فقدت فرنسا، قبل أيام قليلة، أحد أبرز حلفائها في القارة الإفريقية – رئيس جمهورية تشاد إدريس ديبي، الذي مات متأثرًا بجروح أصيب بها في أثناء وجوده في ساحة المعارك مع متمردين شمال البلاد حسب الرواية الرسمية، ما جعل باريس تتحرّك بسرعة وتدعم نجل ديبي لتولي الحكم رغم يقينها أن الأمر يتعارض مع الدستور التشادي، ما اعتبر محاولة فرنسية جديدة لفرض الاستبداد في هذا البلد ومنع الشعب هناك من فرصة تاريخية لانتقال ديمقراطي بعد أن عانى من ويلات حكم ديبي لثلاثة عقود من الديكتاتورية.
دعم الجيش
مباشرة عقب إعلان وفاة الرئيس – الذي حكم تشاد طيلة 30 عامًا- أعلن عن تشكيل مجلس عسكري لقيادة البلاد، حيث قال المتحدث باسم الجيش الجنرال عازم برماندوا أغونا -في بيان تلي عبر الإذاعة الوطنية- إنه “تم تشكيل مجلس عسكري بقيادة نجله الجنرال محمد إدريس ديبي إيتنو (المعروف أيضًا بالجنرال محمد كاكا)”، وأضاف أن “المجلس اجتمع على الفور وأعلن ميثاق انتقال السلطة”.
وأوضح عازم برماندوا أغونا أن “المجلس العسكري الانتقالي سيدير شؤون البلاد لمدة 18 شهرًا ويضمن وحدتها واستقرارها”، وأضاف أن “المجلس سيعلن ميثاقًا بشأن حل البرلمان والحكومة، كما دعا في الوقت نفسه “جميع التشاديين في الداخل والخارج إلى الحوار”، وقال إنه سيعمل على تشكيل حكومة ومؤسسات انتقالية تشرف على تنظيم انتخابات.
بالتزامن مع ذلك، عين محمد إدريس ديبي -الذي كان حتى وقت وفاة والده يتولى قيادة الحرس الرئاسي وحماية النظام والحكومة والجمعية الوطنية- 14 جنرالًا يُعرف أنهم من بين الأكثر ولاء لوالده أعضاء في المجلس العسكري الانتقالي.
أيّدت فرنسا -القوة المستعمرة السابقة- إنشاء المجلس العسكري الجديد وتولّي نجل ديبي السلطة
تم تشكيل مجلس عسكري بسرعة كبيرة وأسندت مهام رئيس الجمهورية ومنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة لنجل الرئيس المقتول، رغم أن دستور تشاد ينص على أن يتولى رئيس البرلمان رئاسة البلاد مؤقتًا عند وفاة الرئيس أو عجزه عن أداء مهامه، وتجرى انتخابات رئاسية جديدة خلال 45 يومًا على الأقل، و90 على الأكثر من تاريخ الشغور، وهو ما اعتبر انقلاب على دستور البلاد.
ما حصل وصفته أحزاب المعارضة التشادية الرئيسية بـ”الانقلاب المؤسسي”، إذ دعا نحو ثلاثين “حزبًا سياسيًا من المعارضة الديمقراطية إلى إقامة مرحلة انتقالية يقودها مدنيون من خلال حوار شامل” وفق بيان مشرك، وبين الموقعين حزب صالح كبزابو خصم إدريس ديبي “التاريخي”، وحزب سوكسيه ماسرا أحد أشد معارضي نظام الرئيس السابق.
وأوضح محمد بشارة المتحدّث باسم هذا التحالف أن “دور الجيش هو ضمان أمن الحدود وليس الاستيلاء على السلطة”، فحتى لو كان الحديث عن 18 شهرًا فقط، فإن الناس بعد ذلك قادرون على خلق تمرد حتى يتمكنوا من إطالة مدّة حكم نجل الرئيس الذي كان تقريبًا مثل عمر والده عندما تولى السلطة.
من جهته، أعرب مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، الهيئة المسؤولة عن قضايا الأمن والسلام في الاتحاد الأفريقي، في بيان عن “قلقه العميق” إزاء تشكيل مجلس عسكري في تشاد برئاسة نجل الرئيس الراحل، ودعا القوات التشادية إلى “احترام التفويض والنظام الدستوري والانخراط بسرعة في عملية لإعادة إرساء النظام الدستوري ونقل السلطة السياسية إلى السلطات المدنية”.
تكريس فرنسي للاستبداد
تصر المعارضة التشادية والاتحاد الافريقي على ضرورة احترام دستور البلاد وانتقال السلطة بطريقة سلمية إلى رئيس البرلمان والمدنيين، لكن في مقابل ذلك أيّدت فرنسا -القوة المستعمرة السابقة- إنشاء المجلس العسكري الجديد وتولّي نجل ديبي السلطة.
