كلما اشتعل الخلاف بين تركيا وأية دولة غربية، تسارع هذه الدولة على الفور لاستخدام الحدث التاريخي كورقة ضغط ضد تركيا، والتلويح للاعتراف وتبني رواية اللوبي الأرميني، الذي يروج لارتكاب الإمبراطورية العثمانية إبادة جماعية بحق الأرمن، إبان الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1917.
وعلى مدار قرن من الزمن، وحفاظًا على العلاقات مع تركيا، بسبب أهميتها الاستراتيجية وعضويتها في حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، فضّل الرؤساء الأميركيون السابقون استخدام تعبير “كارثة عظيمة” لوصف أحداث الصراع التركي الأرميني التاريخي، إلا أن الرئيس الأميركي الـ 46، جو بايدن، غيّر هذا التقليد إثر وصفه للحدث التاريخي بـ”الإبادة الجماعية”.
في المقابل، ندد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ببيان الرئيس الأميركي ووصفه بأنّه مسيَّس، فيما شجب المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، تصريحات بايدن من خلال تغريدة له عبر حسابه على تويتر، كتب فيها “نندد بقوة ونرفض تصريحات الرئيس الأميركي التي تكرر فقط اتهامات أولئك الذين تقوم أجندتهم الوحيدة على العداء تجاه تركيا.. ننصح الرئيس الأميركي بالنظر إلى ماضي (بلاده) وحاضرها”.
وفي رسالة بعثها أردوغان إلى بطريرك الأرمن في تركيا ساهاك ماشاليان، يوم السبت، شدد فيه على عدم السماح بزوال ثقافة العيش المشترك بين الأتراك والأرمن. من جانبه، قال البطريرك ماشاليان: “يؤسفني استخدام بعض الدول لأحداث عام 1915 حاليًّا كأداة سياسية”، وأضاف: “كلما تقدمنا في ملف المصالحة بين الأتراك والأرمن تظهر دول وبرلمانات لتشعل الخلاف مجددًا بدلًا من التهدئة”.
قامت الإمبراطورية العثمانية عام 1915 بترحيل الأرمن المقيمين داخل مناطق النزاع في المناطق الشرقية للإمبراطورية ونقلهم إلى الولايات الجنوبية، وذلك لوقف التقدم الروسي وقطع خطوط الإمدادات التي كان يقدمها الأرمن للقوات الروسية الغازية.
تاريخيًّا
اجتاح التفكك والانهيار بنية الدولة العثمانية المريضة قبل بدء الحرب العالمية الأولى، نتيجة حالة الحرب المستمرة على عدة جبهات في البلقان والقوقاز. واعتبارًا من بداية النصف الثاني من القرن الـ 19، سعت روسيا القيصرية وحلفاؤها من الدول الغربية إلى إشعال نزاعات عرقية داخلية من أجل إضعاف الإمبراطورية العثمانية، حيث قاموا بتغذية الأنشطة الانفصالية الأرمينية، ما أدى إلى تشجيع حركات التمرد الأرميني على المزيد من التطرف والتسلح في وجه المسلمين في مناطق التوتر. ونتيجة لذلك، انضمت الجماعات المسلحة الأرمينية إلى القوات الروسية في مواجهة القوات العثمانية على الجبهة الشرقية بهدف إنشاء دولة أرمينية على الأراضي العثمانية.
ولوقف هذه المحاولات، قامت الإمبراطورية العثمانية عام 1915 بترحيل الأرمن المقيمين داخل مناطق النزاع في المناطق الشرقية للإمبراطورية ونقلهم إلى الولايات الجنوبية، وذلك لوقف التقدم الروسي وقطع خطوط الإمدادات التي كان يقدمها الأرمن للقوات الروسية الغازية. كما تم عزل الأرمن العاملين في الدولة وترحيلهم برفقة آخرين يسكنون خارج مناطق النزاع، وذلك نتيجة الاشتباه بتورطهم في التعاون مع القوات الروسية.
وأثناء عملية التهجير، سعت الحكومة العثمانية لتوفير الاحتياجات اللازمة من أجل مساعدة المرحّلين، ولكن ولظروف الحرب الدائرة ولكثرة قطّاع الطرق، إضافة إلى الجوع والأوبئة، فقد عانى الأرمن كثيرًا وتعرض عدد كبير منهم للموت. ولا ينكر الأتراك عمليات الثأر التي قام بها القرويون الأتراك ردًّا على المجازر التي اقترفتها العصابات الأرمينية المسلحة بحق المسلمين الأتراك في مناطق النزاع وراح ضحيتها الكثير أيضًا، بالإضافة إلى حدوث انتهاكات فردية من قبل بعض الضباط المرافقين لقوافل الترحيل، حيث قامت الحكومة في وقتها بإعدام المتورطين منهم رغم أن الحرب كانت قائمة ولم تخمد بعد.
