كقطاع مالي فتي ومجدِّد، شكّلت البتكوين ومعها باقي العملات الرقمية ملاذًا آمنًا لشبكات المخدرات وقراصنة الإنترنت والإرهابيين، الشيء الذي ألصق بها تهمة كونها مرتعًا خصبًا لبيع المواد الممنوعة وغسيل الأموال. من أجل القطيعة مع هذا الإرث التاريخي المرتبط بالمراحل الأولى لنشأته، تحاول منصات التداول أن توفر مزيدًا من الضمانات لتحديد هوية المستثمرين وحماية محفظاتهم للعملات الرقمية من هجمات القراصنة.
فالبتكوين والعملات الرقمية ملاذ آمن لشراء وبيع المنتجات والمواد الممنوعة بشكل أيسر، وضمان عدم كشف هوية البائع والمشتري.
الدليل على ذلك هو أن عالم العملات الرقمية أصبح مرتعًا خصبًا جديدًا لنمو وترعرع جيل جديد من شبكات المخدرات وقراصنة الإنترنت والإرهابيين، من كل حدب وصوب. فمع تزايد توسع سوق مستعملي البتكوين، ارتفعت وتيرة نشاط شبكات تهريب وبيع المخدرات، وكذا العمليات المعقدة لغسيل الأموال لمختلف الأنشطة الممنوعة قانونيًّا.
يتميز هذا الملاذ الآمن الجديد أساسًا بميزة يصعب توفرها في العالم الاقتصادي التقليدي، إلا وهي سرية المعاملات وصعوبة تتبع آثار المتعاملين به وفيه، بفضل آليات التشفير المتقدمة.
ويضاف إلى ضمان سرية هوية المتعاملين سرعةُ وسلاسة تحويل الأموال عبر مختلف أرجاء العالم، دون صعوبة وبشكل آني.
تقنيًّا، تعتمد العملات المشفرة على تقنية البلوك تشين التي تحتفظ بهذه العملات في قاعدة بيانات مشفرة، وبكلمات سر تضمن حمايتها من القرصنة والسرقة.
“داعش”: قضية Digycode وKeplerk
منذ مطلع سنة 2010، التي بدأ فيها تطور سوق البتكوين، دأبت منظمات مافيا المخدرات والقراصنة والحركات الإرهابية على استعمال مختلف تطبيقات بيع وشراء العملات الرقمية عبر العالم، سواء لتبييض الأموال أو تمويل العمليات الإرهابية، وذلك بعيدًا عن القنوات المالية البنكية التقليدية المراقبة دوليًّا.
الحركات الإرهابية ليست الوحيدة التي تستفيد من ميزة السرية وسهولة تحويل الأموال عبر العالم، فشبكات المخدرات وبشكل استباقي، توجهت إلى سوق العملات الرقمية لبيع الحشيش.
فعلى سبيل المثال، اندلعت قضية Digycode وKeplerk في فرنسا بشهر سبتمبر/ أيلول 2020، بعد توقيف 29 شخصًا بسبب الاشتباه في مشاركتهم في شبكة لتمويل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عن طريق شراء قسائم بتكوين.
بدأت القصة عندما كان هؤلاء الأشخاص، والذين هم لاجئون سوريون في فرنسا، يذهبون إلى محلات البقالة وبيع التبغ لشراء مجموعات قسائم بتكوين التي توفرها شركتا Digycode وKeplerk مقابل 200 يورو للقسيمة، والتي يتم إرسالها إلى عائلاتهم عبر تطبيقات تيلغرام وواتساب.
بعد تحريات الشرطة القضائية الفرنسية، تبين الأمر أن قسيمة البتكوين المرسلة مبدئيًّا إلى عائلات اللاجئين، يتم استعمالها من طرف نشطاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذين يقومون بتحويل البتكوين إلى الدولار في تركيا.
كما أن الحركات الإرهابية ليست الوحيدة التي تستفيد من ميزة السرية وسهولة تحويل الأموال عبر العالم، فشبكات المخدرات وبشكل استباقي، توجهت إلى سوق العملات الافتراضية لبيع الحشيش، وأقراص MDMA/ Ecstasy والمنشطات والهيروين، وذلك عبر ما يسمى بالدراك نت (Darknet) أو الشبكة المظلمة. مع توالي الأعوام ونضج اتساع مجال البتكوين، أصبحت العملات الرقمية وسيلة الدفع المفضلة لدى بارونات المخدرات، بحثًا عن ضمانات السرية وسهولة الوصول إلى كل بقاع العالم بعيدًا عن عيون الرقابة لوسائل التجارة التقليدية.
