على تنوع التشكيلات تحت مظلة اليسار التي تعددت فصائله من الشيوعية إلى الاشتراكية إلى يسار الوسط بشقيه الديمقراطي والاجتماعي وصولًا إلى اليسار الأناركي الراديكالي بالإضافة إلى القوميين، يصعب نظريًّا مراجعة مسار كل هذه التنظيمات وتحليل خريطة تشكيلاتها، لذلك سنركز في هذا التقرير على حركة اليسار العربي عامة وصيرورته التاريخية من النشأة والذروة وصولًا إلى العزلة.
رغم نشوء التيار اليساري العربي (القومي والاشتراكي والماركسي) في أواسط القرن الماضي، مقترنًا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة في ذلك التاريخ، وتمكّن بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم والسلطة، إلّا أن هذه الحركة عرفت عقودًا من العزلة ما دفع بعض المفكرين إلى الحديث عن أفوله في ظل صعود اليمين والتيار الشعبوي.
ذروة اليسار
لا أحد ينكر أن اليسار العربي بأشكاله وتنوع مرجعياته (شيوعي واشتراكي وقومي) نجح تاريخيًّا بالشراكة مع القوى الأخرى في تحقيق بعض الإنجازات على الأرض، فكان في مقدمتها مقاومة قيود الاستعمار وبناء حركة وعي جمعي من أجل التحرر، وتأثيث حراك سياسي وثقافي كان بدوره منطلقًا لبلورة مجتمع متحرك مدرك للتحولات العالمية والإقليمية المحيطة به.
كما ساهم اليسار في إنشاء النقابات العمالية وتنظيم الحركات الوطنية والدفاع عن مصالح الفئات الهشة (الشباب والمرأة)، حيث قام الحزب الشيوعي المصري عام 1922 بتأييد الحركات العمالية ضد الحكومة والاحتلال الإنجليزي، التي تسارعت وتيرتها في تلك الحقبة، وواصل انشغاله بالأحداث الوطنية والعربية رغم صداماته المتكررة مع السلطة التي التجأت إلى حله في آخر المطاف، إلّا أن اليسار المصري عاد إلى الواجهة مرة أخرى بواسطة خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة حركة ضباط يوليو/ تموز 1952.
هذا الحراك جعل من الماركسية واليسارية المصرية أن تبلغا مستوى عاليًا من الأداء والتأثير خلال النصف الأخير من القرن العشرين، فقد التحما بالقواعد الجماهيرية إلى درجة أن الجموع الفاقدة للوعي السياسي وللفهم الواضح للمصطلحات الدخيلة كالشيوعية واللينينية والتروتسكية كانت نظرتها إيجابية إلى حد بعيد.
حاول اليسار العربي أيضًا بمكوناته الفكرية العمل على نشر الأفكار الثورية الجديدة من أجل دعم مسارات النضال وفك شروط الارتباط والتبعية للقوى الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا)، واشتغل منذ نشأته على تنظيم تطلعات المجتمع العربي وتوحيد الصفوف لمجابهة المؤامرات التي تُهدد وحدته وتعمل على تقسيم رقعته وتفتيتها على غرار اتفاقية سايكس بيكو.
ونتيجة لذلك، تمكنت القوى اليسارية كالحزب الشيوعي السوري اللبناني (1924) أو المصري من بناء حركة جماهيرية ممتدة ومترابطة، فيما نجح الحزب الشيوعي العراقي في ضم أكثر من مليون منخرط من جملة 7 ملايين نسمة للتعداد السكاني في عام 1959.
في مقابل ذلك، عجزت هذه التيارات التي نشأت في أمة مضطهدة عن التحوّل إلى حركة فكرية تنويرية قائمة بذاتها متحكمة في عملية البناء السياسي، بل أصبح أغلبها منخرطًا في الانقلابات العسكرية وإحدى الدعائم التي قامت عليها الأنظمة الكُليانية والفاشية التي اضطهدت وحاربت دعاة التحرر.
التراجع
تاريخيًّا، يعود تراجع اليسار العربي (الشيوعي) وبدايات سقوطه إلى موافقة ثلاث أحزاب شيوعية عربية (العراقي واللبناني والأردني) على قرار تقسيم فلسطين عام 1948 وتأييدها للاتحاد السوفيتي في تلك الخطوة، معتبرين أن الوقوف بوجه التقسيم ومنع قيام دولة لليهود في فلسطين ليس إلا مؤامرة يديرها الاستعمار الأنجلو أميركي.