وعمليات الترحيل لم تقتصر على الأرمن فقط، حيث هلك خلال فترة تفكك الإمبراطورية العثمانية بين عامَي 1864 و1922 ما يقرب من 5.4 مليون من المسلمين ذوي التبعية العثمانية، وتم ترحيل حوالي 5 ملايين من المواطنين العثمانيين عن بلادهم في البلقان والقوقاز، ما جعلهم يضطرون للسفر والاستقرار في مدن الأناضول المختلفة وإسطنبول على وجه التحديد.
لم يقتصر إرهاب العصابات الأرمينية على تلك الحقبة الزمنية فقط، فمنذ سبعينيات القرن الماضي تشن العصابات الأرمينية مثل “ASALA” و”JCAG” هجمات إرهابية تستهدف دبلوماسيين أتراك في السفارات التركية.
المجازر الأرمينية بحق المدنيين الأتراك
عززت كل من روسيا وفرنسا النزعة العرقية لدى الأرمن، ووعدتاهم بإقامة دولة لهم شرق الأناضول، وحرّضتاهم على التمرد على السلطات العثمانية. وبعد قمع السلطان عبد الحميد للثورة الأرمينية، حاولت العصابات الأرمينية اغتيال السلطان عبد الحميد بوضع قنبلة له انفجرت بعد خروجه من مسجد يلديز عام 1905، لم يصَب السلطان بذاك الحادث، ولكن قُتل وأصيب العشرات من المدنيين والجنود.
وبحسب وثائق الأرشيف العثماني، فقد ارتكبت العصابات الأرمينية مجازر بحق المدنيين الأتراك في مدينة قارص راح ضحيتها قرابة الـ 47 ألف شخصًا، أوائل القرن الـ 20. وشهدت المدن القريبة من مناطق الصراع مجازر مشابهة، حيث قتلت العصابات الأرمينية 50 ألف تركي في مدينة أرضروم، و15 ألفًا في مدينة وان، و15 ألفًا في مدينة إغدير، و13 ألفًا في مدينة أرزنجان، وآلاف آخرين في مناطق أخرى.
واستنادًا إلى وثائق أرشيفية أخرى، فهناك 185 مقبرة جماعية في مناطق شرق وجنوب شرق الأناضول. واكتشف عام 1991 في قرية سوباط مقبرة جماعية يرقد فيها 570 تركيًّا، كان قد ماتوا حرقًا، وفي عام 2003 جرى اكتشاف مقبرة جماعية في درجيك وأخرى في كوتشوك تشاتمه، حيث وجدت رفات 30 شخصًا من أصل 183 كانوا قد قتلوا في المكان ذاته.
ولم يقتصر إرهاب العصابات الأرمينية على تلك الحقبة الزمنية فقط، فمنذ سبعينيات القرن الماضي تشن العصابات الأرمينية مثل “ASALA” و”JCAG” هجمات إرهابية تستهدف دبلوماسيين أتراك في السفارات التركية حول العالم، حيث راح ضحيتها أكثر من 31 دبلوماسيًّا تركيًّا إضافة إلى عائلاتهم.
ترفض تركيا ترويج اللوبي الأرميني للأمر على أنه إبادة عرقية قامت به الإمبراطورية العثمانية بحق مواطنيها من الأرمن.
أرمينيا الكيان والدولة
لغرض إقامة دولتهم، وبعد انسحاب القوات الروسية من الحرب عقب نشوب الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، حصلت العصابات الأرمينية على السلاح والمعدات العسكرية التي تركتها القوات الروسية بعد إخلائها للمناطق التي احتلتها من الإمبراطورية العثمانية، واستخدمتها لتوسعة رقعة مناطق سيطرتهم، ولتنفيذ مذابح بحق المدنيين الأتراك.
وفي عام 1920، ونتاجًا للهزيمة في الحرب العالمية الأولى، فُرض على الإمبراطورية العثمانية التوقيع على معاهدة سيفر، التي على إثرها أعطيَ الأرمن الحق بتأسيس دولة لهم شرق الأناضول، إلا أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، ما دفع الوحدات الأرمينية إلى إعادة احتلال مدن تركية على الحدود الشرقية، ليجري دحر القوات الأرمينية خلال حرب التحرير والاستقلال التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في ديسمبر/ كانون الأول 1920.