القراصنة وفدية البتكوين
مميزات عالم هذه العملات الرقمية المشفرة لم يفت قراصنة نظم المعلومات عبر العالم، فالعديد من الشركات كانت ضحية قرصنة حواسيبها بسبب ما يعرَف ببرنامج الفدية (Ransomware)، والذي يتمكن من التحكم عن بعد بنظم معلومات الشركة المقرصنة. بعد نجاح عملية التحكم عن بعد، يقوم القراصنة بطلب فدية بتكوين أو أي عملة رقمية أخرى من الضحايا، مقابل فك البرامج المقرصنة التي تم تشفيرها عن بعد.
من جهة أخرى، تعتبَر البتكوين الملجأ الآمن لكل من يريد شراء الممنوعات أونلاين، كما هو الحال بالنسبة إلى الأسلحة والمواد الإباحية المتعلقة بالأطفال. الدليل على ذلك اتجاه غالبية المواقع الإباحية إلى إدراج بعض العملات الرقمية، كوسيلة دفع ممكنة للاشتراك أو استهلاك محتوياتها.
إن تزايد لجوء شبكات المخدرات والدعارة وغسيل الأموال إلى العملات المشفرة، دفع بعض الدول التي لديها أنظمة مشجعة لسوق البتكوين إلى سحب التراخيص للعديد من شركات الناشئة، بسبب تهم تبييض الأموال والاحتيال المالي. فمؤخرًا، قررت دولة إستونيا، والتي تعتبر من الدول الأكثر تشجيعًا لتقنية البلوك تشين والبتكوين، سحب أكثر من 500 ترخيص للشركات العاملة في هذا المجال، بسبب شكوك مرتبطة باستعمال منصاتها من طرف شبكات غسل الأموال والمخدرات.
تزايد المراقبة الدولية لهذه الشبكات سمح للسلطات الأميركية والأوروبية حجز آلاف البتكوينات التي تم بيعها في مزادات علنية، لتذهب بعد ذلك مداخيلها إلى الخزينة العمومية.
وثيقة تعريف والتعرّف عند بعد على وجه كل مشترك
أمام تزايد خطر استعمال شبكات المخدرات والإرهاب والقرصنة للعملات الرقمية، قامت شركات هذا القطاع الناشئ بوضع سلسلة من الآليات التي تسمح بالتعرّف إلى هوية مستعملي منصات التداول المرخصة، في حال مطالبة الشرطة بمعلومات لضبط أي خروقات للقوانين المالية الساري بها العمل على المستوى التجاري أو المالي.
تستثمر كبريات منصات التداول بقوة في تأمين مواقعها الرقمية ومنصاتها، وذلك لتجنب العواقب الوخيمة لعمليات سرقة العملات الرقمية لمشتركيها من طرف شبكات القرصنة الدولية.
حاليًّا، تفرض غالبية منصات تداول العملات الرقمية المرخصة على أي مشترك في خدماتها رقم هاتف ووثيقة تعريف، سواء بطاقة وطنية أو جواز سفر، إضافة إلى عملية التعرّف عن بعد إلى الوجه، باستعمال أحدث التقنيات لمواجهة تحدي انتحال الشخصية.
العامل الثاني لمراقبة المستعملين مرتبط بتوفر المعلومات، سواء رقم البطاقة البنكية لكل مشترك أو رقم الحساب البنكي، الذي تم عن طريقه عملية التحويل لمنصة التداول لشراء العملات المشفرة.
من جهة أخرى، تستثمر كبريات منصات التداول بقوة في تأمين مواقعها الرقمية ومنصاتها، وذلك لتجنب العواقب الوخيمة لعمليات سرقة العملات الرقمية لمشتركيها من طرف شبكات القرصنة الدولية المتخصصة في هذه العمليات التقنية المعقدة.
ولتحدي تحديد هوية المشتركين وحماية استثماراتهم من هجمات القراصنة، يضاف شرط الالتزام بالقوانين والتشريعات الخاصة لكل دولة من طرف منصات تداول البتكوين. هذا التحدي الذي يبرز مدى قوة هذا القطاع المصرفي الناشئ، نظرًا إلى نجاحه في تجاوز كل هذه الإكراهات ليوفر إمكانية التداول بسهولة وشفافية وبشكل آمن عبر عشرات الدول عبر العالم.
رغم كل هذه الضمانات، ليس من السهل الاستهانة بشبكات المخدرات والقراصنة والحركات الإرهابية، وقدرتها على إيجاد حلول جديدة للاستفادة من ميزة السرية وعالمية العملات المشفرة لتصريف موادها الممنوعة وغسيل الأموال. يبقى التحدي هو كيف يمكن لهذا القطاع الناشئ أن يستمر في إعطاء كافة الضمانات القانونية والتقنية الكفيلة بتقوية رأسمال الثقة في جدواه الاقتصادية، كقفزة جديدة للبشرية من أجل تبادل اقتصادي مالي أيسر وأكثر أمانًا.