تعج ورش الجلسات السياسية بالحديث عن وجود تراجع في العلاقات بين الإمارات والأردن، بعد إتمام المصالحة الخليجية، واتجاه الأردن نحو المناورة وفق معادلة استغلال أجواء المصالحة التي تزامنت مع وثوب إدارة أميركية داعمة للهدوء والاستقرار والتحرك التشاركي بمعزل عن حالات الاستقطاب، إلا أن الإمارات لا تزال مصممة على السير بالنهج ذاته من استخدام القوة الصلبة المائلة إلى ملامح الغطرسة في التعامل مع الأردن، وكأنها دولة أقل منها أو تابعة لها.
طبيعة العلاقات بين البلدين
بدأت العلاقات بين البلدين في عهد ملك الأردن الحسين بن طلال وأمير الإمارات زايد بن سلطان آل نهيان في ستينيات القرن الماضي، كما تعدّ عمّان من بين أوائل الدول التي اعترفت بالاتحاد الإماراتي فور إعلانه. تطورت العلاقات بين الدولتين فيما بعد حيث ارتبط الجانبان باتفاقيات ثنائية عززت من مسيرة التعاون المشترك في عدد من المجالات وعلى رأسها المجال السياسي، الثقافي، الاقتصادي، التعليمي والصحي.
يعتمد الأردن على ما معدله 4 مليارات دولار تساهم بدفعها الرياض وأبوظبي والكويت، وتتراوح قيمة مساهمة أبوظبي في هذا المبلغ ما بين 1 إلى 1.5 مليار سنويًّا.
يغطي هذا الرقم العجز الأردني السنوي الذي يبلغ متوسطه 4 إلى 4.5 مليار دولار من أصل 14 مليار دولار متوسط الميزانية السنوية. ووقّع البلدان، خلال الأعوام العشرة الماضية، العديد من الاتفاقيات لدعم وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، كان أبرزها: اتفاقية إنشاء لجنة وزارية مشتركة، واتفاقية التعاون الاقتصادي والتجاري والتقني. كذلك، وقّع البلدان مذكرة تفاهم لإقامة منطقة تجارة حرة، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة، وفي عام 2017 تم توقيع 12 اتفاقية ومذكرة تفاهم، لدعم العلاقات الثنائية بين البلدين في المجالات كافة.
وبلغت صادرات الأردن للإمارات خلال عام 2019 ما يقارب 359 مليون دولار تركزت في المنتجات الصيدلانية والآلات والمعدات الكهربائية، مقابل 518 مليون دولار مستوردات من النحاس والبلاستيك ومنتجات الألبان. صعد التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين إلى أكثر من 10% خلال الفترة من عام 2000 حتى نهاية عام 2019، ليصل إلى ملياري دولار.
تهيمن ثلاثة تيارات على مطبخ السياسة الخارجية الأردنية فيما يتعلق بالتعامل مع الإمارات والسعودية تحديدًا.
ليس ذلك فحسب، يعمل قرابة 250 ألف أردني في الإمارات العربية المتحدة، وسط وجود حالة من التكاتف الخليجي -السعودي الإماراتي- في تبني سياسات لمحاربة الإسلام السياسي، والضغط على الدول القريبة في ذلك. ولكن في الآونة الأخيرة تمر العلاقات الإماراتية الأردنية بتقلبات بين الحين والآخر، ما أثّر بشكل مباشر على العلاقات السياسية بين عمّان وأبوظبي، في وقت تحاول فيه قيادتا البلدين السعي للحفاظ على تقاربهما في مرحلة إقليمية حرجة.
كما أن أبوظبي باتت تعتمد استخباراتيًّا على إسرائيل كبديل للأردن الذي كان مصدرًا استخباراتيًّا أساسيًّا لها، لتقلّ أهمية الدور الوظيفي الأردني لدى الإمارات.
في ضوء ذلك عمل الأردن على عرقلة رحلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الإمارات قبل الانتخابات الإسرائيلية، رسالة مفادها أن الأردن لن يقبل تهميشه بعد اليوم في المنطقة. في حين يعوّل على الإدراة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن لقلب الاتجاة الذي كان قائمًا في عهد إدراة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتبني سياسة أكثر توازنًا.
أمام هذه المعادلة، وفي ظل تبني أبوظبي سياسات الأنياب الجارحة للتأثير المباشر في سياسات دول الشرق الأوسط، يجد الأردن في كثير من الأحيان نفسه مضطرًّا للنزول عند سياسات أبوظبي أو التغاضي عن سياساتها الصلبة داخل حدود الأردن.
