اعتدنا في مجتمعاتنا الشرقية أن نهلع كلما لاحت لنا كلمة التمرد، فقد تم زرع الخوف في نفوسنا منها بشدة، وباتت تصور لنا كل أنواع الشرور في هذا العالم، بدءًا من العقوق ونكران الجميل للوالدين، مرورًا بالفواحش والإدمان، وانتهاءً بالإلحاد والجرائم، وما من الممكن أن يليها.
التمرد ليس أمرًا سلبيًّا دائمًا
لا أعتقد أن شابًّا لم يمارس التمرد يومًا في منزله أو محيطه، حيث من الممكن أن يقود ثورة ما في هذا العالم أو أن يغير مجتمعًا ما أو أن يكون من المؤثرين.
ولا يمكن أن نتجاهل أن الأنبياء كانوا أهم من تمرد على مجتمعاتهم ومحيطهم وحتى أسرهم، وأن أتباع الأنبياء كانوا كذلك، ولا شك أنها كانت أجمل وأنبل الثورات التي انتفضت على مستنقعات المجتمعات الراكدة والآسنة.
لهذا علينا بداية أن نؤمن أن هناك تمردًا إيجابيًّا لا يجب أن نغض الطرف عنه أو نتناساه، وأننا كآباء لا ينبغي أن نشعر بالتوتر عندما تلوح بوادر التمرد لدى أولادنا، بل ننظر إليها بعين مختلفة، وبنظرة هادئة وواعية.
من زرع فينا عقدة الذنب؟
غالبًا ما ينظر المجتمع إلى الشاب المتمرد على أسرته أو مجتمعه على أنه لم يتلقَّ تربية كافية وصحيحة، وهذا خطأ كبير كما أسلفت، فالمشكلة دائمًا أن المجتمع هنا يلقي باللوم على الأهل، ويعتبر هذا التمرد تقصيرًا منهم بحق أولادهم أو أنهم اعتمدوا أساليب خاطئة أدت إلى هذه النتائج المروعة، وهذا هو السر الذي يجعل التمرد وصمة عار على جبين الآباء أولًا، وهو ما يشعرهم بالهلع والامتعاض، وما يجعله وصمة أيضًا في مسيرة حياة الأبناء مستقبلًا، مع العلم أنه العكس تمامًا في كثير من الأحيان.
فالمتمرد الإيجابي أو المتمرد على الأخطاء أو الضغوط التي يرفضها هو شخص حر، أمن العقوبة وتلقى تربية سليمة تمامًا أهّلته للمخاطرة وانتزاع ما يراه حقًّا أو رغبةً له، وهذا يحسَب للآباء بالتأكيد لأنهم عرفوا كيف يخرجون للعالم شخصية مستقلة حرة، بل مقاتلة أيضًا، بعيدًا عن تلك الشخصيات المسالمة والمستسلمة التي يسهل قيادتها في كل الاتجاهات طبعًا، بينما يكون المتمرد محصنًا عندما يقتنع.
هؤلاء المتمردون الإيجابيون إذًا هم ثروتنا الحقيقية، لأن التغيرات بكل أنواعها تحتاج إليهم وتعتمد عليهم بشدة.
لم يكتَب لقصة ابن سيدنا نوح النهاية السعيدة عندما رفض الصعود للسفينة معه، ونحن بلا شك لن نتهم النبي بالتقصير في تربيته لابنه.
“الأنبياء أولاد متمردون أو آباء لأولاد تمردوا”، هذه العبارة كفيلة بنسف كل ما يذكر عن كون التمرد أمرًا سلبيًّا محضًا، فكل نبي كان ولدًا متمردًا على مجتمع رأى فيه الأخطاء ورفض ما فيه منها.
ونعلم بالتأكيد حكاية أولاد سيدنا يعقوب، وهو النبي ابن النبي، وكيف تآمروا على أخيهم النبي يوسف عليه السلام أيضًا، مخالفين بما فعلوه أبسط درجات الأخلاق والمروءة، ثم وبقدر من الرحمن خُتمت القصة بخاتمة سعيدة أرضت جميع الأطراف وأوّلهم الأب المكلوم.
