إن تصريحات سامية عبّو، القيادية في حزب التيار الديمقراطي والنائبة بمجلس نواب الشعب، يوم الاثنين 27 أبريل/ نيسان 2021 لإذاعة الديوان إف إم، والتي دعت فيها رئيس الجمهورية إلى إنزال الجيش للشوارع واعتقال من اعتبرتهم “الفاسدين” من عامة المواطنين والسياسيين، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية بحجة إنقاذ البلاد عبر تطبيق قانون الطوارئ، هي تصريحات كارثية لكنها لم تكن صادمة.
إنها للأسف ليست تصريحات صادمة لكونها سبقتها تصريحات زوجها محمد عبّو، مؤسس الحزب وأمينه العام السابق، المنادية بالإجراءات الغريبة نفسها بالاعتماد على حل عسكري مناقض للدستور وللقانون وللديمقراطية. حزب يسمي نفسه “الديمقراطي”، وأصبح منذ مدة ينظّر لكون الديمقراطية لم تعد هي الحل، وأن عسكرة البلاد والإجراءات خارج الدستور والقانون والمؤسسات والقضاء أصبحت هي الحل.
إن المنهج الذي اتخذه بعض قيادات حزب التيّار الديمقراطي هو مخزٍ ومدهش. فبحجة فساد المنظومة الحاكمة، يطلقون النار على الديمقراطية برمتها، وينظّرون لتدخّل الجيش عبر سلطة مزعومة للرئيس بزعم مشروعيته وشعبيته، متناسين أن رئيس الجمهورية انتخبه الشعب التونسي أصلًا كرئيس مدني في نظام ديمقراطي، وليس ليقود نظامًا عسكريًّا يستعمل فيه القوات المسلحة لاعتقال خصومه (ومنافسي التيار) وتحييدهم من الحياة السياسية، خارج الدستور والقانون والقضاء والعرف السياسي السليم.
يبدو أن التيار الديمقراطي وبعد أن أعيته الحيلة في كسب السلطة عبر الانتخابات، وتوجّس سقطته المريعة في الانتخابات القادمة، بعد أن فقد رصيده نتيجة الأخطاء الكارثية التي ارتكبوها في السنة والنصف منذ الانتخابات الماضية، والتي حصل فيها محمد عبّو على 3.9% فقط من الأصوات، متذيّلًا القائمة وراء الصافي سعيد وعبير موسي وسيف الدين مخلوف ولطفي المرايحي، دون ذكر الأوائل في السباق، وبعد ستة أشهر من الأداء الكارثي في السلطة إبان حكومة الفخفاخ الذي خرج بفضيحة تضارب مصالح وشبهات فساد نزّهه منها التيار حامل لواء محاربة الفساد، أصبح التيار الديمقراطي بعد ذلك يحبذ أن يتم تصفية جميع منافسيه السياسيين من شخصيات وأحزاب بضربة سحرية شاملة عبر “العسكر الرئاسي”، حتى يجرون وحدهم في السباق، فيفوزون بالمرتبة الأولى، إن فازوا رغم ذلك.
ما من قانون في البلاد يعطي للجيش حق اعتقال المواطنين المدنيين بأي صفة كانت وبأي تهمة كانت.
اللافت للانتباه أن سامية عبّو وبخلاف تنظيرها لتدخّل الجيش في السياسة، والعمل خارج الدستور والقانون والقضاء وقواعد الديمقراطية، إما سقطت في الجهل وإما انتهجت الكذب قصدًا وإما أنها مزجت بين الجهل القانوني والسياسي (وهي النائبة والسياسية والمحامية) وبين تزييف الحقائق، لتتفرز موجة من الدجل الغريب.
فرغم أن الصحافي المحاور لها محمد اليوسفي والمحلل الحاضر في الحوار لفت نظرها إلى أن الأمر المنظِّم لحالة الطوارئ الصادر في 26 يناير/ كانون الثاني 1978 هو غير دستوري، وأن رئيس الجمهورية في كل الحالات لا يمكنه اعتقال المواطنين ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، وأنه لا يملك صلاحيات وزير الداخلية والنيابة العمومية في ذلك حتى بقانون الطوارئ؛ إلا إنها أصرت على اعتبار الأمر المذكور وطلباتها دستورية وقانونية، رغم أن الأمر عدد 50 المنظِّم لحالة الطوارئ والصادر بتاريخ 26 يناير/ كانون الثاني 1978، أعطى صلاحيات الإيقاف الاستثنائي والوضع تحت الإقامة الجبرية حصرًا لوزير الداخلية دون غيره، لا لرئيس الجمهورية ولا لرئيس الحكومة، ولا للجيش الوطني بأيّ شكل. وأعطى أيضًا صلاحيات معينة أخرى للولاة وللنيابة العمومية وللأمن دون رئيس الجمهورية.
