كثيرة هي المبادرات الصحية في العراق التي أسفرت عن بناء العديد من المراكز الصحية والمستشفيات الكرفانية لمواجهة جائحة كورونا، ورغم تسهيل هذه المستشفيات والمراكز إجراءات العلاج في البلاد وخاصة ما يتعلق بمرضى فيروس كورونا، إلا أن الحادث الأخير في مستشفى ابن الخطيب في بغداد وموت أكثر من 82 شخصًا حرقًا يطرح العديد من التساؤلات عن شروط السلامة في هذه المستشفيات، خاصة بعد تبرع العتبة الحسينية في النجف لبناء مستشفى ملاصق للمستشفى المنكوب، والذي دبت النيران فيه كذلك.
أعداد المستشفيات الكرفانية
يبلغ عدد المستشفيات الكرفانية في عموم محافظات العراق باستثناء إقليم كردستان قرابة 45 مستشفى، وذلك وفق مصدر مسؤول في وزارة الصحة العراقية (فضّل عدم الكشف عن هويته)، لافتًا إلى أن مصطلح المستشفيات الكرفانية يشمل جميع المستشفيات التي بنيت دون الاعتماد على المعايير العالمية في بناء المستشفيات، والتي تتضمن استخدام مواد خاصة في البناء ومراعاة شروط السلامة الصحية والدفاع المدني.
ويضيف المصدر أن المستشفيات الكرفانية في البلاد بدأت تزامنًا مع العمليات العسكرية التي بدأتها القوات العراقية لاستعادة محافظة نينوى من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، حيث إنه وبسبب مساحة محافظة نينوى الكبيرة ودمار غالبية المستشفيات الرئيسية، لجأت وزارة الصحة إلى اعتماد المستشفيات الكرفانية كبديل مؤقت للمستشفيات النظامية التي خرجت عن الخدمة.
وكانت جهات عديدة قد شاركت في التطوع لبناء العديد من المراكز الصحية والمستشفيات الكرفانية، حيث يشير موقع العتبة الحسينية في العراق التابعة لحوزة النجف (جنوب العراق) أن العتبة نفّذت 24 مستشفى كرفانيًّا ومركزًا صحيًّا في 14 محافظة عراقية (باستثناء إقليم كردستان).
كما أن مبادرة محافظة الأنبار تضمنت بناء 5 مستشفيات كرفانية باتت تسمى محليًّا بمستشفيات الحلبوسي، نسبة إلى رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي الذي افتتح هذه المستشفيات، حيث افتتحت أولاها في العاصمة العراقية بغداد ثم في محافظات الجنوب العراقي إضافة إلى محافظة نينوى (شمال العراق).
ويضاف إلى الأعداد السابقة المستشفيات الكرفانية الميدانية التي تولت بناءها وزارة الصحة العراقية والمنظمات الدولية في محافظة نينوى، عقب استعادتها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في يوليو/ تموز 2017.
وعن أهداف هذه المستشفيات الكرفانية، يرى الباحث السياسي العراقي رياض الزبيدي أن أهداف إنشاء مثل هذه المستشفيات من قبل أحزاب سياسية وعتبات دينية لا يمكن وصفها إلا بالسياسية، حيث إن رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي بات مؤثرًا في المشهد السياسي العراقي، ويسعى من خلال هذه المستشفيات لتعزيز نفوذه السياسي.
أما عن العتبة الحسينية التي شيدت 24 مستشفى ميدانيًّا حتى الآن، فيضيف الزبيدي أن الغاية من هذه المستشفيات نشر المذهب وتعزيز ثقة الشعب بمرجعية النجف الدينية، التي تراجع نفوذها بسبب ما شهده العراق خلال العامين الماضيين من تظاهرات شعبية أدت إلى مقتل وإصابة قرابة 22 ألف عراقي، بحسبه.
ويعتقد الزبيدي أنه لو لم تكن الأهداف سياسية لتكفلت تلك الجهات بمساعدة وزارة الصحة العراقية في تعزيز المستشفيات الحكومية بالأجهزة الطبية التخصصية والأدوية والمستلزمات الطبية.
افتقاد للسلامة
أكثر من 30 مستشفى كرفانيًّا في العراق أنشأت خلال الـ 14 شهرًا الماضية بعد تفشي جائحة كورونا، وعلى الرغم من أنها ساعدت كثيرًا في حل أزمة تمثلت بقلة عدد الأسرّة المتوفرة لاستيعاب المرضى من ذوي الحالات الخطرة، إلا أن العديد من المراقبين يشيرون إلى افتقاد هذه المشافي لأبسط وسائل السلامة.
وكان العراق قد شهد الأحد الماضي 25 أبريل/ نيسان كارثة صحية في مستشفى ابن الخطيب في العاصمة العراقية بغداد، بعد أن تسبب انفجار في أسطوانات الأوكسجين المخصصة لمرضى كورونا في مقتل 82 مريضًا وإصابة 110 آخرين في حصيلة غير نهائية.