ولم يكتب لقصة ابن سيدنا نوح النهاية السعيدة عندما رفض الصعود للسفينة معه، ونحن بلا شك لن نتهم النبي بالتقصير في تربيته لابنه أو القسوة المبالغ فيها معه، كما يحلو للمتنطعين أن يتكلموا أو يكتبوا ويعمموا، متهمين الآباء دون وعي ودون تمييز ودون إدراك لما يفعله هذا التعميم في القلوب أولًا، وفي نظرة الأهل لأنفسهم ولأولادهم ثانية.
المهم أن نؤدي ما علينا نحو أولادنا دون أن ننصهر معهم
لا أعلم بالضبط متى أصبح التفاني ونكران الذات لأجل الأولاد أمرًا يستحق المديح، ومن الذي أوهمنا أننا إن خسرنا حياتنا وسعادتنا ومتعتنا وأحلامنا سيكون أولادنا ممتنين لنا، ولكم أن تتخيلوا كيف ينشأ طفل في حضرة والدَين مستمتعَين سعيدَين بأحلامهما وإنجازاتهما، وما يترتب على هذا من هدوء وسكينة في شخصيتيهما، الذي سينعكس على الأولاد رضًا وسعادة وقدوة رائعة رائقة.
ولنقارنه بطفل تتم معاملته مثل روبوت، في أحضان والدَين مترصدَين ومتابعَين لكل حركة وهفوة، ويعتبران نجاح الولد أو فشله هو نجاح أو فشل شخصي لهما.
ولا أعلم كيف يمكن حينها أن نقدر كمّ العبء الذي نضعه على كاهل هذا الطفل الذي تخلينا لأجله عن سعادتنا وجعلناه مصدرًا وحيدًا لها، وكمّ الإحباط والألم الذي سيعاني منه الوالدان اللذان تخليا عن حياتهما طواعية لأشخاص آخرين وإن كانوا أولادهما وكيف ستكون عليه نفوسهما.
أنا لا أعني بالتأكيد ألا يؤدي الآباء واجباتهم كاملة نحو أبنائهم، وإنما ما استنكره حقًّا هو أن يصبح الأولاد محور حياة آبائهم، ويكون التركيز من الوالدين فقط على الأبناء، متناسيَين أو متجاهلَين حياتهما الشخصية ومتعتهما وأهدافهما القديمة وطموحاتهما وأحلامهما، وحتى الحب والعاطفة فيما بينهما، وهذا سر التوتر وما يتبعه من كآبة، ومن ثم القسوة المفرطة، والشعور الموجع بالخذلان عند أول بادرة للتمرد من الأولاد ومحاولتهم الخروج من الشرنقة.
لا يجب أن يهمل الآباء أبدًا عنايتهم بأولادهم وتربيتهم التربية الصالحة الرشيدة، فيعرّفوهم إلى الخالق عز وجل والهدف من وجودهم في هذه الدنيا ومصيرهم بعدها، دون تقصير طبعًا في تعليمهم أصول العقيدة والعبادات، وبالتأكيد مساعدتهم للتعود عليها.
ولا يهمل الآباء تعليم أولادهم، وصحتهم الجسدية والنفسية، ويتركوا لهم بعد هذا حرية التجارب وحرية ارتكاب الأخطاء مع تحملهم الكامل للنتائج.
إنما لا ينسيان أن لهما حياة يجب أن تستمر، وأنهما سيحاسبان عليها، وأن الاستمتاع وتحقيق الأهداف والطموحات والأحلام والعناية بالنفس من مسببات السعادة التي ستنعكس بالتأكيد على جودة الحياة بشكل عام، وسيكون للأولاد نصيب رائع منها.
تمرد الأولاد على أسرهم هو بداية لتمرد أكبر على كل ما لا يرضون به في هذا العالم.
ضيوف وهدايا ربانية
تأثرت كثيرًا بعبارة وردت على لسان شخصية من مسلسل تابعته، قالت فيها: “إننا في الأغلب نعتبر الأولاد ضمانًا اجتماعيًّا لنا”، وكان حديثها عن أسباب الإنجاب بشكل عام.
للأسف هذا ما يحصل، أغلبنا إن لم نكن جميعنا نتوقع من هذا الطفل الذي قدمنا له حياتنا ووقتنا ومالنا وجهدنا أن يكون الضمان الاجتماعي الخاص بنا، فيحملنا في كبرنا كما فعلنا معه وهو صغير، ومن ثم تبدأ الصدمات عندما يبدأ التمرد مثلًا، وعندما نجدهم يعاتبوننا على ما قدمنا، وعلى نسياننا لأنفسنا وإهمالنا لها، أو يدّعون أن هذه مسؤولياتنا وواجباتنا ما دمنا نحن قد قررنا أن ننجب.
