ترجمة وتحرير نون بوست
تولي تركيا اهتماما كبيرا لعلاقتها بكازاخستان وذلك يعزى أساسا إلى الروابط الثقافية والتاريخية المشتركة التي تجمعها مع كازاخستان وغيرها من دول آسيا الوسطى والشعوب الناطقة باللغة التركية، فضلا عن المصالح السياسية والاقتصادية. لهذا السبب، تحظى كازاخستان بمكانة خاصة على قائمة الأولويات التركية.
في البداية، عملت تركيا على تعزيز علاقتها مع أكبر دولتين في آسيا الوسطى، وهما كازاخستان وأوزبكستان. وبمرور الوقت، تطورت العلاقات التي تجمع تركيا بكازاخستان أكثر لتتخذ أبعادًا مؤسسية. في المقابل، تأثرت العلاقات بين تركيا وأوزبكستان ببعض الخلافات السياسية منذ التسعينات، بسبب منح أنقرة حق اللجوء لبعض شخصيات المعارضة الأوزبكية بما في ذلك زعيم حزب المعارضة اليميني “إرك ليبرتي” محمد صالح، ورفض تسليمهم إلى السلطات الأوزبكية
سبق أن أعربت السلطات الأوزبكية عن قلقها إزاء التوسع الاقتصادي والثقافي التركي في المنطقة، بعد أن رأت في خطوات أنقرة رغبة في ترسيخ مكانة “الشريك الكبير”. نتيجة لذلك، سلطت بعض الضغوطات على الشركات التركية الناشطة في أوزبكستان. وإلى حين وصول الرئيس شوكت ميرزيوييف إلى السلطة، عرفت العلاقات بين البلدين توترا غير مسبوق.
بالنسبة لكازاخستان، أعربت تركيا عن إعجابها بالنهج البراغماتي الذي تتبعه والطبيعة السياسية متعددة النواقل، فضلا عن إمكاناتها كبلد غني بالثروات الطبيعية ناهيك عن امتلاكها بنية تحتية متطورة نسبيا لممارسة النشاط الاقتصادي ومناسبة تماما للأعمال التجارية التركية. إلى جانب ذلك، تعتبر كازاخستان أقرب إلى تركيا مقارنة بأوزبكستان، يفصل بينهما ممر بحري عبر بحر قزوين وأراضي أذربيجان، التي تجمعها هي الأخرى علاقة خاصة مع تركيا.
إن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لكازاخستان وتواجدها وسط أوراسيا، فضلا عن الدور النشط الذي تلعبه في تطوير ممرات النقل العابرة لأوروبا وآسيا في إطار تنفيذ مبادرة الحزام والطريق الصينية، يجعلها محط اهتمام أنقرة. تهتم السلطات التركية بممرات النقل التي تمر من الشرق إلى الغرب عبر تركيا والدول الصديقة لها في القوقاز وآسيا الوسطى، ما يمكن أن يساهم في زيادة الوزن الجيوسياسي التركي ويخلق فرصة لإنشاء فضاء مشترك للتعاون الاقتصادي والسياسي في المستقبل البعيد.
يعتبر تعزيز العلاقات مع دول الشرق وجنوب شرق وجنوب آسيا والشرق الأوسط من أولويات الدبلوماسية الإقليمية متعددة الأطراف لكازاخستان
فيما يتعلق بكازاخستان وآسيا الوسطى، بات جليا أن تركيا تعمل وفقا لمفهوم العمق الاستراتيجي، الذي ساهم الرئيس السابق لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ووزير خارجية البلاد السابق أحمد داوود أوغلو إلى حد كبير في تطويره. تعد هذه الأفكار نتاج تحول في السياسة الخارجية التركية، تمثل في تراجع اعتماد تركيا على نفوذ واشنطن وحلف شمال الأطلسي مقارنة بفترة الثمانينيات والتسعينيات. ينطوي مفهوم العمق الاستراتيجي على إنشاء منطقة جذب لدمج تركيا مع الدول التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية أو تجمعها روابط عرقية ولغوية مشتركة. وفي الوقت الحالي، تشمل أولويات السياسة الخارجية لتركيا مناطق مثل الشرق الأدنى والشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى.
لم يتم تضمين هدف تطوير العلاقات مع تركيا رسميًا ضمن قائمة أولويات السياسة الخارجية الرئيسية لكازاخستان، إلا أن أسس تحديد أهداف نور سلطان في علاقتها بأنقرة قد وردت بشكل غير مباشر في مفهوم السياسة الخارجية لكازاخستان للفترة 2020 ـ 2030، الذي تم اعتماده منذ آذار/ مارس من السنة الماضية.
حسب هذه الوثيقة، تقوم الأولويات الرئيسية للدبلوماسية الإقليمية ومتعددة الأطراف لكازاخستان على مواصلة تطوير علاقات التحالف مع روسيا والشراكة الاستراتيجية الشاملة مع الصين، فضلا عن الشراكة الاستراتيجية الموسعة مع الولايات المتحدة الأمريكية والعلاقات الاستراتيجية مع دول آسيا الوسطى والشراكة الموسعة مع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن تركيا ليست على قائمة الأولويات الرئيسية.
