقي العلاج دون أخذ موافقتهن
تقول إحدى السيدات: “أجبرت على أخذ حقنة الظهر الخاصة بالميلاد دون معرفتي عنها أو عن آثارها”.
لا تعرف غالبية النساء اللاتي يخضن تجربة الولادة الإجراءات الطبية المتبعة بشكل كامل، ولا يعرفن الأدوية أو الحقن المستخدمة أثناء عملية الولادة، ما يدفع الطاقم الطبي في كثير من الأحيان إلى إجبارهن على أخذ نوع من الحبوب أو الحقن دون موافقتهن، أو حتى دون شرح الإجراء الطبي وتوضيح منافعه أو آثاره الجانبية.
وفي هذا الجانب، يلجأ الفريق الطبي إلى اتهام المريضة بالجهل والغباء وعدم امتلاكها للأهلية العلمية التي تخولها السؤال عن الدواء أو الاستفسار عنه.
ولكن المثير للقلق أكثر أنّ إجبار النساء على إجراء طبي معين قد لا تتوقف آثاره على النساء أنفسهن، إذ إن هناك عدة حالات لنساء فقدن جنينهن أو حياتهن بسبب إجراء طبي خاطئ، أو تم دفعهن للجوء إلى عملية الولادة القيصرية بدلًا من الطبيعية دون داعٍ، أو تسبب أحد أنواع الأدوية أو الحقن لهن بمشاكل صحية وجسدية نتيجة التشخيص الخاطئ لحالة المريضة.
تعامل الفريق الطبي الوحشي
أجمعت كل النساء اللاتي شاركن تجاربهن على تعرضهن للإساءة اللفظية والشتم من قبل الفريق الطبي في غرف الولادة، إذ كان يشتمهن بصوت عالٍ وباستخدام ألفاظ نابية وبطريقة تخدش الحياء، كما أنهن يتعرضن للإهمال من قبل الممرضات عند سؤالهن عن أحد الأعراض أو عن موعد قدوم الطبيب.
لا تنسى صفع إحدى الطبيبات سيدة على فمها أثناء مخاضها بسبب ارتفاع صوت صراخها وإزعاجها للطبيبة أثناء قيامها بعملها.
تقول إحدى النساء: “عند صراخي أثناء المخاض، عايرتني الممرضات وقلن لي أنت من أردت الزواج وارتداء الفستان الأبيض، فلتتحملي إذًا”. وتضيف أخرى: “ضربتني الطبيبة على قدمي لعدم استجابتي لخطوات الولادة من شدة الألم، وفي اللحظة التي أوشكت على الولادة فيها وبينما كان رأس الطفل في طريقه للبروز، أخبرتني الطبيبة أنها ستتركني قليلًا كي تلقني درسًا لعدم معرفتي المسبقة في كيفية الولادة، وبالفعل تركتني”.
وتقول ثالثة: “كانوا يركلونني على بطني بقوة من أجل تسريع عملية نزول الرأس”.
سألت إحدى صديقاتي عن موقف لا تنساه أثناء تجربتها في الولادة، فأخبرتني أنها لا تنسى صفع إحدى الطبيبات سيدة على فمها أثناء مخاضها بسبب ارتفاع صوت صراخها وإزعاجها للطبيبة أثناء قيامها بعملها.
هذه الشهادات الصادمة جزء بسيط من عشرات المشاركات المشابهة لنساء لم يتعرضن فقط للإساءة اللفظية أثناء الميلاد، بل استخدم الفريق الطبي العنف الجسدي والنفسي ضدهن كنوع من العقاب على عدم معرفتهن بطريقة الولادة أو عدم الاستجابة لخطوات الطبيب التي من شأنها الإسراع في عملية الولادة.