في دليل على دعمه للسلطة الجديدة، حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الجمعة مراسم تشييع الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي إتنو، ووعد ماكرون بتقديم دعمه للمجلس العسكري برئاسة نجل الرئيس الراحل، محمد إدريس ديبي، للحفاظ على “استقرار” حليف باريس الاستراتيجي في المنطقة.
فرنسا التي دعمت الراحل ديبي منذ وصوله إلى السلطة عام 1990 على رأس حركة تمرد، هاهي الآن تدعم ابنه الذي وصل السلطة بطريقة غير دستورية، اعتبرت انقلابًا في تشاد، ما يعني أنها لم تغيّر سياستها في هذا البلد الإفريقي وأنها مصرّة على تكريس الاستبداد هناك.
ويخشى سكّان تشاد أن يمكث محمد إدريس ديبي في الحكم كأبيه لمدّة 30 سنة أخرى، وأن يكرّس القمع والديكتاتورية على خطى والده، وتزداد نسب الفقر والبطالة والاحتقان الاجتماعي والتراجع الاقتصادي.
منع انتقال ديمقراطي
بدعم “الانقلاب المؤسساتي” وتولي محمد إدريس ديبي السلطة، تكون فرنسا قد منعت مجدّدًا انتقالًا ديمقراطيًا في تشاد وفوّتت الفرصة على التشاديين للتخلّص من الديكتاتورية وفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد ترتكز على الديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات.
بقيت فرنسا وفيّت لسياستها الخارجية التي تقوم على دعم الأنظمة الدكتاتورية في أفريقيا، رغم الضغوطات الشعبية والدولية الكبيرة التي تطالبها بالتخليّ عن ذلك، ففي تشاد مثلًا أشرفت فرنسا على عديد الانقلابات العسكرية كما حصل أعوام 1975 و1979 و1980 و1991.
فرنسا التي تورَّطت سلفا في اغتيال أو الإطاحة بـ 22 رئيسًا أو رئيس وزراء أفريقي لضمان مصالحها، ترى أن حماية مصالحها في تشاد يتطلّب منها منع عملية انتقال ديمقراطي هناك، فلو وصل المدنيين للسلطة لفقدت باريس امتيازاتها هناك.
ليس من السهل أن تتخلى فرنسا عن تواجدها في تشاد وفي دول إفريقيا، لذلك تدعم الاستبداد والديكتاتوريات وتمنع عمليات الانتقال الديمقراطي
تعتبر دولة فرنسا الاستعمارية الفاعل الأبرز في مجريات الأحداث في دولة تشاد، فهي التي تدير الأمور في مستعمرتها السابقة وتتحكم في الجيش وأجهزة الدولة وقصر الحكم وحتى المعارضة بما يتوافق مع مصالحها.
تاريخ أسود
دعم الديكتاتوريات لم يظهر في تشاد فقط، فعلى مدى العقود الخمس الماضية نفذت فرنسا عديد العمليات العسكرية للحفاظ على وجودها الاستعماري في القارة الإفريقية وخاصة مستعمراتها السابقة التي تمتلك ثروات باطنية مهمة، تستغلها باريس لتوسيع نفوذها ومكانتها العالمية رغم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها.
وتعتبر إفريقيا بالنسبة إلى فرنسا مصدر حياة لا يجب التخلي عنه، فقد سبق أن صرّح الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قائلًا: “دون إفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث”، للتأكيد على أهمية الدول الإفريقية لدى فرنسا خاصة من الناحية الاقتصادية، وهو ما قاله فرانسوا ميتيران عام 1957، قبل أن يتقلد منصب الرئاسة: “دون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين”.
نفَّذت فرنسا تدخُّلات عسكرية نشطة في كلٍّ من الكوت ديفوار وجيبوتي وغينيا وجور القمر والغابون والكونغو الديموقراطية ومالي وأفريقيا الوسطى وتشاد، ناهيك قواتها الموجودة بحكم الواقع في قائمة أخرى من البلدان كالسنغال وبوركينا فاسو وغيرها.
بعد ستين سنة من الاستقلال، لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالًا حقيقيًا ولا حرية، فالنفوذ الفرنسي مستمر في المستعمرات السابقة، رغم تنامي الغضب في نفوس الشعوب الإفريقية الرافضة لكلّ تواجد فرنسي في القارة.
ليس من السهل أن تتخلى فرنسا عن تواجدها في تشاد وفي دول إفريقيا، لذلك تدعم الاستبداد والديكتاتوريات وتمنع عمليات الانتقال الديمقراطي، فهي تخشى زوال امتيازاتها هناك لصالح الدول الإقليمية الصاعدة في إفريقيا على غرار روسيا والصين وتركيا.