يعتبر تعزيز العلاقات مع دول الشرق وجنوب شرق وجنوب آسيا والشرق الأوسط من أولويات الدبلوماسية الإقليمية متعددة الأطراف لكازاخستان. كما تكشف الوثيقة عن أهمية مشاركة كازاخستان النشيطة في أعمال المنظمات الدولية في منطقة آسيا، بما في ذلك المشاركة في أعمال منظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية، الذي تأسس في سنة 2009 بمبادرة من تركيا وكازاخستان وأذربيجان، ويضم جميع دول آسيا الوسطى باستثناء تركمانستان وطاجيكستان.
تعتزم كل من كازاخستان وتركيا تكثيف العلاقات الاقتصادية الثنائية وزيادة حجم التجارة المتبادلة إلى عشر مليارات دولار على المدى الطويل. في نهاية سنة 2020، تجاوز حجم التجارة بين تركيا وكازاخستان ثلاث مليارات دولار، لتحتل بذلك تركيا المركز الخامس في قائمة الشركاء الاقتصاديين لكازاخستان متقدمة على فرنسا. وعلى سبيل المقارنة، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وكازاخستان في نهاية 2019 19.6 مليار دولار.
نمت المشاعر المؤيدة لتركيا في كازاخستان بشكل أساسي بفضل عامل التقارب الثقافي واللغوي
ارتفع حجم الصادرات التركية إلى كازاخستان في نهاية السنة الماضية بنسبة 25 في المئة مقارنة بسنة 2019، بينما تراجعت الصادرات من كازاخستان إلى تركيا بنسبة 15 في المئة. ويرجع ذلك إلى أن نسبة هامة من صادرات كازاخستان إلى تركيا تتمثل في منتجات النفط والمواد الخام الأخرى مثل النحاس والألمنيوم. ومع ارتفاع أسعار الهيدروكربونات، من المرجح ارتفاع أرقام الصادرات الكازاخستانية إلى تركيا في السنة الجارية. ولكن تعتبر صادرات الهيدروكربونات تحت التهديد على المدى الطويل، بسبب المجهودات التي تبذلها الدول المتقدمة للانتقال إلى الطاقة الخضراء. أما على المدى المتوسط، قد تنخفض أسعار النفط بسبب احتمال رفع القيود عن إيران ودخول براميل إضافية من النفط الإيراني إلى السوق.
إن سيناريو تكثيف العلاقات التجارية بين البلدين، القائم فقط على زيادة الواردات التركية لا يخدم مصالح كازاخستان. وهذا يعني تكرار سيناريو التجارة بين كازاخستان وروسيا، حيث يؤدي تنوع الواردات الروسية من سنة إلى أخرى إلى تسجيل كازاخستان عجزا في ميزان التجارة الخارجية. يخدم السيناريو المتمثل في تكثيف العلاقات التجارية مع نور سلطان مصالح أنقرة، كونه يزيد من صادراتها ويتيح لها فرصة الاستفادة من أراضي كازاخستان وإمكانيات النقل والخدمات اللوجستية لتصدير البضائع إلى دول آسيا الوسطى الأخرى.
يعتبر تعزيز النقل والاتصالات اللوجستية مع كازاخستان عبر أذربيجان وبحر قزوين إحدى المسائل الهامة التي دفعت تركيا لتطوير جدول الأعمال الاقتصادي للتعاون الثنائي. وقد خلق نزاع كاراباخ في 2020 فرصا جديدة لتنفيذ هذه الأجندة. ووفقًا للاتفاقيات التي تم التوصل إليها في إطار التسوية، حصلت أذربيجان على حق بناء خط سكة حديد يربط بين منطقة ناخيتشيفان الأذرية المتاخمة للحدود التركية والأراضي الرئيسية لأذربيجان عبر أرمينيا. في المقابل، يتحمل الروس مهمة ضمان أمن القسم الأرمني من السكك الحديدية. بعد الانتهاء من جميع مراحل البناء، يتيح هذا الطريق فرصة ربط أراضي تركيا وساحل بحر قزوين في أذربيجان مع بلدان آسيا الوسطى.
نمت المشاعر المؤيدة لتركيا في كازاخستان بشكل أساسي بفضل عامل التقارب الثقافي واللغوي، فضلا عن دور تركيا في التأثير على مسار الصراع في ناغورنو كاراباخ وتعزيز مكانتها بعد نجاح هذه العملية العسكرية. ينظر جزء من سكان كازاخستان إلى الرئيس التركي رجب أردوغان على أنه زعيم قوي وعادل.
يعد المجلس التركي أشبه بنادٍ غير رسمي للمصالح، ومنصة تنسيق لقادة هذه الدول
من المهم أيضا أن تعلن تركيا مباشرة ومن خلال المنظمات الدولية مثل المجلس التركي عن خطوات لمساعدة أذربيجان في إعادة إعمار المناطق التي عادت تحت سيطرتها بعد الحرب. إن إظهار تركيا استعدادها لتقديم المساعدة في كنف الأخوة يثير حماس وموافقة أذربيجان وعدد من البلدان الأخرى، ويبعث في الوقت ذاته برسالة إلى كازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى مفادها أن أنقرة تمتلك الإمكانات الاقتصادية المناسبة.