التحرش الجنسي أثناء الفحص السريري والولادة
يعد التحرش الجنسي بالمريضة سواء خلال إخضاعها للفحص السريري أو الولادة أحد أكثر الأمور الخطيرة التي تتعرض لها النساء في مستشفيات الولادة، خاصة أن المريضة لا يمكنها التمييز التام بين الإجراء الطبي الذي يتطلب من الطبيب ملامسة أجزاء من جسدها، وبين ملامسة جسدها بنية التحرش.
وفي الوقت الذي لا تعرف فيه بعض النساء أنهن تعرضن للتحرش الجنسي، أكدت أخريات تعرضهن للتحرش الجنسي في غرف الولادة، ولكن لم يستطعن الإبلاغ أو الحديث عن هذا الموضوع بسبب الخوف من ردة فعل الزوج أو من الفضيحة، أو دفاع طاقم التمريض عن الطبيب والتأكيد على أنه كان يؤدي عمله فقط.
تقول إحدى الطبيبات التي شاركت تجربتها على صفحات التواصل الاجتماعي: “في إحدى المستشفيات التي تدربت فيها، كان يتم إخبار المريضات أن القابلات سيقمن بتوليدهن، ولكن تتفاجأ المريضات داخل غرف الولادة بأطباء يجرون عملية التوليد. وهل لكم أن تتخيلوا أن بعض الأطباء يختار بنفسه السيدة التي تعجبه ليجري لها عملية الولادة دونًا عن غيرها، لأنه يخطط للتحرش بها داخل غرفة الولادة. رأيت ذلك بعيني!”.
الحرمان من وجود مرافق والاستخفاف بالمشاعر
تضطر الكثير من النساء اللاتي يخضن تجربة الولادة، خاصة في حال كانت المرة الأولى لهن، إلى قضاء عدد كبير من الساعات داخل غرفة الولادة ليصل أحيانًا إلى 9 ساعات، وفي أحيان كثيرة إلى 24 ساعة أو 48 ساعة.
بعد ساعات طويلة من المعاناة، ونتيجة لخطأ طبي من الطبيب، أخبروني أن نبض الجنين قد توقف وأني سألده ميتًا.
عدد الساعات هذه لا يعد غريبًا من منظور طبي، ولكن الغريب حقًا هو إصرار المستشفيات على عدم السماح لمرافقي المريضة بالتواجد معها داخل غرفة الولادة وأثناء المخاض بحجة منع الازدحام، مع أنه من الممكن إتاحة خيار تواجد شخص واحد على الأكثر مع المريضة.
ولا يتوقف ذلك عند حرمان المريضة من رؤية أفراد عائلتها أثناء المخاض مهما كانت صعوبة حالتها الصحية، بل يمتد ليشمل الاستخفاف بالنساء اللاتي يعانين من آلام الولادة وإمطارهن بوابل من الاتهامات كالمبالغة في الصراخ، وفي أحيان كثيرة كانت الممرضات يضحكن على بكاء النساء أو يشغلن أغاني بصوت عالٍ يغطي على أصوات الصراخ.
تقول إحدى النساء -رفضت إظهار اسمها- التي سألتها عن تجربتها في الولادة في مستشفى حكومي: “لا يمكنني نسيان ذلك اليوم، فبعد ساعات طويلة من المعاناة، ونتيجة لخطأ طبي من الطبيب، أخبروني أن نبض الجنين قد توقف وأني سألده ميتًا.
وتقول سيدة أخرى من المشاركات في المنشورات التفاعلية: “أتذكر تجربة ابنة خالتي التي ظلت أكثر من يومين داخل غرفة الولادة وتدهور وضعها الصحي وبكاءها الشديد وصراخها من أجل أن ترى زوجها أو أمها وسط رفض تام من فريق التوليد. ليس هذا وحسب، بل كانوا يشتمونها ويتهمونها بالمبالغة”.
إهمال طبي وضعف في التجهيزات
عند الحديث عن الإهمال الطبي في المستشفيات الحكومية، لا يمكن تجاهل تأثير هذا الإهمال على المرضى والتبعات التي يعانون منها بسبب استهتار طبيب أو ممرض أو عدم أخذ شكوى المريض بجدية أو التساهل في تشخصيه.
