على خلاف ميادين الصراع التقليدية التي استحوذت على اهتمام الطرفين الإيراني والأمريكي، والحديث هنا عن مضيق هرمز وخليج عُمان وغيرها، فإن أفغانستان شكلت بنظر إيران إحدى أبرز البيئات الإستراتيجية التي يمكن إحراج الولايات المتحدة فيها.
وفي الوقت الذي تجاهد فيه الولايات المتحدة لإبقاء قواعد الصراع مع إيران ضمن ميادين تقليدية معروفة، فإن بنك الأهداف يبدو أكثر مرونة أمام إيران، وذلك بفعل طبيعة انتشار حلفاء إيران على عدة مسارح عسكرية، تمتد من جنوب شرق آسيا حتى البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يجعل أفغانستان ذات أهمية كبيرة لإيران في استفزاز الإدارة الأمريكية الجديدة.
شكل اتفاق السلام الذي وقعته الولايات المتحدة مع حركة طالبان العام الماضي، أحد أبرز التحولات الإستراتيجية في منطقة جنوب شرق آسيا، الذي يقضي بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان في 11 من سبتمبر/أيلول 2021، وهي رغبة أمريكية أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرًا، ما يشير إلى حالة إرهاق أمريكي من حرب لا منتصر فيها في أفغانستان.
ونظرًا للمواقف المترددة لقيادات حركة طالبان من هذا الاتفاق، ما يرشح فرضية انهياره في أي لحظة مستقبلًا، فإن إيران هي الأخرى ليس لديها تصور واضح عن طبيعة الموقف المستقبلي في أفغانستان أيضًا.
وفي هذا الإطار، مثل تحالف القبائل في شمال أفغانستان أحد أبرز حلفاء إيران في الساحة الأفغانية، إلى جانب مليشيات فاطميون (شيعة الهزارة)، فقد تمكن قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني من نسج علاقات تحالف عسكري وثيق معهم خلال سنوات الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من التنسيق الإيراني الأمريكي، لتحقيق الاستقرار في الساحة الأفغانية خلال تلك الفترة، فإنه بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وإعلان الإدارة الأمريكية عن محور الشر، الذي يضم إيران إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، أدى هذا الإجراء الأمريكي إلى إنهاء التنسيق الاستخباري بين الطرفين، والتحول من حالة التعاون إلى حالة الصراع في أفغانستان.
من المتوقع أن إيران ستواجه مزيدًا من التحفظ في حدودها الشرقية، وترسيخ مركزية الجماعات المحلية الحليفة لها في الداخل الأفغاني
تحول في الإستراتيجية الإيرانية بعد سليماني
شكل إعلان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان مؤخرًا، هدفًا إيرانيًا مهمًا لمرحلة ما بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وهو هدف مرتبط بهدف آخر متمثل بجهود إيرانية لتحقيق انسحاب القوات الأمريكية من العراق أيضًا، هذه القوات التي لطالما ألقت طهران باللوم عليها، في استهدافها واستهداف حلفائها في المنطقة، فانسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة من أفغانستان، يمكن أن يفسح المجال لإيران للمناورة في أفغانستان، البلد الذي لديه قواسم مشتركة مع إيران.
إلا أن التساؤل المهم هنا: ماذا لو أدى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إلى عودة دوامة الفوضى والصراع مرة أخرى إلى أفغانستان؟
الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه، رغم تأكيد الإدارة الأمريكية على مصطلح “الانسحاب المسؤول” من أفغانستان، لا ضامن حتى اللحظة من تطبيع الأوضاع في هذا البلد بعد الانسحاب، بل إن تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، قد يجد طريقه إلى أفغانستان مجددًا، في حالة لم تكن هناك التزامات أمريكية واضحة حيال هذا البلد.
وعلى الجانب الإيراني، فمن غير المرجح أن تواجه إيران مرة أخرى فيضانًا من المشكلات الإنسانية والأمنية من أفغانستان، بالطريقة نفسها التي أدت بها الحرب الأهلية الأفغانية سابقًا، أو حتى الحرب في أفغانستان عام 2011، إلى طوفان من اللاجئين الأفغان، وهو ما يجعل إيران هي الأخرى متشككة من تداعيات ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، إذ إن التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها اليوم، ستجعلها أمام مشهد معقد للغاية.
ورغم أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، سيخلق فراغًا في السلطة، ويمنح طهران مجالًا أكبر لزيادة نفوذها، سواء من خلال المسؤولين الأفغان أم الجماعات المسلحة القريبة منها، بما في ذلك حركة طالبان، فإنه بالمجمل ليس من الواضح إلى أي مدى ستسعى إيران لتوسيع مصالحها في أفغانستان، وكيف ستتعامل مع مخاوفها التي يأتي في مقدمتها تحدي الهجرة وضبط الحدود.
من المتوقع أن إيران ستواجه مزيدًا من التحفظ في حدودها الشرقية، وترسيخ مركزية الجماعات المحلية الحليفة لها في الداخل الأفغاني، والأهم من كل ما تقدم، التعامل بحذر مع فراغ السلطة الذي سينشأ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مقابلة له عبر الإنترنت الأسبوع الماضي، مع مسؤولين أفغان وهنود، معتبرًا أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بمثابة حرب جديدة، ولا يمكننا تحملها مع وجود 3 ملايين لاجئ أفغاني في إيران، فليس باستطاعة إيران فعل المزيد فيما لو تكررت الحالة.
إن إحدى فرضيات الانغماس الإيراني المباشر في الحالة الأفغانية، هي إمكانية عودة نشاط تنظيم داعش بعد الانسحاب الأمريكي
تحركات إيرانية متوقعة
إن التعقيد الذي تواجههٌ الحالة الإيرانية في أفغانستان، سيجعل إيران تمارس دور الإطفائي لأي تصعيد مفترض في الداخل الأفغاني، سواء عبر دعم جهود حلفائها لضمان الاستقرار وتعزيز أمن الحدود أم ربط الاستقرار في أفغانستان ضمن مسارات الحوار الحاليّ في فيينا مع الولايات المتحدة، وإجمالًا فإن الاستجابة الإيرانية للحالة الأفغانية ستعتمد على درجة التهديد الذي ستواجهه طهران مستقبلًا.
وهنا يمكن القول إن الروابط التي تؤطر العلاقات بين إيران وحركة طالبان من جهة، والقاعدة العسكرية التي يمثلها لواء فاطميون الأفغاني من جهة أخرى، تشكل خيارات إيرانية متعددة لضبط الإيقاع الأفغاني حسب التوجه الذي تريده طهران، كما يمكن لإيران إعادة تأسيس محور إيران وروسيا والهند، لدعم انتقال سياسي جديد في أفغانسان بعيدًا عن الرؤية الأمريكية.
إن إحدى فرضيات الانغماس الإيراني المباشر في الحالة الأفغانية، هي إمكانية عودة نشاط تنظيم داعش بعد الانسحاب الأمريكي، إذ حذر ظريف في بيان أصدره في 16 من أبريل/نيسان، من وجود تنظيم داعش في أفغانستان، وأشار إلى أن التنظيم تبنى حتى الآن مسؤولية عدد من الهجمات القاتلة في أفغانستان، وقال ظريف: “نشهد الآن دور داعش، لا نعرف من يدعم داعش في أفغانستان، بالطبع، لدينا بعض الأدلة الموضوعية عن الأشخاص الذين خططوا لنقل داعش من العراق وسوريا إلى أفغانستان”، وأضاف “داعش خطر على أفغانستان وإيران وباكستان والجميع، لذلك لدينا تهديد مشترك”.