ومن المهم أن لا نجعل هذا يحدث أبدًا، فلا نجعل أولادنا عبئًا على حيواتنا، وفي الوقت نفسه لا نكون نحن عبئًا عليهم، وتأتي هذه النتيجة بالتأكيد عندما ندرك أولًا طبيعة مهمتنا وواجبنا نحوهم وواجبنا تجاه أنفسنا، دون مبالغة في أي اتجاه يذكر.
يعتبر التمرد أمرًا إيجابيًّا لعدة أسباب:
أهمها أن تمرد الأولاد على أسرهم هو بداية لتمرد أكبر على كل ما لا يرضون به في هذا العالم، وبالتالي هو ما يؤهلهم لقيادة العالم مستقبلًا. كما أن ممارستهم للتمرد علينا كأهل ونحن أرحم بهم سيكون درسًا لينًا وسهلًا، يشجعهم فيما بعد على التمرد الأهم والأكبر في هذا العالم ضد الظلم الأكبر والقضايا الكبرى.
ولأن التمرد ليس نكرانًا لفضل الأهل مطلقًا، بل حالة من الرفض وتحقيق الذات والاستقلالية، وهي أمور إيجابية بكل تأكيد. إذ إن التمرد أول خطوة يخطوها الأولاد نحو الصلابة وأول استعداد لهم لخوض معاركهم مع الحياة، وهي مهارة سنسعد بأننا جعلناهم يكتسبونها مستقبلًا.
وهذا يعني أننا أنشأنا شخصية حرة لا تقبل إلا بما يرضيها ولا تهان، ولا يمكن استغلالها بغير رضاها، وإن حصل فستستفيق ولن تتردد في التمرد من جديد. ويعني كذلك أن الطفل المتمرد طفل يعيش في بيئة آمنة لا يخاف العقوبة ولا يخشى أن يكرهه أهله، فهو يثق بهم ويثق بعاطفتهم.
التوازن هو الحل دومًا
يمكننا أن نؤكد أن التوازن هو الحل لكل مشكلة من مشكلاتنا الاجتماعية، ومشكلة العلاقة المتأزمة بين الأهل والأولاد يلزمها التوازن من الأهل أولًا، وفي عدة أمور أذكر منها:
ألا ننسى أن في هذا الكون قوانين يجب أن نحترمها، فنحن مسؤولون مثلًا عن إمداد أولادنا بالأدوات المهمة لمتابعة الحياة وبناء الأحلام، إنما لسنا مخولين أبدًا بتحقيق أحلامهم وبناء حياتهم على حساب حياتنا، عندما نتدخل في قوانين هذا الكون علينا أن نستعد للألم وللفشل.
أن نكون متوازنين في العطاء، فلا منع يصنع شخصيات محرومة قاسية لا تشعر بالأمان ولا الكفاية، ولا عطاء دون حساب يصنع شخصيات كسولة اتكالية تعتقد أنها تستحق ما يقدم لها، دون أن يكون عليها سعي أو بذل، ثم تخرج للحياة دون أن تمتلك أدوات النجاح.
وأن نتذكر دومًا أن الأولاد ضيوف في حياتنا، وأن لهم في النهاية حياةً منفصلةً وقدرًا منفصلًا، وأن لنا حياةً كانت قبلهم يجب أن تستمر بوجودهم معنا وبعد أن يغادرونا نحو بيوتهم السعيدة، فلا ننساها ونهملها ثم نحاسبهم على ضياعها، بل نستمتع بهم ومعهم دون إفراط ولا تفريط.
وعندما لا نحمل حياتنا وأحلامنا وصحتنا وقوتنا لن نشعر بالانكسار الذي يولده تمرد الأولاد علينا، أو حتى غيابهم الإجباري عنا عندما تأخذهم الحياة ومشاغلها وهمومها بعيدًا.
دعونا إذًا نعود للحياة الصحية والصحيحة والمتوازنة لنربي أطفالنا بسعادة بعيدًا عن التوتر، ولننظر بعين المستمتع إلى تمردهم علينا.