يواصل النظام الجزائري قمع الحراك الشعبي المتواصل منذ سنتين بهدف السيطرة عليه وتطويعه بما يخدم مصالحه، وفي كل مرة يلجأ النظام لتبرير قمعه للاحتجاجات باتهامات جاهزة، وفي هذه المرة لجأ إلى حركتي “ماك” و”رشاد”، حتى يعطي نفسه شرعية استهداف نشطاء الحراك.
قمع متواصل
مع عودة المتظاهرين إلى الشوارع بعد عام من التوقف بسبب وباء كورونا، عاد النظام الجزائري إلى ممارساته القمعية ضد نشطاء الحراك، رغم الوعود الكثيرة من رأس النظام عبد المجيد تبون بالحوار مع الحراكيين والاستماع إلى مطالبهم والاستجابة لها.
يوم 19 فبراير/ شباط الماضي، أعلنت وزارة العدل الجزائرية الإفراج عن 33 من نشطاء الحراك كدفعة أولى، غداة إعلان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عفو رئاسي عن موقوفين محكوم عليهم بصفة نهائية وآخرين لم تصدر بحقهم أحكام، ثم قالت الوزارة إن عدد من أطلق سراحهم بموجب العفو الرئاسي الصادر في إطار مبادرة تهدئة تجاه الحراك بلغ 59 شخصًا.
لكن سرعان ما عادت السجون ومراكز الإيقاف الجزائرية لتمتلئ مرة أخرى بنشطاء الحراك، حيث قارب عدد الموقوفين 70 شخصًا، آخرهم ثمانية ناشطين في الحراك تم إيقافهم يوم الثلاثاء، باعتبارهم يقودون جمعية ثقافية تنشط في حي باب الواد الشعبي، حصلوا على تمويل من ممثلية دبلوماسية تتبع دولة أجنبية في الجزائر، لاقتناء معدات وتجهيزات تكنولوجية، وفق الأمن الجزائري.
يقول النظام الجزائري إن هاتين الحركتين استغلتا انسحاب بعض الكتل السياسية من الحراك حتى تقوداه وتتزعّما الاحتجاجات.
بالتزامن مع ذلك، رفض القضاء إخلاء سبيل 23 ناشطًا في الحراك -بينهم 22 في سجن الحراش في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية- مضربين عن الطعام منذ 17 يومًا، بعد اعتقالهم خلال مشاركتهم في مسيرة نددت بالسلطة الحاكمة والانتخابات، وفق “اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين”.
لم تكتفِ السلطة باعتقال نشطاء الحراك، بل تفننت في تعذيب عدد كبير منهم وفق الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، التي دعت إلى فتح تحقيقات في وقائع تتعلق بتعرض معتقلي الحراك الشعبي للتعذيب، وأكّدت الرابطة أن شهادات ناشطي الحراك التي “توجه الاتهام لأجهزة الأمن عن أعمال تعذيب واغتصاب خلال الحجز الاحتياطي أو التوقيف تتواصل، في حين أن التعذيب محظور رسميًّا ويعاقب عليه القانون”.
وكان الطالب وليد نقيش البالغ من العمر 25 عامًا قد أكّد أثناء محاكمته في الأول من فبراير/ شباط الماضي، أنه تعرض “للاعتداء الجنسي والجسدي واللفظي” من قبل عناصر في أجهزة الأمن أثناء توقيفه احتياطيًّا، ما خلّف صدمة واستياء واسعًا في الجزائر وخارجها.
ضرب الحراك
تتمحور غالبية التهم الموجهة إلى المعتقلين حول “العمل مع مجموعات انفصالية” و”التنسيق مع حركات غير شرعية مقربة من الإرهابيين” و”تهديد الأمن العام والسلم الوطني” فضلًا عن “العمالة للخارج”، وفقًا لكلام الرئيس عبد المجيد تبون.
هذه التهم وكلام تبون عقب الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للأمن، يُفهم منه أن السلطة استدعت حركتي “ماك” (الحركة من أجل تقرير مصير في منطقة القبائل) و”رشاد” لضرب الحراك ومحاولة السيطرة عليه.
وكان تبون قد أطلق يد الأجهزة الأمنية لمحاربة أي وجود سياسي لحركة “رشاد” التي تضم عناصر من الجبهة الإسلامية للإنقاذ السابقة، والحركة من أجل تقرير مصير في منطقة القبائل التي تطالب بانفصال منطقة القبائل وتزعم تأسيس حكومة في المنفى.
ويقول النظام الجزائري إن هاتين الحركتين استغلتا انسحاب بعض الكتل السياسية من الحراك حتى تقوداه وتتزعّما الاحتجاجات، الأمر الذي ينفيه العديد من نشطاء الحراك الذين يصرّون على سلمية احتجاجاتهم، ويرتكز النظام في ذلك على الشعارات التي رُفعت في المظاهرات مؤخرًا، والتي تهاجم الجيش والجنرالات وتصف تبون بالرئيس الذي جاء به العسكر.