من الأمثلة العملية على ذلك، اضطرار الأردن لعدم التصعيد في إجراءاته ضد مؤسسة “مؤمنون بلاد حدود” الممولة من أبوظبي لعقد مؤتمرات واستصدار دراسات تحارب الإسلام السياسي، عندما ادعى رئيس المؤسسة في الأردن يونس قنديل، عام 2018، بأنه تعرض للاختطاف والتعذيب، ليتبيّن بعدها كذب ادعائه، وأن هدفه الحقيقي هو إثارة الفتنة المجتمعية بالتزامن مع جدولة مؤتمر حول “أكذوبة سرديات الإسلاميين”. وبسبب حاجته إلى الدول الخليجية، لم يستطع الأردن إغلاق المؤسسة بالكامل كما فعلت المغرب عام 2020، ليظهر رضوخ الأردن أمام سياسات الإمارات الصلبة، ومحاولة التعامل معها وفق منهج التحجيم وليس الحلول الجذرية.
التيارات التي تهيمن على على السياسة الخارجية الأردنية
تهيمن ثلاثة تيارات على مطبخ السياسة الخارجية الأردنية فيما يتعلق بالتعامل مع الإمارات والسعودية تحديدًا.
– التيار الأول: يدعو إلى ضرورة المهادنة والصمت واللحاق بركب السياسات الخليجية. يرى هذا التيار، ذو الأغلبية من الأردنيين الأصل وبعض الفلسطينيين المشترى ذممهم من قبل أبوظبي والرياض، أن الدول العربية المحورية -سوريا والعراق ومصر- لم تعد فاعلة، وأصبحت تركيا وإيران هما الدولتين الإقليميتين المؤثرتين في المعادلة، لذلك أعادت الدول الخليجية تعريف مصالح ومصادر تهديدها، وهي من باتت تهيمن على زمام الملفات الساخنة في المنطقة. لذلك لا بد من مواكبة هذه السياسات، والتسليم بوحدة المصالح الأردنية الخليجية، بعيدًا عن التمسك بمبدأ رعاية القضية الفلسطينية.
– التيار الثاني: يدعو إلى ضرورة الحفاظ على الاستقلالية الوطنية قدر الإمكان، من خلال التمسك بمبادرة السلام العربية تجاه القضية الفلسطينية والاصطفاف مع السلطة الفلسطينية والدول الداعمة لها، والتضحية ببعض الأمور، حرصًا على الأمن الوطني الأردني، حيث أن 63% من المواطنين الأردنيين هم من أصل فلسطيني، وأي مؤشر للتخلي عن قضيتهم سيشعل حالة عدم استقرار.
– التيار الثالث: يدعو إلى اللعب بالحجر والبيضة، أي من خلال ردم الفجوة المتنامية بين الموقف الاستراتيجي الأردني تجاه القضية الفلسطينية والاستقلالية السياسية، والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية التي بدأت بالتصادم مع مصالح الأردن. وعكسَ هذا التيار توجّهه في التعليق على التطبيع الإماراتي والبحريني، حيث لم ينتقده، لكن أكّد على ضرورة أن يُبقي الدعم لحل الدولتين، أيضًا دفع نحو الاتفاق مع العراق ومصر لمد خطوط النفط وتبادل المصالح البينية، ويدفع نحو الانفتاح على تركيا وقطر وروسيا والصين، لكن من دون اصطدام مع أبوظبي والرياض، وإبقاء التعامل الإيجابي معهما، مهما بلغ حجم العقبات. يحظى هذا التيار بتأييد قوي من المخابرات والجيش، إذ يرى هذان الجهازان الأكثر تأثيرًا في مسار السياسات الداخلية والخارجية للأردن، أن التماهي الكامل أو التشدد لا يخدمان المصلحة الوطنية للأردن، لكن اللعب على تناقضات توازن القوى في المنطقة هو الأنجع في التعامل مع تغيُّر أولويات السياسة الإماراتية السعودية، وإن كان ليس بالأمر السهل.
الخلاصة؛ يدرك الأردن اليوم أن الإبقاء على سياسة المواقف الكلاسيكية فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، وتمسُّك الدول الخليجية باستقرار الأردن، لم يعد أمرًا ممكنًا، لاختلاف توجهات الدول الخليجية تجاه القضية الفلسطينية، وسعي الإمارات، بعد عام 2013، للعب دور إقليمي يوجّه سياسات الدول في المنطقة حسب طموحها، وبالتالي لم يعد هناك سياسة خليجية متحدة تحت القيادة السعودية. أمام هذه التطورات، دفع جهازا المخابرات والجيش الأردنيان صوب اتباع سياسة التصدي الناعم للسياسات الإماراتية السلبية تجاه الأردن، لكن من دون تصادم مباشر.