ففي تلك الفترة الحاسمة أصدرت الأحزاب الشيوعية العراقية والسورية اللبنانية والأردنية وكذلك المصرية بيانات ونشريات معارضة للحرب التي خاضتها الجيوش العربية، ووصفتها بحرب دينية عنصرية ودعتها إلى الانسحاب من فلسطين، وذلك وفق ما جاء في كتاب “ثورة 14 تموز بين الانقلاب الشيوعي وثورة الموصل” لعبد الهادي الفكيكي.
هذا الموقف بيّن بما لا يدع مكانًا للشك أن هذا التيار كان منبتًّا عن القضايا المصيرية للأمة، وذلك باعتماده كليًّا على ما جادت به الكتب الحمراء التي يطبعها الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت وعلى الدعاية التي كان يروجها، أي أنّ سياسته لم تكن حصيلة قراءة للواقع ولتطلعات الشعوب العربية.
ويمكن القول إن رهان اليسار الماركسي العربي على الاتحاد السوفيتي وارتباطه الوثيق به، خاصة بعد فوزه في الحرب العالمية الثانية، سقط مرة أخرى حين دعم الأخير الأنظمة الشمولية في أكثر من قطر وبالتحديد في العراق وسوريا ومصر وكذلك السودان، وتخلى عن هذه الأحزاب التي بدورها ساندت صعود سلطة جديدة تنافسها في الأفكار.
من جهة أخرى، مثّل دعم اليسار لثورة جمال عبد الناصر في مصر نقطة تحول كبيرة، خاصة أن الأخير عمل منذ توليه الحكم على إزاحتهم من المشهد، فيما شكّل دعم الشيوعيين العراقيين لثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 حدثًا مفصليًّا في تراجع هذا التيار، فقد استغلت السلطة الجديدة أحداث الموصل وكركوك للقيام بحملة واسعة النطاق لاجتثاثهم وتقليم أظافرهم، ليتكرر الأمر مع صعود حزب البعث (1963) الذي حارب الشيوعيين وأجهز على ما يقارب الخمسة آلاف شيوعيًّا من بينهم الأمين العام حسين أحمد الرضي.
وفي السودان أيضًا، دعم الشيوعيون انقلاب جعفر النميري عام 1969، الذي تمكن من الإطاحة بمحاولة انقلابهم عليه بعد عامين بمساعدة مصرية ليبية، وقام بإعدام الضباط وعدد من قيادات الحزب الشيوعي بينهم الأمين العام عبد الخالق محجوب.
لم تكن أزمة الأحزاب الشيوعية واليسارية في تلك المرحلة مقتصرة على تخلي الاتحاد السوفيتي عن حلفائه، فالأنظمة الصاعدة في تلك البلدان نافست الأحزاب في موالاتها لموسكو وتلوّنت بدورها بشعارات اشتراكية وانخرطت في سياستها الجيواستراتيجية الجديدة، وعملت على تجريف الحياة السياسية ومحاصرة المعارضة لمنعها من حمل مشروع تحرر وطني.
أما في المغرب العربي، ولئن راكمت الأحزاب اليسارية تجارب نضال متنوعة إبان مقاومة الاستعمار ومجابهة مخططاته لتصفية الثورات الشعبية، إلّا أن مشاريعها بقيت في إطار النخبة الضيقة التي لم ترتقِ مرتبة الفعل السياسي المنظم، ولم تخرج عن سياق التشرذم والانقسام والصراعات الأيديولوجية التي عرفها المشرق، حيث استغل الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ما سمّي بالمحاولة الانقلابية الفاشلة لعام 1962، للإجهاز على ترسبات المعارضة، خاصة بعد اغتيال صالح بن يوسف في 12 أغسطس/ آب 1961 بمدينة فرانكفورت الألمانية، ووقف التعددية السياسية.
ورغم أن القوى اليسارية ملأت الفراغات بالقضية الفلسطينية عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967 عبر ظهور جيل يساري جديد في العالم العربي مطّلع على التحولات الدولية، كالشبيبة التونسية واللبنانية والفلسطينية بالمهجر، إلّا أن اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري أنور السادات في 17 سبتمبر/ أيلول 1978 وقيام الثورة الإيرانية عام 1979 وصعود التنظيمات الإسلامية مثل حماس (فلسطين) وحركة الاتجاه الإسلامي (تونس)، وانهيار الاتحاد السوفيتي (1991)، سحب البساط من تحت أرجل اليسار الجذري.