« تريد السلطة أن تبقى المفسر الوحيد لقوانين الحياة في الجزائر عاملة على قتل كل روح نقدية ومنع كل معارضة خارج تقديرها والحجر على كل فهم أو تدبير مغاير = بالنسبة لها كل قول خارج مقولاتها هو جزء من حراك يعاقب عليه القانون لديهم. » #حراك_الطلبة_113#حراك pic.twitter.com/n3WYfKCtpo
— Medjahed Chafik (@ChafikMedjahed) April 20, 2021
أما حركة “ماك”، فهي حركة تطالب باستقلال منطقة القبائل التي يسكنها الأمازيغ، ويرى النظام أنها حركة انفصالية. وبدأ مطلب حركة “ماك”، التي ترأسها فرحات مهني، بالدعوة إلى إقامة حكم ذاتي في المنطقة، قبل أن يتطور إلى مطلب انفصال تام عن الجزائر، لكن حضورها ضعيف في أوساط الجزائريين حتى في منطقة القبائل.
تشكّل الحركة حكومةً مقرها في باريس، وتضم إضافة إلى ما تصفه الحركة بالرئيس فرحات مهني، ورئيس حكومة زيدان لفضل، 18 وزيرًا، خمسة منهم لا تنشر صورهم لأسباب تقول إنها أمنية، وللحركة وكالة أنباء باسم “سيوال”.
استدعاء “ماك” و”رشاد”
يرى عبد الله كمال الناشط في الحراك الجزائري، أن “النظام يستعمل هاتين الحركتين لتخويف القطاعات الشعبية الواسعة المصرّة على إسقاطه، فحركة “رشاد” تنشط بشكل كبير من الخارج وبالتالي يلعب النظام على وتر التوجس من الخطر الخارجي والتأثير الدولي بالإضافة إلى ورقة الإسلاموية وربطها بالإرهاب”.
يضيف كمال في حديثه لـ”نون بوست”: “هذه رسالة للداخل والخارج معًا، للداخل من أجل التحذير من سيناريو التسعينيات والعشرية السوداء، وللخارج لركوب موجة الإسلاموفوبيا والتضييق على الإسلاميين”.
تجدّد الاحتجاجات رغم القمع الأمني ووباء كورونا، يؤكد فشل النظام في السيطرة عليها وتطويعها وفق الرؤية التي تخدم مصلحته.
أما بخصوص “ماك”، يقول عبد الله كمال إنها “حركة انفصالية غير منخرطة في الحراك ولا تشارك فيه لأنها لا تعترف بالمرجعية الوطنية، بل هي تتهكم على أبناء منطقة القبائل الذين يشاركون في الحراك وتسخر منهم في صفحاتها، مع ذلك فإن النظام يصر على المغالطة وتزييف الحقائق واستخدام أي وسيلة لضرب الحراك، لأن سلميته ووحدته واستمراريته تعرّي الدعاية الفجة لأبواقه”.
مواصلة الاحتجاجات الشعبية
رغم محاولات النظام السيطرة على الحراك، يشدّد عبد الله كمال على أن هناك إصرارًا حقيقيًّا على مواصلة الاحتجاجات الشعبية، فالمشاركون فيها يرون أنفسهم في موجة ثورية جديدة من ثورة التحرير التي قامت ضد الاستعمار، لكن الحراك ليس إلا عرضًا وردّة فعل على مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية وتخلف حضاري شديد العمق، وفق قوله.
يضيف محدّثنا: “حتى إن استطاعت السلطة احتواء الحراك بالقمع أو بوسائل ناعمة أخرى، فإن الأسباب التي أدت إلى انطلاق الحراك تتوسع أكثر فأكثر، وربما ينذر هذا بصورة احتجاجية أكثر راديكالية من الحراك، وقد تتمنى السلطة أن تجد معارضة عاقلة مثل تلك الموجودة في الحراك ولا تجدها بعد فوات الأوان”.
الثلاثاء الـ113.. حراك الطلبة السلمي تزامن هذه المرة مع ذكرى الربيع الأمازيغي الأسود (20 ـ 04 ـ 2001).. وحضور شرائح عدة من المجتمع جنبا إلى جنب مع الطلبة في الجزائر العاصمة خصوصا.. دليل على تبني مطالب الحراك النبيلة.. من أجل تغيير شامل يطيح بنظام الفساد والاستبداد #الحراك_مستمر pic.twitter.com/Fp8050JQpL
— عثمان سابق (@AthmaneSabeg) April 20, 2021
تجددت اليوم الجمعة المسيرات في العاصمة الجزائرية ومدن أخرى في الجمعة الـ 114 للحراك الشعبي، ورفع المشاركون في العاصمة شعارات تنادي بالتغيير الجذري والديمقراطي وإرساء دعائم دولة القانون، كما طالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، كما جدد المحتجون تأكيدهم على معارضتهم الانتخابات التشريعية المقررة يوم 12 يونيو/حزيران المقبل.
تجدُّد الاحتجاجات رغم القمع الأمني ووباء كورونا، يؤكد فشل النظام في السيطرة عليها وتطويعها وفق الرؤية التي تخدم مصلحته، ما يؤكد أن الجزائر قادمة على أيام صعبة بين النظام والمحتجين، فكل طرف مصرّ على تطبيق توجهه.