كما أنه ما من قانون في البلاد يعطي للجيش حق اعتقال المواطنين المدنيين بأي صفة كانت وبأي تهمة كانت.
وحتى في فترة الفوضى والوضع الاستثنائي بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011، وانتشار الجيش التونسي في المدن والشوارع مقابل غياب قوات الأمن، فإن الجيش الوطني وفي ممارساته لمهام حفظ النظام والأمن والتصدي لأعمال التخريب والنهب والسرقة والعنف التي وجد نفسه أمامها كأمر واقع، كان يقوم بمجرد إيقاف المواطنين في حالة تلبّس وتسليمهم فورًا إما للأمن وإما للقضاء المدني.
وحتى يوسف الشاهد في تطبيقه قانون الطوارئ في حملة الاعتقالات سنة 2017 في حملته المزعومة على الفساد، فإنه لم يعتمد على الجيش وطبّق القانون بأن جعل أوامر الإيقاف والإقامة الجبرية تصدر عن وزير الداخلية طبق أمر 1978، وتمّت إحالة الجميع على القضاء لاحقًا.
أليس في حزب التيار الديمقراطي عقلاء يصححون المسار ويعلنون بدورهم البيان رقم واحد داخل الحزب.
هنا تأتي الكذبة الأخرى التي سوقتها سامية عبّو، إذ زعمت أن التيار الديمقراطي ساند في البداية حملة يوسف الشاهد على الفساد واعتقاله بعض المواطنين ووضعهم تحت الإقامة الجبرية بمقتضى قانون الطوارئ، طالما كان ذلك في مصلحة البلاد ويخدم محاربة الفساد، قبل أن يتضح حسب قولها زيف حملته تلك وانحرافها.
في حين أن ما نذكره هو أن التيار الديمقراطي وسامية ومحمد عبّو عارضوا حملة يوسف الشاهد بشدة منذ البداية، وكان موقفهم حينها مبدئيًّا بدعوته إلى المرور عبر الآليات الشرعية، أي عبر القضاء، لاعتقال المواطنين حتى لو تعلقت بهم شبهات فساد، مستنكرين اللجوء إلى إجراءات استثنائية عبر قانون الطوارئ.
لكنّهم اليوم يناقضون أنفسهم بأنفسهم، ويزيفون الحقائق، ويشوهون حتى مواقفهم المبدئية الإيجابية السابقة.
إن آل عبو وبعض تلاميذهم من قيادات التيار الديمقراطي يعتقدون أنه يمكن لهم استعمال رئيس الجمهورية قيس سعيّد كجسر يعبرون عبره إلى السلطة من جديد، وإلى هزم خصومهم ومنافسيهم السياسيين بعد أن أعيتهم الحيلة في التفوق عليهم عبر صندوق الاقتراع، وأعجزتهم الانتخابات، وضربهم اليأس مما هو قادم ومن مستقبلهم السياسي.
وإنهم يتخيلون أن النفخ في صورة الرئيس سعيّد وتشجيعه على الإجراءات العسكرية حتى خارج الدستور والقانون والعرف السياسي الديمقراطي، هو العصا السحرية التي ستحقق لهم المعجزة التي ذاقوا بعضها لأشهر بتحول التيار الديمقراطي إلى الحزب الحاكم، وأمينه العام محمد عبّو إلى الرجل الثاني في الحكومة برصيد 6.5% فقط في الانتخابات التشريعية.
ما دام محمد وسامية عبّو أصبحا من أنصار الانقلابات والبيان رقم واحد والإجراءات الراديكالية، أليس في حزب التيار الديمقراطي عقلاء يصححون المسار ويعلنون بدورهم البيان رقم واحد داخل الحزب، ليعيدوه إلى طريق الديمقراطية عوض المشي في زنقة “العسكروقراطية”؟