كل هذه العوامل حالت دون تحوّل اليسار بتشكيلاته إلى تيارات فاعلة في الحياة السياسية العربية، فهي لم تصل إلى السلطة في أي بلد، باستثناء “اليمن الديمقراطي السابق”، ولم تستطع حتى المشاركة في الحكم، بل إنها فوق ذلك انحسرت كثيرًا لعدة أسباب.
مكامن العطب
تعاني أحزاب اليسار العربي من أزمة تنظيمية وهيكلية أضعفت فاعليتها واندماجها الشعبي، فمعضلة الماركسيين تكمن في علو الفكر على القدرة العملية. فلم تخرج المعارضة اليسارية وخاصة الماركسية عن كونها حالة كلامية (شعارات)، ولم تبلغ بعد مستوى التعرُّف الدقيق إلى مشاكل الجماهير ومطالبها واحتياجاتها الموضوعية.
واعتمادها الكلي على التفكير بعقلٍ مُستعار، وهو ما يقود إلى إعطاء أفكار مسبقة وأجوبة مُعَلَّبة عن الأسئلة التي يفرزها الواقع اليومي، يعني الفقر المعرفي والعجز التطبيقي.
إضافة إلى، غياب الانسجام بين النظري والعملي، وانحصار دائرة فعلها السياسي في نطاق شرائح اجتماعية هامشية إلى حد كبير يغلب عليها الطابع الثقافي الفوقي.
كما كانت مشاريع اليسار في مجملها طوباوية لا تستند إلى قراءات واقعية للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد أصيب اليسار العربي بمتلازمة النقص النظري (Theoretical Deficiency) فى فهم مقومات الواقع المتجدد وبنيته وآليات عمله، وظلت حركته مقتصرة على الصياغات الفقهية، وهو نوع من الكسل الفكري.
ولتوضيح الصورة أكثر، أكّد المحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي في تصريح لـ”نون بوست”، أن أزمة اليسار العربي تاريخية تتعلق بمجموعة عوائق تولدت داخل ذلك الفضاء منذ سنوات بعيدة، جعلته يفقد شعبيته ويعاني من توسع الفجوة بينه وبين الجماهير العربية التي تحولت إلى أزمة ثقة في قدرته على قيادة المرحلة التاريخية وتقديم إجابات دقيقة وفاعلة لمواجهة المشكلات التي حصلت في العالم العربي، سواء ذات طابع اقتصادي واجتماعي أو أيديولوجي وسياسي، ما جعلته ينحسر تدريجيًّا.
وأشار الجورشي الى أن الأزمة تعمقت بانفجار الجماعات اليسارية الى مكونات صغيرة جعلتها عاجزة عن تغيير موازين القوى لصالحها ومقاومة أنظمة الحكم، زد على ذلك الخلافات الأيديولوجية التي أفقرته على المستوى الفكري والنظري، فيما أدى حرص زعاماته على تحصيل مواقع صغيرة داخل السلطة إلى جعل اليسار مجموعات صوتها مرفوع وتأثيرها محدود جدًّا.
على صعيد آخر، إن اليسار العربي سواء كان ماركسي لينيني أو ماوي أو قومي والذي كان سابقًا في تكوينه ونشأته الحركة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين 1928)، عرف انتكاسات كبرى في تاريخه وأزمات ناجمة عن سوء تقدير وتموقع أو قمع السلطة وحصارها، إلّا أن التيار الإسلامي تمكن من تجاوز كل هذه العقبات وفرض نفسه على الساحة العربية وبات رقمًا مهمًّا في المعادلة السياسية، خاصة في تلك البلدان التي عرفت ثورات شعبية بعد عام 2011.
بعد هذا الطرح، يمكن القول إن ثورات الربيع العربي كشفت عورات اليسار الهرم الذي طالما رفع شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتغنّى ببطولات ماركس وإنجلز ولينين، فمع هبوب أولى رياح التغيير لم تصمد أطروحاتهم وفشلت محاولاتهم لنفخ الروح من جديد، وخيّروا العودة إلى المهادنة والانحياز إلى العسكر بدلًا من الصناديق، وهو ما يرجح مقولة أن اليساريين كانوا دومًا مفتونون بالطغاة.