لكن هذه المشاعر تتغير حسب الظروف وغير مستقرة. وقد أظهرت الممارسة أن مصالح الدول المختلفة لا تتقاطع رغم تشابه اللغة والثقافة. في العالم الحديث، تعتمد معظم الدول في الغالب على المصالح. وخير دليل على ذلك الأزمة في العلاقات بين أوزبكستان وتركيا التي استمرت لعقود عديدة والمتعلقة باللغة والثقافة، بالإضافة إلى الموقف الرسمي لكازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى المختلف بشكل كبير عن موقف أنقرة فيما يتعلق بنزاع ناغورنو كاراباخ، حيث اتخذت نور سلطان وعواصم أخرى من دول آسيا الوسطى مواقف محايدة معلنين التزامهم بالتسوية الدبلوماسية وعملية التفاوض.
تسعى أنقرة جاهدة للاستفادة بشكل كبير من المشاعر المؤيدة لتركيا وإضفاء الطابع المؤسسي على التفاعل مع كازاخستان. يتم اتخاذ هذه الخطوات اليوم من خلال التعاون في المجال العسكري، مثل تنظيم برامج تعليمية تركية للضباط من كازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى، وعبر مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية الذي علقت عليه أنقرة آمالا كبيرة.
يعد المجلس التركي أشبه بنادٍ غير رسمي للمصالح، ومنصة تنسيق لقادة هذه الدول. لكن التركيز المفرط على التضامن العرقي الطائفي والترويج النشط من طرف أنقرة لجدول أعمال سياسي تركي بحت، مثل المشاركة الكاملة في عمل المجلس التركي لممثلي قبرص الشمالية، يحد من إمكانية العمل الكامل للمجلس. والجدير بالذكر أن ما يسمى بالجمهورية التركية لشمال قبرص معترف بها فقط من قبل أنقرة، ومن غير المرجح أن يكون لدى سلطات كازاخستان، وكذلك الدول الأخرى المشاركة في المجلس التركي، سبب وجيه لدعم تركيا في هذا الأمر.
من المحتمل أن تجعل الطبيعة الاختيارية للتفاعل مع تركيا تعاون نور سلطان أكثر مرونة وإنتاجية، مما يثير تعاطف الدولة الشريكة ويثير داخلها رغبة كبيرة في التعاون وتعزيز الاتصالات
مع ذلك، لا يمكن لأي طرف التقليل من إمكانات مجلس التعاون الدول الناطقة بالتركية، الذي تعقد في إطار عمله محادثات حول الطاقة والتعاون في المجال الإعلامي والثقافي، و تبني موقف مشترك فيما يتعلق بالقضايا الخارجية. ومن خلال المجلس التركي، يجري اتخاذ خطوات لتقريب تركيا من أذربيجان ودول آسيا الوسطى بطرق اقتصادية وإنسانية. تسعى أنقرة جاهدة لبناء “الاتحاد الأوراسي” الخاص بها، الذي لا يزال في مرحلة مبكرة من التطوير. خلال القمة غير الرسمية للمجلس التركي التي عقدت في نهاية مارس/ آذار من العام الجاري، أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقادة الدول الأعضاء الآخرين أهمية استكمال إضفاء الطابع المؤسسي الكامل على المجلس، ومساعدة أذربيجان على استعادة المناطق المحررة، وكذلك الحاجة إلى تطوير الإمدادات إلى أوروبا عبر بحر قزوين على طول ممر النقل الشرقي والغربي.
يعتبر تعاون كازاخستان مع تركيا الاختياري لا الإضطراري بمثابة ورقة رابحة لنور سلطان. من جانب آخر، يعد نفوذ أنقرة الاقتصادي والسياسي في آسيا الوسطى ضئيلا رغم الإمكانيات. وعلى عكس القوقاز ومنطقة البحر الأسود، فإن هذه المنطقة غير مدرجة في “الدائرة الداخلية” لنفوذ أنقرة، كما أن الإمكانات السياسية والاقتصادية لا تسمح اليوم لتركيا ولن تساعدها في المستقبل على اكتساب تأثير قوي على كازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى. وفي حال توفير أنقرة ظروفًا لا تخدم مصالح نور سلطان، يمكن للأخيرة خفض حجم التعاون مع الجانب التركي والتوجه إلى العمل مع لاعبين دوليين آخرين في المنطقة وانتظار تقديم تركيا عروضا ملائمة، دون إلحاق ضرر كبير بنفسها.
على عكس التعاون مع روسيا والصين والولايات المتحدة، من المحتمل أن تجعل الطبيعة الاختيارية للتفاعل مع تركيا تعاون نور سلطان أكثر مرونة وإنتاجية، مما يثير تعاطف الدولة الشريكة ويثير داخلها رغبة كبيرة في التعاون وتعزيز الاتصالات.
المصدر: المركز الروسي للشؤون الدولية