وبموجب معاهدة غومرو الموقعة عام 1920، رُسمت الحدود الحالية بين تركيا وأرمينيا، ولكون أرمينيا جزءًا من روسيا في تلك الفترة، تعذّر تطبيق شروط معاهدة غومرو، ليجري عام 1921 قبول المواد الواردة في المعاهدة، عبر معاهدة موسكو الموقعة مع روسيا، واتفاقية قارص الموقعة مع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، لكن أرمينيا أعلنت عدم اعترافها باتفاقية قارص، عقب استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991.
تفنيد المزاعم الأرمينية
على الرغم من عدم وجود أدلة أو وثائق تاريخية تثبت قيام الإمبراطورية العثمانية بارتكاب إبادة جماعية بحق الأرمن، إلا أن تركيا تقرّ بأن عددًا كبيرًا من الأرمن والأتراك فقدوا حياتهم خلال الصراع التركي الأرميني إبان الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1917. كما تنفي تركيا بشكل قاطع المزاعم الأرمينية التي تقول إن أعداد القتلى الأرمن قد تجاوز المليون والنصف.
الأمر لا يرقى لمستوى أعلى من مستوى المناكفات السياسية بين واشنطن وأنقرة.
وترفض تركيا ترويج اللوبي الأرميني للأمر على أنه إبادة عرقية قامت به الإمبراطورية العثمانية بحق مواطنيها من الأرمن، بل تصفه بالمأساة لكلا الطرفين. وتصف وثائق الأرشيف العثماني الأمر على أنه اقتتالًا بين جماعات مسلحة وليس قتلًا ممنهجًا من قبل السلطات، وأن معظم الضحايا الأرمن كانوا قد قتلوا خلال الاقتتال بين الجماعات المسلحة، وبسبب المجاعة أثناء عملية التهجير الاحترازية من مناطق النزاع على الحدود الشرقية إلى الولايات الجنوبية داخل الأراضي العثمانية؛ بسبب دعم العصابات الأرمينية للقوات الروسية إبان الحرب بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية.
وفي وقت سابق، اقترحت تركيا تشكيل لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراكًا وأرمنًا، بالإضافة إلى خبراء دوليين، من أجل الوقوف على الأحداث التاريخية وإظهار حقيقة ما جرى وقتها من خلال القيام بأبحاث حول أحداث عام 1915. وفتحت تركيا مكتبتها الوطنية التي تحوي على أكثر من مليون وثيقة تاريخية تتعلق بقضية الأرمن، ودعت تركيا أرمينيا ودولًا أخرى لفتح أرشيفاتها أمام اللجنة التاريخية، وهو ما لم تستجب إليه أرمينيا.
ختامًا
علينا النظر إلى الأمر من جانبه السياسي، فخلال الحملة الرئاسية الخاصة ببايدن العام الماضي، وعد بالاعتراف بالإبادة الجماعية المرتكبة في حق الأرمن، لذلك لم يكن ما قام به الرئيس الأميركي مستغربًا، بل هو وفاء لوعده وتبعًا للقرار الذي تبناه مجلسا النواب والشيوخ الذي اعترف بالإبادة الجماعية، عام 2019.
كما أن اعتراف بايدن لم يأتِ بهدف توجيه اللوم لتركيا، حيث قال الرئيس الأميركي: “ذكرنا لما تعرض له الأرمن هدفه ضمان عدم تكرار ما جرى، وليس توجيه اللوم”، لذلك وعلى الرغم من التنديد الصادر عن الحكومة التركية، إلا أن أنقرة تدرك جيدًا أن الأمر إجراء صوري هدفه إرضاء اللوبي الأرميني داخل الولايات المتحدة الأميركية، ولن يلحقه أي عواقب أو تبعيات، تمامًا مثلما حدث من قبل مع بعض الدول الأوروبية.
في النهاية، الأمر لا يرقى لمستوى أعلى من مستوى المناكفات السياسية بين واشنطن وأنقرة. صحيح أنه وبعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك أصبحت أنقرة وريثة للإمبراطورية العثمانية، إلا أن ذلك لا يعني أن الجمهورية التركية هي الفاعل “المفترض” لهذه الأحداث المحزنة، كما أن أنقرة لم تؤيد مطلقًا هذه الأفعال، ودائمًا ما وصفته بالأمر المأساوي لكلا الطرفين التركي والأرميني، اللذين كانا ضحية للحرب العالمية الأولى حالهم كحال ملايين من البشر من مختلف الأعراق والديانات.