وبالطبع، إن غرف الولادة هي أحد أبرز الأماكن التي تسجل أعدادًا من الضحايا اللاتي تنتهي حياتهن أو يصبن بمضاعفات خطيرة بعد عملية الولادة، بسبب إهمال الفريق الطبي لحالتهن الصحية.
“تقول لنا أمي أنها أثناء انتظارها لدخول غرفة الولادة، شهدت بعينيها كيف كانت مجموعة من الممرضات خارج غرفة الولادة يتحدثن ويضحكن بصوت عالٍ، في الوقت الذي كانت تستنجد فيه إحدى النساء داخل الغرفة بهن، وتصرخ بشكل هستيري من شدة الألم. لم يمر وقت كبير حتى تدفقت دماؤءها خارج الغرفة وانتهت حياتها بسبب إهمالهن”، تقول إحدى النساء المشاركات.
العمل على تطوير مرافق المستشفيات بما في ذلك قسم الولادة، ضرورة ملحة على الجهات المعنية دراستها ومباشرة العمل على تنفيذها وعدم تجاهلها.
تضطر العديد من النساء أيضًا إلى مواجهة ظروف صعبة عند الولادة كالانتظار الطويل في ممرات المشفى، أو تأخر الفحص، وفي أحيان أخرى تلد بعضهن على الأرض أو على الأسرّة الموجودة في أروقة المستشفى بسبب عدم وجود أسرّة فارغة والافتقار لتجهيزات ملائمة تناسب حاجات النساء.
وفي الإطار ذاته، تخبرني صديقة لي أنها رأت امرأة تستنجد بطاقم التوليد لإتمام عملية الولادة لها، فما كان منهم سوى الصراخ عليها وحثها على الانتظار بسبب عدم وجود مكان شاغر، وما هي إلا دقائق قليلة حتى انهارت السيدة على الأرض وخرج طفلها من رحمها على الأرض مباشرة.
ضرورة إدارية
من المؤسف حقًا الاستماع إلى شهادات النساء الصادمة حول ما عانينه في غرف الولادة وما تعرضن له من عنف بمختلف أنواعه. ومن المؤسف أكثر أن جهة الانتهاك التي تقوم بالتعنيف تشمل عددًا لا بأس به من النساء اللاتي يعنفن نساء أخريات، كما أن جهة الانتهاك هذه تعد من فئة النخبة في المجتمع لأنها تشمل الأطباء والممرضين والقابلات.
ففي الوقت الذي ينظر فيه المجتمع إلى هذه الفئة نظرة تقديس واحترام وإجلال، واعتبارها ملاذًا للمرضى الضعفاء، لا يتوقف عدد منها عن انتهاك النساء في أسوأ أوضاعهن وحاجتهن إلى الرحمة والمساعدة.
ربما حان الوقت للجهات المعنية أن تأخذ معاناة النساء في غرف الولادة على محمل الجد، واعتبارها قضية حساسة بحاجة إلى المعالجة. فيمكن لوزارة الصحة مثلًا تخصيص نظام رقابة ومساءلة ومحاسبة فعال في كل مستشفى، كما يمكن متابعة عمل الفرق الطبية على نحو دقيق والتحدث مع النساء لأخذ انطباعاتهن عن تجربتهن في الولادة من خلال موظف مختص في كل مستشفى.
من المنطقي أيضًا إنشاء صندوق شكاوى في كل مشفى، يتيح للنساء تقديم شكاوى عن ممارسة عنف حدثت بحقهن، وتحويل هذه الشكاوى إلى القسم المختص من أجل التحقيق بها. وبالطبع، إن العمل على تطوير مرافق المستشفيات بما في ذلك قسم الولادة، ضرورة ملحة على الجهات المعنية دراستها ومباشرة العمل على تنفيذها وعدم تجاهلها.