وكشفت التحقيقات الأولية عن أن مستشفى ابن الخطيب ورغم كونه مستشفى قديمًا، إلا أنه يفتقر لإجراءات السلامة في ما يتعلق بأجهزة الكشف عن الحرائق وإطفائها، في بلد يشهد ومنذ عقود تدهورًا مستمرًّا في واقعه الصحي.
من جانبه، يقول المهندس يزن توفيق في حديثه لـ”نون بوست” إن المؤسسات الصحية في العراق (الحكومية والخاصة) تفتقر لأبسط معايير السلامة، سواء كانت الصحية أو المدنية المعروفة بالدفاع المدني والإنذار المبكر.
ويعزو توفيق -الذي يعمل مهندسًا للكهرباء ومختصًّا في نصب أجهزة الإنذار المبكر وأنظمة المراقبة- تدهور وسائل السلامة في المؤسسات الصحية إلى الفساد الكبير الذي يعتري وزارة الصحة، لافتًا إلى أن العقود الحكومية في هذه المؤسسات غالبًا ما تحال لشركات خاصة مقربة من التيار الصدري المسيطر على الوزارة منذ أكثر من 12 عامًا.
ويؤكد توفيق على أن المديريات العامة في وزارة الصحة تعاني من الترهل الوظيفي وقلة الخبرة، خاصة أن المناصب الحساسة في الوزارة دائمًا ما تذهب إلى المتنفذين والتابعين للأحزاب، لافتًا إلى أن المؤسسات الصحية الخاصة (الأهلية) تتبع لوزارة الصحة من حيث المراقبة والإشراف، وبالتالي تكون الوزارة مسؤولة عن جميع المستشفيات في البلاد.
وعن المستشفيات الكرفانية في البلاد ووسائل السلامة المتاحة فيها، كشف توفيق عن أن هذه المستشفيات تفتقر لجميع وسائل السلامة والمراقبة باستثناء كاميرات المراقبة التي باتت متوفرة حتى في البيوت والشقق السكنية، وبالتالي إن احتمالية تكرر حادثة مستشفى ابن الخطيب واردة وبقوة، خاصة أن جميع المستشفيات الآن باتت تستخدم قناني الأوكسجين الطبي لمعالجة الحالات الطارئة لفيروس كورونا، وأن هذه القناني عبارة عن قنبلة موقوتة في ظل غياب منظومات الأوكسجين الطبية المركزية المسيطر عليها، بحسبه.
وما يزيد الطين بلة بحسب توفيق، أن المستشفيات الكرفانية تعد عالية الخطورة في مواجهة أي حريق حتى لو كان صغيرًا، إذ أن بناءها يعتمد على تركيب ألواح الحديد والفوم المعروف بـ”الساندويج بنل” الذي يعد سريع الاشتعال ويمكن أن تنتقل النيران من خلاله بسهولة، لافتًا إلى أن جميع المستشفيات الكرفانية مبنية بهذه الألواح مع عدم توفر أي نظام إنذار وإطفاء للحرائق.
في غضون ذلك، أكد علي غازي خبير السلامة ومعدات الحريق في بغداد، أن جميع المستشفيات العراقية معرضة لخطر مشابه لخطر مستشفى ابن الخطيب إن لم يكن أكبر.
ويكشف غازي -الذي أسهم في تأسيس خطوط الإنذار ضد الحريق في أحد مستشفيات محافظة بابل- أن العقود الحكومية تمنح بشكل مثير للشبهات لشركات خاصة، مبينًا أن الفساد موجود في كل تفاصيل العقود الحكومية وعقود أجهزة الإنذار وملف إطفاء الحرائق ليس استثناء من ذلك، بحسب تعبيره.
ويروي غازي حادثة كان شاهدًا عليها في إحدى المحافظات، حيث طُلِبَ من الشركات المجهزة عمولة تصل إلى 33% من قيمة العقد كرشوة مقابل إحالة عقد التجهيز الحكومي، ما أدى إلى انسحاب الشركات الرصينة حتى لا تتعرض للخسارة وفقدان سمعتها في سوق العمل، بحسبه.
ويشهد العراق سنويًّا عشرات الحوادث المرتبطة بالحرائق، في وضع أنهك فرق الدفاع المدني العراقي، إذ وفي ذات الليلة الدامية التي شهدتها بغداد في احتراق مستشفى ابن الخطيب، التهمت النيران عشرات المحال التجارية في سوق شعبي وسط مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين)، وفي اليوم التالي لذلك شهدت مدينة الموصل العراقية شمال البلاد اندلاع نيران هائل في مصنع لإعادة تدوير الورق المقوى، فضلًا عن أن العاصمة بغداد تشهد سنويًّا احتراق العديد من المؤسسات الحكومية بسبب غياب معايير السلامة في المؤسسات العامة والخاصة.